عززت روسيا وجودها العسكري في مطار القامشلي، ونشرت منظومات صاروخية مضادة للطيران في الشمال السوري، في خطوةٍ اعتبرها البعض تهديداً للطيران التركي، ليظهر فيما بعد أن وظيفتها مزدوجة، تشمل إضافةً إلى ما سبق تهديداً للطيران الأميركي.
تواردت الأنباء عن دعوات قطاع من المعارضة السورية للاجتماع في موسكو بتاريخ 12 أيلول/سبتمبر الجاري على وقع المتغيرات المتسارعة، إثر الاجتماع الرئاسي الثلاثي لكل من رؤساء روسيا وإيران وتركيا في 19 تموز/يوليو الماضي في طهران، وما تلاه من اجتماع سوتشي في 5 آب/أغسطس بين الرئيسين الروسي والتركي، لتظهر بعدها معالم الاتفاق الثلاثي حول المنطقة ككل، وفِي مقدمتها الساحة السّورية، التي توافقت فيما بينها على خروج القوات الأميركية من الشمال السوري، كمقدمة لخروجها من كامل سوريا وغرب آسيا.
لم تكن هذه الدعوة منفصلة عن جملة التصورات المتعلقة باستمرار الوجود الأميركي، وأن منطقة الشمال السوري مقبلة على مرحلة تحديد الخيارات النهائية، وخصوصاً بعدما تجاوبت أنقرة مع كل من موسكو وطهران، وبفعل الصراعات الداخلية التركية، وارتفاع مستوى التضخم الاقتصادي التركي وما تركه من آثار في مزاج الأتراك الانتخابي، ما دفعها إلى إبداء حسن النيات مع دمشق، والانفتاح عليها لإجراء مصالحة تاريخية بين العاصمتين لها أثمانها على كل القوى السياسية والعسكرية السورية، باختلاف مشاريعها.
وعلى الرغم من عدم ظهور أيّ موقف رسمي سوري حتى الآن من المصالحة التركية السورية حتى الآن، فمن الواضح أن الخطوات المتسارعة التي تقوم بها كلّ من موسكو وأنقرة توحي بالجدية، إن كان بزيارة وزير الخارجية السوري الأخيرة إلى موسكو، وتأكيد وزير الخارجية الروسي على الحل السياسي المرتكز على القرار الدولي 2254، وفقاً للرؤية الروسية المستندة إلى النتائج الأولية للحرب غير المباشرة مع الولايات المتحدة في أوكرانيا أو ما سرّبه رئيس هيئة الائتلاف سالم المسلّط عن اجتماعه مع مسؤول تركي كبير، وتبلُّغِه ضرورة البحث عن مأوى جديد للمعارضة السورية في السعودية أو الأردن، وأن أنقرة ذاهبة نحو مصالحة كاملة مع دمشق.
تأتي هذه الخطوات السياسية بالتزامن مع خطوات عسكرية قامت بها كلّ من روسيا وإيران، فقد تعرضت القاعدة العسكرية الأميركية في التنف لهجومين من كلا الدولتين، وتم فيهما استهداف مقرات أميركية بالطيران المسير الإيراني، وتعرّضت قوات مغاوير الثورة التي تدعمها الولايات المتحدة لهجوم بالطيران الحربي الروسي، ومن دون تنسيق مع القوات الأميركية، رداً على تحريك الاستخبارات الأميركية مجموعات من تنظيم “داعش” في منطقة البادية السورية.
ولم يتوقَّف الأمر هنا، فقد عززت روسيا وجودها العسكري في مطار القامشلي، ونشرت منظومات صاروخية مضادة للطيران في الشمال السوري، في خطوةٍ اعتبرها البعض تهديداً للطيران التركي، ليظهر فيما بعد أنها ذات وظيفة مزدوجة، تشمل إضافةً إلى ما سبق تهديداً للطيران الأميركي بنوعيه الحربي والحوامات.
