مجموعة “بريكس” تطلق مبادرات جديدة للتعاون، وتسعى للتوسع، من أجل تحقيق التوازن في النظام الدولي، من خلال التعددية القطبية.
في مناخ دولي ملتهب يعززه الوهج المنبعث من نيران الحرب في أوكرانيا، كانت القمة الـ14 لمجموعة “بريكس” مغايرة لسابقاتها، في معانيها وأبعادها ومضامين الملفات الاستراتيجية التي بحثت فيها، وصولاً إلى فتح الأفق على مستقبلٍ أكثر اتساعاً مع أعضاء جدد يرغبون في الانضمام إلى المجموعة، كإيران والأرجنتين.
التقاء بشأن التعددية والتعاون
هذه القمة، التي ترأّستها بكين وعُقدت عبر تقنية الفيديو، ضمت رؤساء القوى الخمس، وخرجت بنتائج مهمّة تعزز الروابط الاقتصادية بينها، لكنها، من جانب آخر، أعطت معنى سياسياً أكثر حضوراً في ظل الاستقطاب الحاد الذي أفرزته تداعيات الأزمة الأوكرانية، بحيث اصطفت دول التحالف الغربي شبه مكتملةً في مواجهة روسيا، التي استمرت في إدارة سياسة خارجية أقل توتراً. وفي سياق هذه السياسة أتت مشاركة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظرائه في قمة “بريكس”.
وانعكس الوجه السياسي للقمة على البيان الذي خرج عنها، معلناً البحث في ملف الأزمة الأوكرانية، وعرض مواقف الدول الأعضاء، والتي تم التعبير عنها في الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي مجلس الأمن الدولي، وغيرهما من المنابر. وهي مواقف مؤيدة للمفاوضات بين روسيا وأوكرانيا، وتتباين تبايناً نوعياً عن مواقف القوى الغربية التي تؤيد كييف، أو تحرضها.
وفي حين لا تطالب موسكو أياً من الدول الأربع الأعضاء بمواقف حاسمة، كما تفعل الولايات المتحدة مع حلفائها، فإنها تستند واقعياً إلى المواقف الداعمة أو غير المعادية، وفي طليعتها قوى “بريكس”، التي حجزت لها مكانةً منتظرة في مستقبل الاقتصاد العالمي، وفق ما يشبه إجماع الخبراء الاقتصاديين، الذين يؤكدون حتمية التعددية القطبية في النظام الاقتصادي الدولي، الأمر الذي يستتبع تعددية قطبية في النظام العالمي برمّته.
أيّد إعلان بكين للقمة الـ14 لـ”بريكس” هذا الاتجاه حين تضمّن اتفاق الدول الأعضاء على أن “تمكين النظام المتعدد الأطراف وإصلاحه، يتمثّلان بجعل أدوات الحوكمة العالمية أكثر شمولاً وتشاركية، وتعزيز مشاركة أكثر نشاطاً وذات مغزى من البلدان النامية، في العمليات والهياكل لصنع القرار العالمي”.
ومع أن ولادة الاتجاه لم تحدث خلال هذه القمة، فإن الأزمة الأوكرانية أفضت إلى تعبيرٍ أكثر وضوحاً وانحيازاً إلى النظام المتعدد الأقطاب من جانب القوى الصاعدة، وخصوصاً تلك المنضوية في “بريكس”. لكن هذه المجموعة لا تمثل، مع ذلك، نظيراً لحلف شمال الأطلسي الذي يستخدمه التحالف الغربي – وخصوصاً الآن – أداةَ تأثير سياسي وتأثير اجتماعي في الدول الجديدة المنضمة إليه، أو في ترشيح دول أخرى لعضويته، كما يستخدم هذا التحالف التلويح باستخدام القوة العسكرية لـ”الناتو” في مواجهة روسيا والدول المتحالفة معها (ولاسيما بيلاروسيا).
هذا التباين الجوهري بين طبيعة كلٍّ من التحالفين يعود إلى أن “الناتو”، على الرغم من استخدامه سياسياً، يبقى تحالفاً عسكرياً في الدرجة الأولى، بينما مجموعة “بريكس”، على الرغم من تأثيرها السياسي وتنامي بروز بصمتها في التحولات العالمية، يُنظر إليها كمجموعة اقتصادية غير عسكرية وغير سياسية.
ومن الباب الاقتصادي، تنظر “بريكس” إلى تطورات الأزمة الأوكرانية، التي تفرز تأثيرات شديدة في جملة من القطاعات المهمة لجميع دول العالم. فأمن موارد الطاقة كان أول ملف يتأثر بعد بداية المواجهة في شباط/فبراير الماضي، بحيث تم إيقاف خط “نورد ستريم 2″، ثم توالى ارتفاع الأسعار وتعثر إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، ثم تدحرجت التأثيرات لتطال الأمن الغذائي العالمي باحتمالات ٍشديدة الصعوبة، يمكن أن تضع عشرات الدول أمام أزمة غذاء حادة، وتودي ببعضها إلى مجاعةٍ حقيقية، لو استمر مسار المواجهة بين القوى العظمى مستعراً كما هو اليوم.
