مبادرات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الدبلوماسية تزداد في الأشهر الأخيرة، بالتزامن مع ازدياد اضطرابات العالم؛ من حرب روسيا في أوكرانيا، إلى الخلاف بين الولايات المتحدة والصين، وصولاً إلى التهديد الشديد بالركود الاقتصادي العالمي عام 2023.
عندما خسر حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أغلبيته المطلقة في البرلمان قبل 6 أشهر، تساءل كثيرون عما قد تعنيه الانتكاسة بالنسبة لزعيم طموح. لكن ما اتضح أن “ماكرون الولاية الجديدة”، وفق صحيفة “بوليتيكو” هو رجل يدور دول العالم، مروجاً لمصطلحه “الحميمية الاستراتيجية” مع قادة العالم، في الوقت الذي يترك فيه السياسة الداخلية لكبير مساعديه ويركز على مجاله المفضل: الدبلوماسية الدولية.
كانت تحركات الفرنسي “الحميمة” السابقة موثقة جيداً: المعانقة العاطفية مع المستشارة اللألمانية السابقة أنجيلا ميركل، والمصافحة الصاخبة مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، والتواصل الدائم مع أمثال رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك. الآن في فترة ولايته الثانية، يبدو أن الرئيس الفرنسي يتحرك من جديد حول العالم.
“يبدو أنه في كل مكان، يتابع كل شيء، لكنه في الغالب في مكان آخر”، قال وزير فرنسي ساخراً، لصحيفة “بوليتيكو” دون الكشف عن هويته، معقباً: “لكنه يعمل منذ خمس سنوات حتى الآن، هل يحتاج حقاً إلى متابعة تفاصيل كل مشروع؟ مع العلم أن الضغط الدولي قوي جداً، ولا شيء يسير على ما يرام في العالم”.
قبل تفشي “كوفيد-19″، تميزت ولاية ماكرون الأولى بجدول زمني سريع من الإصلاحات، بما في ذلك تحرير سوق العمل بهدف جعل فرنسا أكثر قدرة على المنافسة. كان الرئيس الفرنسي يأمل في الاستمرار على نفس المنوال العملي خلال فترة ولايته الثانية، مع التركيز على السياسة الصناعية وإصلاح نظام المعاشات التقاعدية في فرنسا. وفي حين أنه لم يتخل عن هذه الأهداف، إلا أن الفشل في الفوز بأغلبية برلمانية في حزيران/يونيو الماضي أجبره على التباطؤ في جدول الأعمال المحلي.
لطالما كانت السياسة الخارجية في فرنسا من اختصاص الرئيس الحذر، لكن ماكرون يحاول تحويل الضرورة السياسية إلى فرصة، وتفويض الملل والفوضى في السياسة البرلمانية الفرنسية إلى رئيسة وزرائه إليزابيث بورن.
هناك عدد قليل من مجالات الدبلوماسية العالمية التي لم يطرح فيها الرئيس مبادرة فرنسية في الأشهر الأخيرة تحت عناوين متعددة، سواء كانت الأمن الغذائي في أفريقيا أو التعددية في آسيا أو تعزيز مرونة حركة المدنيين في أوكرانيا. وعلى الرغم من بعض الأخطاء في السياسة الخارجية في فترة ولايته الأولى، بما في ذلك دعم خليفة حفتر في الحرب الأهلية الليبية، إلا ان ماكرون أصبح الآن رجل دولة مخضرماً، يستغل بشغف المشهد الأوروبي بلا قيادة للاستحواذ على المسرح الدولي.
إن محور الرئيس الفرنسي للدبلوماسية العالمية في فترة ولايته الثانية الضعيفة في الداخل، يذكّر بالقادة السابقين الذين واجهوا اضطرابات على الجبهة الداخلية. يرى سيريل بريت، الباحث في معهد “جاك ديلور” ان “الرئيس الفرنسي يعاني الآن من متلازمة ولاية كلينتون الثانية، التي تحولت بعد محاولات الإقالة بسبب تحقيق (لوينسكي)، إلى الساحة الدولية، في محاولة لحل القضايا في البلقان والشرق الأوسط والصين”.
ولكن حتى في الوقت الذي يحتضن فيه ماكرون العالم الواسع، فإن المشاكل التي تنتظره عديدة. لم تفعل الصور مع قادة العالم، الكثير، لإبطاء تآكل معدلات شعبيته في الداخل. ومع الركود الذي يلوح في أفق أوروبا والاستياء من التضخم ومشاكل الطاقة، فإن هوامش المناورة لدى ماكرون محدودة، وقد تحتاج المشاكل في الداخل إلى اهتمامه الشخصي في نهاية المطاف.
“الحميمية الاستراتيجية”
استخدم الرئيس الفرنسي لأول مرة عبارة “الحميمية الاستراتيجية” في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، عندما أخبر القادة الأوروبيين المجتمعين في براغ أنهم بحاجة إلى العمل على “محادثة استراتيجية” للتغلب على الانقسامات وبدء مشاريع جديدة. ورغم ان فكرته، وفق “بوليتيكو”، لتقريب 44 زعيماً أوروبياً كانت محيرة بما فيه الكفاية، الا ان هذه الحيرة تضاعفت هذا الشهر عندما دعا إلى “مزيد من العلاقة الاستراتيجية الحميمية” مع الولايات المتحدة.
