عملية “الردع الصادق” تردع الاحتلال عن مسارين؛ الأوّل هو لجم ألاعيب شراء الوقت التي يتشارك فيها الإسرائيلي والأميركي في منع لبنان من استخراج ثرواته، والآخر الردع عن استراتيجية تجويعه والتأليب ضد المقاومة.
كانت عملية “الوعد الصادق” تجسيداً لوعد أطلقته المقاومة يوماً ما في استعادة عدد من الأسرى، على رأسهم عميد الأسرى الشهيد سمير القنطار. قبل تنفيذ العملية، كانت “أوسلو” مستمرة في إعلان نتائجها الخاسرة في ملف استعادة الأسرى، وكان الاحتلال يتلذّذ في ألاعيب شراء الوقت والتسويف.
“الوعد الصادق” وكسر منطق شراء الوقت
على خطّ الزمن الطويل، وبابتسامة ساخرة وحاقدة، كان الاحتلال يبتلع كلماته التي أطلقها في الجلسات الأولى: “سوف نخرج عدداً كبيراً من الأسرى”. ومن ملف الذرائع المحفوظة في الأدراج، أخرج أوراقه الباهتة الواحدة تلو الأخرى، تارة يقول: “لا نستطيع إطلاق سراح من اتُخذ بحقهم حكم قضائي”، ومرة ثانية يقول: “لا يمكن إطلاق سراح الأسرى التابعين للفصائل التي لم توافق على أوسلو”، ومرة ثالثة يقول: “لا شأن لكم بالأسرى الذين يحملون هوية إسرائيلية، فهذا شأن داخلي”، ومرة رابعة يقول: “لا شأن لكم بالأسرى الذين حاربوا قادمين من خارج فلسطين”.
جاءت عملية “الوعد الصادق” لتكسر منطق شراء الوقت، وتعطي مثالاً حيّاً على آلية كسره. خرج القنطار بعد 27 عاماً من اعتقاله، وبعد عامين من حرب تموز، ولا بدّ من أنه لم يراهن للحظة على طاولة تفاوض. لا يعرفها، ولم يرَها يوماً.
أسّست عملية “الوعد الصادق” لمنطق جديد لمن يرغب في استعادة أسراه من قبضة الاحتلال (بما في ذلك الأسرى العرب، وأغلبهم أردنيون)، وهو منطق القوة الميدانية التي تنتج منها تنازلات لا مناص منها بالنسبة إلى الطرف الآخر، وهو الاحتلال.
“الردع الصادق” وكسر منطق شراء الوقت
إذا كان فيديو عملية “الوعد الصادق” توثيقاً لفعل ميداني كان السبب في إجراء إطلاق سراح الأسرى؛ فمع سطوة الصورة اليوم، كان فيديو الإعلام الحربي أمس بمنزلة عملية تعمل في الاتجاه المعاكس لجهة ترتيب الأحداث، ويمكن تسميتها عملية “الردع الصادق”. وفيها تسبق الصورة فعلاً ميدانياً، إذا لزم.
إذا كانت عملية “الوعد الصادق” أنهت أوهام شراء الوقت في ملف الأسرى، فعملية “الردع الصادق”، المتمثلة بثنائية الرصد والعرض، تنهي أوهام شراء الوقت في ملف الثروات واستخراجها واستراتيجية تجويع لبنان.
لم تنشأ هذه العملية من الفراغ، إنما نشأت على كتف مرحلة طويلة من استكمال شروط الردع العسكري واستيفائها، كما تعرفه الأدبيات السياسية.
باختصار، تلخّص الأدبيات السياسية شروط الردع بامتلاك قوة كافية للجم الطرف الآخر عن فعل ما، وأن تكون هذه القوة غير قابلة للتدمير المفاجئ (جرّب الاحتلال حظه في هذا البند في حرب تموز وأخفق)، وأن يكون التهديد قابلاً للتصديق والتطبيق (مواد الإعلام الإسرائيلي وردود الأفعال الإسرائيلية هي الشاهد الأكثر وضوحاً هنا).
عمّ تردع عملية “الردع الصادق”؟
تردع العملية الاحتلال عن مسارين؛ الأول تكتيكي وراهن، والآخر استراتيجي طويل الأجل.
أما الأوّل، فهو لجم ألاعيب شراء الوقت التي يتشارك فيها الإسرائيلي والأميركي في منع لبنان من استخراج ثرواته. وهنا، لا يلعب عامل “ترسيم الحدود البحرية” منفرداً، إنما يتناغم، كما أوضح السيد غير مرة، مع خداع الشركات الغربية التي تنكفئ عن أداء مهماتها مرتاحة من عبء العقوبات الاقتصادية الطبيعية المدرجة في أيّ شكل من أشكال التعاقد في عالم الأعمال.
أما الآخر، فهو الردع عن استراتيجية تجويع لبنان والتأليب ضد المقاومة، والتي وصلت إلى حدودها النهائية من دون النتائج المبتغاة غربياً وإسرائيلياً. هذا المسار الذي قام على مبدأ صناعة الدولة الفاشلة التي تشاغل المقاومة وتستنزف طاقاتها وصل إلى نقطة النهاية.
وإذا كانت هناك مراهنات على مزيد من الوقت للكشف النهائي عن نتائج هذا المسار، فإن عملية “الردع الصادق” تأتي لمنع المراهنين عليه من مشاهدة الإطلالة الأخيرة الممكنة له. تعطي عملية “الردع الصادق” مثالاً معمّماً على شاكلة “الوعد الصادق”، وتعطي النموذج الأسلم لمواجهة أطماع الاحتلال ونهب ثروات المنطقة (المياه في الأردن، والمال في الخليج).
إضافةً إلى ذلك، إذا كان الردع لغوياً وسياسياً يعني لجم الطرف الآخر عن فعل ما، فالمقاومة اليوم وصلت إلى مرحلة جديدة هي “الدفاع النشط” (Active defense) التي تنطوي على مهمات هجومية عميقة في ثناياها. في هذه المرحلة، يتوسع إطار الردع إلى ما هو أبعد من لجم الاحتلال عن إجراءات ما، ليصل إلى إخضاعه لاتخاذ إجراءات أيضاً.
المصدر: الميادين