وعلى الرغم من استثمار الصين في النظام الاقتصادي الدولي ذي المنشأ الغربي، ونشاط روسيا المستمر فيه، والعلاقات القوية لكلٍّ من الهند (ترتبط بتحالف عسكري مع الولايات المتحدة وأستراليا واليابان) وجنوب أفريقيا والبرازيل بالغرب، فإن تعزيز أواصر التعاون بين دول المجموعة يشير إلى اتجاه حاسم لديها من أجل إحداث تحوُّلات حقيقية في هذا النظام، تؤدي إلى تغيير موازين القوى العالمية على المستوى الاقتصادي. وترسم ملامح هذه التحولات، تلك الخطوات المتراكمة في الاتجاه عينه، كتأسيس مصرف “بريكس”، ومشروع إطلاق عملة موحدة لدول المجموعة، على سبيل المثال.
وتقول التجربة المعاصرة للاتحاد الأوروبي إن التشبيك الاقتصادي، إذا ما وصل إلى حالةٍ كافية من الانسجام، يمكن أن تكون له آثارٌ سياسية كبرى، كتحول السوق الأوروبية الاقتصادية المشتركة إلى اتحادٍ سياسيّ كبير يجمع معظم دول أوروبا، الأمر الذي يفتح الاحتمالات أمام تحول “بريكس” إلى أكثر من مجرد مجموعة تعاون اقتصادي. ومع تأكيد الفوارق بين تجربتي الاتحاد الأوروبي و”بريكس”، وتباين الحالتين في نواحٍ متعدّدة وحاسمة، تبقى قائمةً ومحققة مسألةُ إمكان تطوير الروابط إلى حدود التنقل الكامل الحرية للبضائع والأفراد وتعزيز الامتيازات بين مواطني دول المجموعة. فدول هذه الأخيرة غير متصلة جغرافياً، كما هي حال دول الاتحاد الأوروبي، بل متباعدة، بحيث إن كلاً منها في طرف من أطراف العالم. لكن هذا المعطى يمكن أن يتحول إلى ميزة حاسمة أيضاً، بحيث تنتشر “بريكس” في أربع قارات، وتنشر كل واحدةٍ من دولها تأثيراتها في محيطها الحيوي، الذي سوف يستفيد من تنامي قدرات هذه الدول ومن نجاح تجربتها الاقتصادية التشاركية. وفي محصلة هذه الفكرة، فإن المجموعات الاقتصادية التي تمثل أذرعاً مساعدة للتحالف الغربي، كمجموعة السبع مثلاً، باتت مع تنامي تأثير “بريكس” تجد نظراء بارزين يعبّرون عن تحولات العالم خلال العقود الأخيرة.
وتستند المجموعة في قوتها إلى مجموع القوى الاقتصادية التي تمتلكها دولها، بالإضافة إلى القوى الديموغرافية المقدَّرة بنحو 45 في المئة من سكان العالم، وتغطية مساحة الدول الأعضاء فيها ما يزيد على نحو 27 في المئة من إجمالي مساحة اليابسة على الأرض.
مبادرات جديدة لتعزيز التعاون
لا تقتصر مفاعيل تطور “بريكس” على المنافسة الاستراتيجية للعالم الغربي، فها هي اليوم تعلن ديناميات علمية جديدة تحاكي تحديات الأعوام الأخيرة الماضية، والأعوام المقبلة، بحيث تم إطلاق مركز أبحاث اللقاحات وتطويرها، والتابع للمجموعة، ليكون بمثابة منصة شاملة للبحث والتطوير المشتركين، وإنتاج اللقاحات للدول النامية، من أجل سد الفجوة الحالية في اللقاحات. لقد قرأت دول المجموعة جيداً معاني التنافس العالمي في إنتاج اللقاحات خلال أزمة جائحة “كوفيد 19”. لذلك، فإن الدول الخمس الأعضاء تعلن دعمها البلدان النامية لتعزيز بناء قدراتها على الإنتاج المحلي للقاحات والأدوات الصحية الأخرى.
وعلى مستوى الأمن الغذائي، تمثل دول المجموعة نحو ثُلُث الإنتاج العالمي للحبوب، الأمر الذي يجعلها في طليعة المؤثرين في هذا المجال، ويدفعها إلى إطلاق استراتيجية تعاون لأول مرة في هذا المجال، بالإضافة إلى تأسيس منتدى التنمية الزراعية والريفية.
