لا تعترف منظمة شنغهاي بالعقوبات الأحادية الجانب التي تفرضها الولايات المتحدة على الدول خارج إطار موافقة مجلس الأمن الدولي.
في الوقت الذي ينشغل الإعلام الغربي بالحديث عن إنجازات الغرب، من خلال زجّ المزيد من المقاتلين الأوكرانيين والمرتزقة في الحرب على أوكرانيا، والتسبّب في إحداث تراجع روسي عن أراض كانوا قد سيطروا عليها من قبل، اجتمع في سمرقند، عاصمة أوزبكستان، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ وممثلون عن الهند وكازاخستان وطاجيكستان وأوزبكستان وباكستان وإيران ودول أخرى مراقبة أو حاضرة باتفاق شراكة مع منظمة شنغهاي للتعاون التي تضمّ نصف البشرية، ما يجعلها أكبر منظمة عالمية اليوم.
والمتابع لنقاشات وقرارات المنظمة في سمرقند في 15 – 16 أيلول الجاري يدرك أن قطباً مهماً عسكرياً واقتصادياً وأمنياً وسياسياً تشكّل في العالم، وأنّ هذا القطب الذي ترك أبوابه مفتوحة لانضمام دول أخرى ولشراكات مع منظمات دولية وإقليمية سيشكل ركيزة أساسية في التوجهات العالمية الدولية المستقبلية.
ما يميز أعمال هذه القمة أنها عملت على مأسسة الأفكار والمبادئ التي تضمن التعاون الفعّال للخروج من مظلة الهيمنة الإمبريالية الغربية في العمل الدولي، التي تعني المزيد من الحروب ونهب الشعوب، وإرساء أسس جديدة تعكس مصالح الشعوب في الحياة الآمنة التي تنضوي في إطار هذه المنظمة وتعكس تطلّعات معظم شعوب العالم.
وفي ما يمكن اعتبار ذلك رفضاً غير مباشر لمعايير الدول الاستعمارية الغربية في تصنيف الإرهاب والإرهابيين، أعربت الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي عن “عزمها على وضع قائمة واحدة للمنظمات الإرهابية والانفصالية والمتطرّفة، التي تنصّ على حظر أنشطتها في أراضي أعضاء منظمة شنغهاي للتعاون”.
ومن نافل القول أنّ هذه المنظمة لا تعترف بالعقوبات الأحادية الجانب التي تفرضها الولايات المتحدة على الدول خارج إطار موافقة مجلس الأمن الدولي. لذا، نرى أنّ روسيا التي فرض عليها الغرب آلاف العقوبات هي عضو فاعل ومؤثر وموجّه في المنظمة.
كما أنّ إيران وقّعت في سمرقند على انضمامها إلى المنظمة كعضو كامل العضوية، بعدما كانت تحظى بصفة مراقب، وأدى الرئيس الإيراني رئيسي دوراً محورياً في أعمال سمرقند وأفكاره ومقرّراته. وفي النتيجة، أكّد بيان سمرقند أنّ التطبيق الأحادي الجانب للعقوبات الاقتصادية بخلاف تلك التي اعتمدها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يتعارض مع مبادئ القانون الدولية.
لقد لخّص الرئيس الصيني شي جين بينغ توجّهات المنظمة بوضوح واختصار حين قال: “في مواجهة التغيرات الهائلة في عصرنا، وغير المسبوقة، نحن على استعداد مع زملائنا الروس لنضرب مثالاً لقوة عالمية مسؤولة قادرة على أن تؤدي دوراً رائداً في إحداث تغيير سريع في العالم من أجل إعادته إلى مسار التنمية المستدامة والإيجابية”، كما قال شي للقادة المجتمعين: “حان الوقت لإعادة تشكيل النظام الدولي، والتخلّي عن المعادلات الصفرية، والعمل معاً لدعم تنمية النظام الدولي في اتجاه أكثر إنصافاً وعقلانية”.
من يعرف أسلوب الرئيس شي جين بينغ الهادئ والعميق يدرك أنّ هذه العبارات تتضمّن في طيّاتها النيّة والعزم على تغيير الأسس التي تقوم عليها اليوم الأحادية القطبية، التي تحاول أن تبقي تأثيرها ونفوذها من خلال إغراق الساحة الأوكرانية بالسلاح والمال لمنع روسيا من الانتصار، ولتبرهن للعالم أنّ الغرب هو القوة الوحيدة القادرة والفاعلة.
ولكنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أعلن في سمرقند أنّ شراكة بلاده الاستراتيجية مع الصين وصلت إلى مستوى غير مسبوق، وأنها تتطوّر بتسارع شديد، ركّز على جبهة أخرى في مواجهة الغرب، هي جبهة جمع الدول التي تتشارك في رفضها السطوة الغربية على مقدّرات الشعوب وثرواتها وقراراتها، كي تؤسس لنظام عالمي جديد يشمل أعضاءها الذين يشكّلون نصف البشرية، ويترك الباب مفتوحاً للدول الراغبة في الانضمام إليها لاحقاً، إضافةً إلى توسيع دائرة الحوار والمشاركة مع المنظمات والمؤسسات الدولية.
ومن المهمّ الملاحظة أن وزارة الدفاع الروسية أعلنت بالتزامن مع انعقاد القمة أنّ سفن البحرية الروسية، وكذلك الصينية، أطلقت دوريات مشتركة الخميس في المحيط الهادئ في إطار تنفيذ برنامج التعاون العسكري الدولي.
كما أنّ الرئيس الصيني قال في بداية لقائه الرئيس بوتين: “إنّ الصين ترغب في بذل جهود مع روسيا للقيام بدور القوى العظمى، وأداء دور توجيهي لبثّ الاستقرار والطاقة الإيجابية في عالم تهزّه اضطرابات اجتماعية”، وعبارة “أداء دور توجيهي” نابعة من عادة الصين العريقة باستخدام مصطلحات متواضعة أقلّ من المقصود. أما المقصود وما يقابل هذه العبارة في الإعلام الغربي، فهو أداء دور رياديّ في قيادة العالم.
وكان لافتاً قبيل انعقاد قمة سمرقند ظهور عدد من المقالات الغربية التي تتحدّث عن صعوبة التعاون والتكامل بين روسيا والصين، لأنّ روسيا لا تريد أن تكون تابعاً للصين، والصين لا تقبل إلا أن تؤدي دور القيادة، بحسب قولها.
وكانت هذه المقالات ربما من نوع محاولة بثّ الشكوك بين الحليفين الاستراتيجيين، فيما لاحظنا التفاهم والتكامل وإشارات شي المتكرّرة إلى الصين وروسيا كقوتين عظميين خلال أحاديثه ولقاءاته في القمة.
بعدما قامت الولايات المتحدة بتجاهل القانون الدولي والنظم التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية، وبدأت تتحدّث منفردة عن نظام مبني على قواعد لا يعلم أحد ماهيتها، وبعدما شنّت حروباً على الدول والشعوب، وفرضت إجراءات قسرية أحادية الجانب على عدد من الدول، كان من الطبيعي أن تتحرّك إرادة الشعوب لوضع أسس لأنظمة اقتصادية وعسكرية وسياسية واجتماعية تعبّر بالفعل عن إرادة هذه الشعوب وطموحاتها، بعيداً من الهيمنة والأحادية القطبية.
ومن هذا المنظور، قد يكون إعلان سمرقند هو الإعلان الأهمّ حتى اليوم في رفض الأحادية القطبية والهيمنة الغربية ومأسسة تشكيل قطب آخر يؤمن بالتشاركية والكرامة المتساوية للشعوب والدول. ولهذا التحرّك مساره ومستقبله، وهو إلى حدّ اليوم أهمّ بشائر انتصار روسيا في جبهة أعرض بكثير من أوكرانيا.
إذا كان العالم برمّته قد خاض حرباً عالمية ثانية لإرساء أسس لنظام عالمي أجهضته الولايات المتحدة في العقدين الأخيرين، وأفرغته عملياً من مضمونه، فإنّ التاريخ قد يسجّل لمؤتمر منظمة شنغهاي للتعاون في سمرقند أنه الخطوة التأسيسية الأهمّ لولادة نظام عالمي أكثر عدلاً وتوازناً، ودقّ أوّل إسفين حقيقي في نعش الهيمنة الغربية على الشعوب وسلب مقدّراتها ومصادرة إرادتها.
ما يميّز حوار شنغهاي في سمرقند أنه تناول المفاهيم والقيم والاقتصاد والأمن والدفاع والمجتمع، وهذا هو العمل الجادّ والتاريخيّ لوضع أسس متوازنة لعالم جديد طال انتظاره.
المصدر: الميادين