“يوم التأسيس”: آل سعود والوهابية تزاوج لم يعد مرغوبًا
العين برس / تقرير
حسن الطالب
من البديهي أن يكون لكل شعب في دولة ما يوما للاستقلال أو يوما للوحدة كمسار تاريخي طبيعي، لكن أن يغيب الشعب ويحيي المحتل ذكرى احتلاله تحت مسمى التأسيس لهو التشويه بعينه .
لم يكن “للسعودية” وجود قبل القرن الثامن عشر، لكن تأسيس المشروع السعودي بشكله الحالي، كما هو معروف، يعود إلى أول لقاء جمع محمداً بن سعود ومحمداً بن عبد الوهاب؛ فالأول حتى تلك اللحظة لم يكن إلا حاكماً للدرعية بالمفهوم المشيخي، وضمن نظام قبلي عرفته نجد منذ مئات السنين، فكان وصول محمد بن عبد الوهاب إلى الدرعية، فاراً من منطقة العيينة، لحظةً فارقةً في تاريخ نجد، إذ شهدت الدرعية تأسيس المشروع الوهابي بتحالف بين الرجلين، شمل تفاهمات الحكم بجوانبه السياسية والاقتصادية والدينية والعسكرية والأمنية.
عند تلك اللحظة، بدأ المؤرخون، مثل ابن غنام وابن بشر، بتدوين بداية تاريخ “الدولة السعودية”، إلى درجة أن من يقرأ أحداث بدايات “الدولة”، كما جاء في مؤلفات أولئك المؤرخين، سيجد حضور المُلا محمد بن عبد الوهاب – هذا ما كان يُطلق عليه حينها – وتأثيره في إدارة المشروع الذي بدأ بالتوسع باستخدام القوة المفرطة والخطاب الديني المتشدد ضمن رؤيته للواقع في تلك المرحلة، فبدأ بما أسماه محاربة الشرك والضلال، ودخلت نجد، ومن ثم مناطق أخرى من الجزيرة العربية، في دوامة من الصراع الذي طغت عليه دماء ضحايا السيوف الوهابية وأعمال نهب كلِّ ما ليس وهابياً وسلبه.
وفي هذا الإطار، يعلق القيادي في “لقاء” المعارضة على جدلية التأسيس الذي سبقت قيام “الدولة السعودية الثالثة” وبالتحديد المحاولة الأولى في العام 1727، بالقول أن “تعمّد بناء ذاكرة تاريخية لدولة، هي بنيت في الأصل بذاكرة عقيمة، خصوصاً حين يراد لها أن تكون مكوّناً جوهرياً في هوية وطنية لم تولد بعد، يعني أن الهدف المأمول تحقيقه يقع في مكان آخر، لا علاقة له بالهوية.
فمن غير المنطقي أن يتّخذ تأسيس مدينة الدرعية، مهما بلغت أهمّيتها التاريخية للفاتحين مناسبة وطنية، وعلى الشعب وبجميع مكوّناته الاحتفال به كل عام. لا ليس الأمر على هذا النحو، فإننا نعيش لحظة تاريخية يعلن فيها الأمير انفصاله الرسمي والكامل عن الشيخ”. موضحا “هناك معركة تدور رحاها على الماضي، أي على الذاكرة التاريخية التي تشكّلت حول مشروع دولة بنيت بجناحين: آل سعود وآل الشيخ.
“يوم التأسيس”: آل سعود والوهابية تزاوج لم يعد مرغوبًا
ومن الإجحاف ونكران الجميل من جانب آل سعود نفي أو حتى تخفيض شأن دور الوهابية في بناء الدولة السعودية”. ويبدو أنَّ إلغاء دور محمد بن عبد الوهاب في تأسيس الدّولة سيشمل كذلك عملية تعديلٍ على أحداث “الدولة السعودية الأولى”، ولا سيما ما يتعلّق بغزوات النهب والسلب، وما قامت عليه الحركة التوسعية السعودية من إرهاب الجميع بالمجازر التي طالت الآلاف من أبناء نجد، ومن ثم الحجاز، وكذلك الأحساء، وصولاً إلى مجازر العراق، وتحديداً الهجوم على كربلاء في 1802.
لقد تعاملت الوهابية مع أبناء الجزيرة العربية بوصفهم مشركين يتوجب عليهم إعلان إسلامهم مجدداً. على سبيل المثال، عندما وصلت الغزوات الوهابية إلى اليمن، وتحديداً إلى عسير تهامة، وقع العلامة عبد الرحمن بن حسن البهكلي في أسرهم في العام 1813، فطلبوا منه أن يعلن الشهادتين، وأن يعترف بأنه تلبَّس مع أبويه بالكفر.
وقتها، مارس الوهابيّون جرائم أسر النساء والأطفال، وسلب الأموال، والاعتداء على كل من يخالفهم، وهدم المساجد، بما في ذلك مسجد زبيد. عند هذا الحدّ، يمكن فهم مُراد محمد ابن سلمان من إحياء هذا التاريخ، وإسباغ المكارم المالية من بوابة الترفيه عليه. يعلم ابن سلمان جيدا أن صورة التزاوج الديني والسياسي المتمثل بعائلة آل سعود والوهابية هي المرجحة في العقل الجمعي عند أي طرح لآليات قيام “السعودية” ككيان.
