يحملُ الاندفاعُ المتزايدُ والمعلَنُ من قِبلِ الولاياتِ المتحدة الأمريكية، نحوَ تطبيعِ الشذوذ الجنسي، أَو ما يُعرَفُ بـ”المثلية”، مخاطرَ عالميةً كبيرةً على مختلف المستويات؛ إذ يبدو بوضوح من خلال طبيعة وحجم التحَرّك الأمريكي لفرض هذه التوجّـه، أن واشنطن تهدف لاستخدامه كوسيلة من وسائل إحكام السيطرة على الأنظمة والشعوب معًا؛ إذ لا يمكن فصل التداعيات الأخلاقية الكارثية الفردية لهذا التوجّـه عن الثغرات الكبيرة التي يفتحها؛ لتوسيع السيطرة الأمريكية على السياسات والقرارات والتوجّـهات والأيديولوجيات العامة للدول والجماهير في كافة المجالات.
“الحريةُ الشخصية”.. حصانُ طروادة:
لم يبدأ التوجُّـهُ الأمريكي لنشر الشذوذ الجنسي الآن؛ إذ تعمل دول الغرب بشكل عام منذ عقود على تطبيع هذه الجريمة تحت مبرّر “الحرية الشخصية”، وقد ألغى ذلك العمل المتواصل الكثيرَ من الحواجز التي تبقي هذا الأمرَ في إطاره الفعلي كسلوك شاذٍّ وغير سوي، كما حدث عندما ألغت منظمةُ الصحة العالمية “المِثلية الجنسية” من قائمة “الأمراض النفسية” في العام 1990.
وليس الشذوذ الجنسي هو الأمرَ الوحيدَ التي سعى الغربُ -بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية- إلى ترويجه ونشره تحت مبرّر “الحرية/ المصلحة الشخصية”؛ لأَنَّ هذا العنوان بالنسبة للغرب يختزل أيديولوجيا واسعة تركز على منح “الفرد” وهم اتِّخاذ قراراته وخياراته بمعزل عن أية مسؤوليات وحواجز عامة أُخرى، كالمسؤوليات الدينية والأخلاقية والعادات والتقاليد؛ ولذا فقد أزالت هذه الأيديولوجيا الحواجز أمام تشكيلة واسعة من التوجّـهات الشاذة الأُخرى: كالإلحاد، والسخرية من المعتقدات، وغيره من التوجّـهات التي تم تقديمها وكأنها خيارات شخصية طبيعية.
لكن أيديولوجيا “الحرية/ المصلحة الشخصية” لا تركز على هذه التوجّـهات فقط؛ فهي نظام اقتصادي وسياسي واسع يقوم على أسس استغلالية وانتهازية لا علاقة لها بتحقيق “رغبات” الأفراد، بل إنها توظِّفُهم كقطع شطرنج في خدمة مصالح وتوجّـهات رعاة النظام نفسه، وَإذَا حدث أن تعارضت “الحريات الشخصية” مع هذه المصالح والتوجّـهات فَـإنَّ هذه الأيديولوجيا ستشرعن سحق الأفراد المعارضين أنفسهم وليس فقط سحق حرياتهم الشخصية، كما هو الحال مع أي شخص يفكر بمعارضة الصهيونية أَو يحاول إبداء وجهة نظر مغايرة بخصوصها.
وبالتالي فَـإنَّ ما تروجه دول الغرب من أفكار وسلوكيات شاذة تحت مبرّر “الحرية / المصلحة الشخصية” لا يتعلق في الحقيقة برغبات الأفراد المستهدفين، بقدر ما يتعلق بالمصالح التي يريد الغرب تحقيقها؛ بدليل أن عملية الترويج سرعان ما تكتسب صفة “الترهيب”، وتحاول إجبار الأفراد والمجتمعات والأنظمة ليس على تقبل تلك الأفكار والسلوكيات الشاذة، بل وتنبيها والدفاع عنها وتجريم أية معارضة لها.
ولقد مثّل خطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن الأخير المتبنِّي لمشروع نشر وفرض الشذوذ الجنسي، دليلًا واضحًا على أن الأمر لم يكن أبدًا يتعلق بأية “حريات شخصية”، بل إنه يتعلق بمصالحَ أُخرى تريد الولايات المتحدة والغرب تحقيقها على مستوى عالمي؛ وهو ما يدعو لبحث الطرق التي تسعى بها إدارة الغرب للاستفادة بها من هذا المشروع.
غزوٌ أيديولوجي عالمي:
إن الخطرَ الأوضحَ لمشروعِ الشذوذ الجنسي الذي تسعى الولاياتُ المتحدةُ لفرضه عالميًّا هو الخطرُ الأخلاقي، المتمثل بكسر الحواجز الفِطرية التي تحكم العلاقات الطبيعية بين البشر؛ وهو ما ينتجُ عنه اختلالاتٌ أُخرى متعددة في الواقع، تبدأ بالحد من الإنجاب وإضعاف القوة البشرية للمجتمعات، وُصُـولاً إلى فرض الأيديولوجيا الغربية كاملة على الأفراد؛ لأَنَّ مشروع الشذوذ الجنسي لا يأتي منفصلًا عن بقية التوجّـهات التي ترعاها هذه الأيديولوجيا.