وتسعى دول المجموعة، في مضامين تعاونها البيني، لتحقيق استقرارٍ في هذه القطاعات الشديدة الأهمية، والتأثير في أمنها القومي. فالأمن الغذائي يمثّل ركناً أساساً من أركان الأمن القومي، وخصوصاً مع اشتداد التنافس العالمي وزيادة شراسة الدفاع الغربي عن التفوق على المستوى العالمي، وارتفاع حدة الرغبة لدى القوى العائدة وتلك الصاعدة من
أجل ردم الهوة وتحقيق التوازن العالمي.
يُضاف إلى هذه المعطيات أن تركيز دول “بريكس” على قضايا الأمن الغذائي يعطي دولاً نامية كثيرة أملاً في الاستفادة من ذلك، وخصوصاً أن تقديرات دولية (البنك الدولي، “الفاو”، تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة، منظمات إقليمية…) تشير إلى تهديد الجوع عشرات الدول خلال أشهرٍ من الآن (بحلول نهاية 2022)، ولاسيما نحو 35 دولةً من أصل 55 دولة أفريقية.
من جانبٍ آخر، رسمت دول “بريكس” في قمتها الأخيرة إطار شراكة في الاقتصاد الرقمي، واقترحت مبادرة تعاون بشأن التحول الرقمي للصناعة التحويلية. وتابعت تطوير إمكاناتها التكنولوجية ضمن الخطط الوطنية الساعية لتحقيق قفزة نوعية في هذا المجال (مثلاً: استراتيجية السيادة التكنولوجية للصين)، وأسست “صندوق أدوات” للعلوم والتكنولوجيا لمواجهة المخاطر والتحديات العالمية الحالية. كما وافقت الدول الأعضاء، خلال القمة الـ14، على إنشاء شبكة مركز “بريكس” لنقل التكنولوجيا، وعقد منتدى البيانات الضخمة من أجل التنمية المستدامة، وإنشاء آلية التعاون الفضائي للمجموعة.
وكانت جهود الدول الخمس منصبةً، خلال الأعوام الماضية، على دعم النظام التجاري المتعدد الأطراف، وتحسين صياغة قاعدة التجارة الدولية، وهي اليوم مستمرة في تبادل الخبرات في بناء القدرات، وخصوصاً فيما يخص المبادرة الجديدة التي أطلقتها لمكافحة الفساد.
وعلى مستوى البناء المجتمعي، أطلقت القمة الأخيرة مساراً جديداً لتدريب المهنيين الرفيعي المستوى من خلال إنشاء تحالف للتعليم المهني، وتحفيز المتخصصين والمهرة من أصحاب المهن على تطوير قدراتهم.
وتهتم دول “بريكس” بتطوير رؤيتها بشأن تحسين الحوكمة العالمية، بحيث تكون أكثر شمولاً وتمثيلاً وتشاركية.
التوسع ضرورة
وفي سياقٍ موازٍ للمستوى الذي وصلت إليه المجموعة من التعاون بين دولها، كان إعلان وزير الصناعة والتجارة في روسيا، دينيس مانتوروف، أنّ الوزارة تدعم انضمام إيران والأرجنتين إلى مجموعة “بريكس”، مؤكداً أنّ ذلك سيكون مفيداً في تبادل التقنيات وإنشاء سلاسل تعاونية جديدة.
وأعلنت روسيا دعمها “التعاون مع طهران وبيونس أيرس، ولاسيما في المجال الصناعي، وتبادل التكنولوجيا وإنشاء سلاسل تعاونية جديدة ذات قيمة مضافة”، كما أعلن مانتوروف عقد لقاءات مع ممثلين للدول الراغبة في تطوير تعاونها، والحصول على فرص بديلة عن المكونات الصناعية والمواد الخام.
وإلى جانب تزخيم مسار اجتذاب دول جديدة، وتقديم إيران طلب انضمام إلى المجموعة، أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن مكانة “بريكس” تتزايد باستمرار في الساحة العالمية، بفضل الإمكانات الاقتصادية والسياسية والبشرية.
وتعدّ إيران المجموعةَ “آليةً إبداعية للغاية، ذات جوانب واسعة”، وفق تصريح المتحدث السابق باسم وزارة الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده، بينما يكرر المسؤولون الأرجنتينيون الإعراب عن رغبتهم في الانضمام أيضاً.
في المقابل، يؤكد قادة المجموعة أن توسعتها تمثّل فرصاً في زيادة إمكانات تحقيق الأهداف المشتركة، ولاسيما التوازن العالمي، من خلال تأكيد الاعتراف بالتعددية القطبية، اقتصادياً، وأيضاً سياسيّاً.
المصدر: الميادين