ويدرك أيضا بأن محاولاته الممتدة لسنين مضت ومقبلة لا بدّ وأن تتركز على مهمة تشويه الحقائق وتغييبها، من خلال التركيز على محاولات آل سعود السيطرة على شبه الجزيرة العربية وإرادتهم الفردية في تحقيق الهدف حينها، وبالتالي إشغال الوعي الإنساني بكذبة مفادها إن قيام “الدولة الحديثة” بشكلها الحالي، لم يكن أكثر من تعاون بين طرفين جمعهما هدف واحد. اليوم، يرعى ابن سلمان سياسة التحوّل الإدراكي لدى أبناء الجيل الجديد، فبعد أن همّش الوهابية بفروعها وأشكالها ومسمياتها الرسمية وغير الرسمية وحصر تأثيرها في المجتمع، انبرى لمهمة تلميع اسمه عبر ملاقاة ميول نسبة كبيرة من الشباب وتهيئة الأرضية لفتح أبواب “السعودية” اجتماعيا واقتصاديا لكل مظاهر الفساد والإفساد في الأرض وصولاً إلى التطبيع مع الاحتلال الصهيوني.
“يوم التأسيس”: آل سعود والوهابية تزاوج لم يعد مرغوبًا
إشكالية المسألة الشيعية إن تمايز الفضاء الاجتماعي في شبه الجزيرة العربية بكل انعكاساته دفع المؤسس عبد العزيز إلى إتخاذ الرياض بمُسماها اليوم عاصمة لدولته، بمعنى أن الأخير وفي سعيه لضمان نجاح مخططه، ابتعد عن المدينة المنورة ومكة على الرغم مما يمثلانه من رمز للديانة الإسلامية، وذلك لاعتقاد ثابت لديه بأن قاطني الحرمين الشريفين لا يمكن أن يتبنوا فكره واحتضان حكمه، فلجأ إلى سياسة “وهبنة” الفضاء الاجتماعي من داخل حصنه في الدرعية.
في النظام “الملكي الخليجي” تستند هوية الدولة إلى قراءة محددة للمعتقدات الدينية السنية، وأدى ذلك إلى سياسة تمييز طائفي واسعة النطاق مدعومة من قبل الدولة. والعامل المدروس الرئيسي في شرح الأوضاع المختلفة في كل من البحرين و”السعودية” هو شروط تشكيل “الدولة” من القرن السابع عشر والثامن عشر فصاعداً. حيث تبنتا سياسات معاداة شيعية واسعة النطاق وصارخة، ولجأت لاعتماد الحروب وسفك الدماء وهدر الأرواح وشراء الذمم وغيرها من أساليب كسب الولاء جبراً وطوعاً لطالما كانت مقاربة المسألة الشيعية إشكالية: كانت في مظهرها عقدية، كما توحي فتوى العلماء في مؤتمر الرياض سنة 1927.
وكان السياسي هو صانع المشكلة وراعيها. ينقل أمين الريحاني في كتابه “ملوك العرب” ص 548 – 585 حين سأل عبد العزيز: هل ترون أن من الواجب الديني محاربة المشركين حتى يدخلوا في دين التوحيد؟ فأجاب عبد العزيز على الفور: “لا، لا”.
وضرب بعصاه ثم قال: “هذا الحسا، عندنا هناك أكثر من ثلاثين ألفاً من أهل الشيعة، وهم يعيشون آمنين لا يتعرض لهم أحد”. أعاد الريحاني طرح السؤال بصيغة أخرى: هل ترَون من الواجب الديني، وهل ترون من الواجب السياسي أن تُحاربوا المشركين حتى يدينوا؟ فأجابه ابن سعود قائلاً: “السياسة غير الدين، ولكننا أهل نجد لا نبغي شيئاً لا يحلّله الدين.
فإذا حلّل الدين ما نبغيه فالسياسة التي نتخذها لتحقيقه محلّلة. وإذا عجزت السياسة فالحرب، وكل شيء في الحرب يجوز”. وبحسب الدكتور فؤاد إبراهيم فإن ذكر ابن سعود نجد ليس عفوياً، بل يبطن التأسيس العقدي للوهابية في تقسيم المناطق على أساس: دار إسلام ودار شرك وإلحاد.
ولذلك، فإن مبدأ الأقلمة الذي يُعاد إدماجه في “نظام المعنى” السعودي الوهابي يبطّن توجيهات إيديولوجية تعبوية لتمييز المقاتلين أنفسهم عن غيرهم، أي بناء صورة الجماعة عن ذاتها ولذاتها. فنجد تمثّل دار الإسلام وما سواها يقع في خانة دار الكفر، ويجب “فتحها” عنوة. وبالتوازي، يعمل ابن سلمان على تركيز نجد كمركز أساسي للتاريخ السعودي المزعوم، وذلك من بوابة إطلاق المشاريع الاستثمارية بطابعها “الغريب العجيب”، حيث أعلن ابن سلمان مؤخرا عن بناء مكعب ضخم في وسط مركز مدينة جديدة في العاصمة الرياض، والذي أثار ضجة على مواقع التواصل الاجتماعي لما يحيط تصميمه من شبه والكعبة الشريفة.
أغفل ابن سلمان المقدّمات الإلزامية لبناء دولة وطنية، فإن التشبيك مع منتجات العولمة والتموضع كونياً، مع إغفال تأثيراتها على الهوية الوطنية وتزخيم الطائفية، يعيد إنتاج أزمة الكيان ولكن في شكل آخر.