وإجبارُ الأفراد على تقبُّلِ مشروع الشذوذ الجنسي -من خلال القوانين وبقية أساليب الترهيب، بالتوازي مع الترويج الفكري والإعلامي لأيديولوجيا “الحرية الشخصية”- يخلق تلقائيًّا جمهورًا جاهزًا للتحكم به وفقًا لرغبات رعاة هذه الأيديولوجيا؛ إذ يمكن توجيه هذا الجمهور في أي وقت لرفض أَو قبول أي شيء، وما تشهده بعض الدول الأُورُوبية من قيود تجبر الأفراد والمؤسّسات على اتِّخاذ مواقفَ معينة؛ -فقط لكي لا يظهروا وكأنهم معادون للمثلية الجنسية- يبرهنُ أن المسألةَ لم تكن يوماً تتعلق بالحريات الشخصية، بل بإحكام السيطرة على الجميع؛ وهو ما تؤكّـدُه أَيْـضاً اللهجةُ الترهيبيةُ التي بات يحملُها مشروع فرض الشذوذ الجنسي.
هذا الخطرُ يشملُ الأنظمةَ والدولَ أَيْـضاً؛ لأَنَّ سَنَّ قوانين -من قبل رعاة “النظام العالمي” لفرض المثلية الجنسية وتقبلها ونشرها- يجعلُ كافةَ الدول الواقعة تحت قبضة هذا النظام مضطرة للامتثال لهذه القوانين التي ستساهم بدورها في صنع “فزاعة” تساعد على التحكم بقرارات وتوجّـهات أية دولة، مثل فزاعة “الإرهاب”، أَو “معادَاة السامية” التي لا زالت الولايات المتحدة تستخدمها بشكل واضح في السيطرة على قرارات وتوجّـهات الدول.
ومن النماذجِ على الخطرِ الذي يحملُه مشروعَ فرض الشذوذ الجنسي عالميًّا، ما شهدته السعوديّة مؤخّراً من تغيير كبير وفاضح في توجّـهاتها وأيدولوجياتها العامة؛ لكي تستطيعَ أن “تترقى” في النظام الاقتصادي العالمي، على أن هذا لن يظل هو الدافع الوحيد؛ فالخوف أَيْـضاً من عقوبات النظام العالمي سيؤدي إلى نفس النتيجة في أماكن أُخرى.
وبجمع الآثار الكارثية المباشرة لمشروع فرض الشذوذ الجنسي على الأفراد، مع المخاطر التي يحملها هذا المشروع فيما يتعلق بالتوجّـهات والقرارات والأيدولوجيات العامة، تكون النتيجةُ مخيفةً للغاية؛ فالولايات المتحدة الأمريكية تسعى بوضوح إلى إرهاب العالم للقبول بالمثلية الجنسية التي تهدم أي توجّـه مستقل أَو هُــوِيَّة خَاصَّة لأي مجتمع أَو نظام؛ لأَنَّها ببساطة مرفوضة في كُـلّ التوجّـهات والهُــوِيَّات الأُخرى، والقبول بها يعني نسف كُـلّ ما ترفضه تلك التوجّـهات والهُــوِيَّات وفتح المجال للقبول بممنوعات أُخرى لا تدخر الأيديولوجيا الغربية جهدا في ترويجها ونشرها أَيْـضاً في الوقت نفسه.
باختصار، إن توجُّـهَ فرض الشذوذ الجنسي الذي تقوده أمريكا، هو جوهر مشروع غزو أيديولوجي شامل وعالمي، تسعى من خلاله الولايات المتحدة لتجاوز حتى قواعدِها التقليدية في الاشتباك مع هُــوِيَّات الشعوب والدول؛ لأَنَّ هذا المشروع يحمل كُـلَّ الأهداف الاستعمارية والتخريبية معًا، وبأبشع صورة ممكنة، بحيثُ إن مُجَـرّد تجاهله -فضلاً عن القبول به- يمثل مخاطَرةً غيرَ مسؤولة بمستقبل المجتمعات والدول؛ ولذا يجب أن تتسمَ مواجهةُ هذا المشروع بالكثير من الجدية والصرامة وتنوُّعِ الأساليب؛ لسد كافة الفجوات التي يمكن أن يستغلَّها الغرب، خُصُوصاً أن هذا المشروعَ يسيرُ في طريق ممهَّدةٍ إعلاميًّا وثقافيًّا إلى جزء كبير من الجماهير.
صحيفة المسيرة