استِئناف المُفاوضات السعوديّة الإيرانيّة في بغداد بمُشاركة وفدين أمنيين رفيعي المُستوى، وبرعاية السيّد مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء العِراقي الحالي، ومسؤول المُخابرات السّابق، جاء بفضل حُدوث تغييرات إقليميّة ودوليّة مُتسارعة على أرضيّة تداعيات الأزمة الأوكرانيّة.
الجولات الأربع الماضية التي اتّخذت طابعًا سِرِّيًّا، فشلت لأن جانبيها السعودي والإيراني كانا يقفان في خندقين مُتصادمين، الأمريكي للأوّل، والروسي للثاني، ولكنّ الآن اختلفت الصّورة، وباتا يقفان في خندقٍ واحد، أيّ الروسي تقريبًا، في ظِل تصاعد التوتّر في العُلاقات السعوديّة الأمريكيّة، ورفض الأولى التّجاوب مع مطالب الرئيس جو بايدن بزيادة إنتاج النفط لتخفيض أسعاره، وبِما يُساعد الاقتصاد الغربي، بتوفير إمدادات رخيصة للطّاقة.
المعلومات حول ما دار في هذه الجولة من المُفاوضات ما زالت شحيحة، وهذا أمْرٌ مُتوقّع حيث يحرص المُشاركون فيها على الكتمان، ولكنّ وجود حرب اليمن على طاولة المُفاوضات، يُوحي بأنّ إيران ربّما تراجعت عن موقفها السّابق الرّافض للخوض في هذه المسألة باعتِبارها مسؤوليّة يمنيّة صرفة، وضرورة التّعاطي بشأنها مع الطّرف اليمني مُباشرةً، أيّ حركة “أنصار الله” الحوثيّة.
السُّؤال الذي يطرح نفسه عمّا إذا جاء هذا الاختِراق الجديد نتيجة استِعداد إيران التّام للقِيام بدور الوسيط بين الجانبين اليمني والسعودي، وحمل أفكارًا سعوديّة جديدة للجانب اليمني تُسَرِّع بإمكانيّة التوصّل إلى تسويةٍ نهائيّة تُوقِف الحرب؟
الجانب السعودي ذهب إلى الجولة الخامسة مُتَسَلِّحًا ببعض الخطوات الإيجابيّة في الأزمة اليمنيّة، أوّلها توقيع اتّفاق هدنة لمُدّة شهرين، وعزل الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، واستِبداله بمجلس قيادة رئاسي جديد، وفتح جُزئي محدود قابِل للتطوّر لمطار صنعاء، وتخفيف الحِصار عن ميناء الحديدة والسّماح لبعض النّاقلات النفطيّة بإفراغ حُمولاتها.
الأمير محمد بن سلمان وليّ العهد السعودي يعيش حاليًّا، ولأسبابٍ عديدة، حالةً من القلق بسبب توتّر في علاقات بلاده مع أمريكا أبرزها عدم إدانته لاجتِياح القوّات الروسيّة لأوكرانيا، وتمسّكه باتّفاقِ (أوبك بلس” مع الروس، وتوجيه دعوة للرئيس الصيني بزيارة الرياض، والإعراب عن استِعداده لتسعير النفط بالعُملتين الروسيّة (الروبل) والصينيّة (اليوان) في دَعمٍ أوّليّ للنظام المالي البديل، و”مُرونته” في الملف اليمني كلّها عوامل سهّلت، بل حتّمت، العودة لجولات الحِوار مع إيران، استِعدادًا لضُغوطٍ أمريكيّة ضخمة ليس من الحكمة مُواجهتها في ظِل استِمرار عدائه لإيران، وتصاعد حربه في اليمن.
الهم الأكبر للأمير بن سلمان ينحصر في انخِراطه، وبلاده، في حرب اليمن التي دخلت عامها الثامن لما يترتّب عليها من تكاليف ماديّة وبشريّة باهظة، خاصَّةً بعد أن نجحت الصّواريخ والمُسيّرات اليمنيّة “الإيرانيّة الصُّنع والتكنولوجيا” في ضرب مُنشآت نفطيّة سعوديّة في العديد من مُدُن المملكة الكُبرى، وباتت كُل جُهوده مُنصَبَّةً حاليًّا حول كيفيّة الخُروج منها، أيّ الحرب، وبأقل قدر مُمكن من الخسائر.
الذّهاب إلى إيران هو الخِيار الأفضل، هذا إذا لم يكن الخِيار الوحيد، بعد خُذلان أمريكا والغرب له، واقتِصار دعم الحُلفاء العرب على البيانات الإنشائيّة، ولهذا من غير المُستَبعد أن تكون الجولات القادمة من الحِوار السعودي الإيراني أكثر نجاحًا من سابقاتها، وتزايد احتِمالات نقلها من الميادين الأمنيّة إلى السياسيّة، ولتمديد الهُدنة، وتقليص دائرة الحِصار المفروض على اليمن، والاعتِراف “تدريجيًّا” بالواقع السياسي والعسكري الجديد على الأرض اليمنيّة.
صحيح أن هذا التوجّه السعودي الجديد في التّعاطي مع الأزمة اليمنيّة قد تأخّر، ولكن أن تأتي مُتأخِّرًا خير من أن لا تأتي أبدًا.. واللُه أعلم.
عبدالباري عطوان – موقع رأي اليوم – بريطانيا