ليس من الواضح تماماً نوع الاتصال عبر المحيط الأطلسي الذي كان يسعى إليه، لكن لدى وصوله إلى واشنطن، وصف ماكرون حزمة أميركية بمليارات الدولارات من الإعانات بأنها “عدوانية للغاية”! ورغم ذلك، تلقى معاملة “السجادة الحمراء” في البيت الأبيض، حيث وصفه جو بايدن بأنه “صديقه” والرجل الذي يساعده في عقد صفقات على خط النهاية، حتى لو لم يحصل بالفعل على أي تنازلات من الرئيس الأميركي.
وبطبيعة الحال، يرجع البعض نجاح ماكرون إلى الأصول التاريخية لفرنسا: مقعد دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وقدرة نووية، وتاريخ من التدخلات العسكرية والدبلوماسية العالمية.
لكن بالنسبة للأميركيين، فإن ماكرون هو أيضاً آخر شريك يملك هذه القدرات، لأن المملكة المتحدة لا تزال متورطة في شؤونها الداخلية وفقدت بعض النفوذ بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، في حين أن المستشار الألماني أولاف شولتس لم يملأ المساحة التي خلفها رحيل ميركل.
ورغم أن خطابات ماكرون المجردة والمعقدة في بعض الأحيان قد لا تروق للجميع، إلا أنه على الأقل لديه ما يقوله. “الأميركيون يبحثون عن شخص ما للتعامل معه وهناك نقص في البدائل”، قالت صوفيا بيش، خبيرة الشؤون الأوروبية في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي في واشنطن. “ماكرون هو آخر من يقف. هناك حماسه، وفي الوقت نفسه هو مزعج للرؤساء وليس دائما شريكاً سهلاً”. كما أضافت: “يمكنه الاعتماد على بعض المعجبين المترددين في واشنطن للحصول على طاقته”.
اللمسة الفرنسية
في مساعيه الدبلوماسية، يحب ماكرون “المفاجأة الجيدة”. دبلوماسي فرنسي رأى أن “ماكرون لا يحب العمل من الأسفل إلى الأعلى، حيث تفقد الصلة السياسية، بل إنه يستمتع بمفاجأة الناس والإشارة إلى الانقلابات السياسية”. وأضاف الدبلوماسي أن “البيروقراطية الفرنسية لا تحب ذلك حقاً، نحن نفضل الأشياء التي تكون كلها مرتبة”.
إن استحضار أفكار جديدة – مثل مجموعة السياسية الأوروبية – التي لم تكن مقبولة تماماً من خلال طبقات البيروقراطية في القارة العجوز، هي إحدى طرق ماكرون لدفع الأمور نحو أقصاها. في نهاية المطاف، تم الترحيب بالقمة الأولى للمجموعة باعتبارها ناجحة، بعد أن شهدت عودة المملكة المتحدة إلى منتدى أوروبي ووحَّد القارة في مواجهة الحرب الروسية على أوكرانيا.
وحتى مع الإشادة بنجاح زيارة ماكرون للولايات المتحدة، حيث قال إن فرنسا والولايات المتحدة “متحالفتان تماماً” بشأن روسيا، إلا انه أثار جدلاً عند عودته إلى باريس عندما قال لقناة تلفزيونية فرنسية إنه يجب تقديم “ضمانات أمنية” لروسيا في حالة إجراء مفاوضات بشأن إنهاء الحرب في أوكرانيا.
وقالت بيش: “هذا التعليق خرج عن الخط فيما يتعلق بالرسالة المنسقة من ماكرون وبايدن ، والتي كانت أنه لا ينبغي فعل أي شيء بشأن أوكرانيا دون موافقة أوكرانيا”.
كما أثار جنون ماكرون الدبلوماسي تكهنات بأنه يسعى بالفعل للحصول على وظيفة دولية عليا عندما يحين وقت مغادرته لقصر الإليزيه. لا يمكن له وفق دستور بلاده، الترشح لولاية ثالثة، والتكهنات تتصاعد بالفعل في فرنسا حول ما سيفعله الرئيس المفرط النشاط بعد ذلك.
والسؤال الذي يدور في قلب ولاية ماكرون الثانية هو ما إذا كانت محاولاته ليكون كل شيء وفي كل مكان – جنباً إلى جنب مع تفانيه العنيد للأفكار المثيرة للجدل – هي ما سيعرقله في النهاية.
يقول ماكرون إنه يريد أن تكون فرنسا عضوا “مثالياً” في حلف شمال الأطلسي، لكنه لا يزال يريد أيضاً أن تعمل فرنسا كـ “قوة توازن” لا تغلق الباب تماماً أمام روسيا. موقفٌ، قد يساعد فرنسا على بناء شراكات مع دول أكثر حيادية في جميع أنحاء العالم، لكنه لا يفعل شيئاً لرأب الصدع مع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي الشرقي.
وبالنسبة للرجل الذي يقدم نفسه على أنه بطل المصالح الأوروبية، فهذا مكان غير مريح للتواجد فيه، لكن عندما يتعلق الأمر بـ “العلاقة الحميمة الاستراتيجية”، فمن الممكن أن يكون لديك الكثير من الشركاء، يختم مقال “بوليتيكو”.
المصدر: الميادين