وقد ترافق ذلك مع ارتفاع مستوى عمليات استهداف الوجود الأميركي بالصواريخ، وخصوصاً في حقل كونيكو، من مناطق شرق الفرات التي تعتبر تحت سيطرة واشنطن، في دلالةٍ على ارتفاع مستوى العمليات العسكرية التي تقودها طهران وتدعمها، وتزايد أعداد المعترضين على الاحتلال الأميركي من سكان هذه المناطق والتحاقهم بالمقاومة الشعبية.
يقتضي الاتفاق الثلاثي المذكور بين العواصم الثلاث لإخراج الولايات المتحدة من الشمال السوري حصول المصالحة السورية التركية أولاً، وما يترتب على ذلك من تفاهمات حول إدلب، التي يعتبرها الأميركيون قلعة المعارضة السورية (جيمس جيفري)، وضرورة تفكيك المجموعات المسلحة فيها، وترحيل الأجانب منها، وإعادتها إلى سيطرة دمشق وإدارتها، في مقابل تفكيك ما تعتبره أنقرة تهديداً لأمنها القومي في شمال شرق سوريا، على الرغم من الفارق الكبير بين تجربتي إدلب الدموية بأصولها التكفيرية العالمية وتجربة الكرد في شرق الفرات غير الصدامية، والذين دفعوا دماء كثيرة لمواجهة تنظيم “داعش”، دفاعاً عن سكان المنطقة باختلاف انتماءاتهم، ولكنهم يقفون عائقاً أمام الوصول إلى التّماس مع الجيش الأميركي ودفعه إلى مغادرة المنطقة.
الأمر الثاني المتعلق بالمصالحة هو الوصول إلى شكل من أشكال الحل السياسي الذي يمكنه أن يحقق الاستقرار والأمن والتنمية، كضرورة لحل مشكلة اللاجئين السوريين في تركيا بشكل خاص، لإخراجها من ساحة الصراع السياسي داخل تركيا، وهذا ما تعَوِّل عليه موسكو في اللقاء القادم مع شرائح منتقاة من المعارضة في موسكو، والتي يمكن أن تكون مقبولة من الأطراف الفاعلة في الملف السوري، وبما يُرضي دمشق ويزيل هواجس الكثير من السوريين.
ويعتمد نجاح موسكو في الاجتماع القادم على مدى تفاعل القيادات الكردية مع مجمل المتغيرات الإقليمية المتسارعة، ومدى تفاهمهم مع دمشق، وفك الرهان على الوجود الأميركي لتحقيق مطالبهم السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية، وهم إن استطاعوا الوصول إلى ذلك، فإن استمرار الوجود الأميركي سيعتبر بحكم المنتهي، لفقدانه البيئة العسكرية والاجتماعية المانعة من التماس معه.
وفي حال الإخفاق في الوصول إلى هذا التفاهم، فإن الخيار الوحيد المتبقي هو تأمين دخول الجيش السوري مع حلفائه إلى كامل مناطق شرق الفرات، تحت الحماية الجوية، وتحقيق التماس المباشر مع القوات الأميركية، ودفعها إلى مغادرة المنطقة الاقتصادية الأغنى في سوريا، بما يحقق الاتفاق الثلاثي والبدء برسم مسار جديد للخروج من الكارثة السورية.
كلّ ذلك دفع الإدارة الأميركية إلى استباق الأحداث القادمة، وتغيير طريقة تعاطيها مع الملف السوري، وخصوصاً في الشمال الشرقي، فتم اختيار نيكولاس كرانجر مبعوثاً جديداً لسوريا، وهو الخبير الدبلوماسي والعسكري، لمنح وعود جديدة للتجربة السياسية “الإدارة الذاتية”، في مقابل حمايتها مما يتم العمل عليه، لضمان بقاء استمرار القوات الأميركية، ونجاحه يعتمد على موقف القادة الكرد وكيفية تعاطيهم مع اجتماع موسكو، الذي يفترض وجود قيادات من الصف الأول، وليس من الصف الثاني، الذي يُعتبر حضوره إفشالاً للحل السياسي وفقاً للرؤية الثلاثية للدول التي تنتظر قرار دمشق كي تتحول إلى رؤية رباعية.
المصدر: الميادين