بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وقدرة الأميركيين على التحكم بقرارات مجلس الأمن الدولي، تطوّرت عمليات حفظ السلام الدولية، فانتقلت إلى نمط آخر يسمى فرض السلام.
مدّد مجلس الأمن الدولي لقوات حفظ السلام الدولية العاملة في لبنان الـ”يونيفيل” عاماً آخر، وهو عمل اعتيادي يجريه المجلس دائماً، منذ تأسيس اليونيفيل عام 1978، وبعد تغيير مهامها وقواعد الاشتباك إثر حرب تموز 2006، وصدور القرار رقم 1701 الذي يرعى عملها.
واللافت هذا العام في قرار التجديد [1] دعوة جميع الأطراف إلى “ضمان الاحترام الكامل لحرية حركة اليونيفيل في جميع عملياتها، ولوصول اليونيفيل إلى الخط الأزرق بجميع أجزائه، ومن دون عوائق.. ويؤكد أن اليونيفيل لا تحتاج إلى إذن مسبّق ولا إلى إذن لتنفيذ المهام الموكلة إليها، وأنها مخوّلة إجراء عملياتها على نحو مستقل” (الفقرة 16).
هذا البند يشير إلى محاولة تعديل قواعد الاشتباك وآليات عمل اليونيفيل، علماً أن محاولة “إسرائيل” والدول الغربية تغيير مهمة قوات اليونيفيل من قوة حفظ سلام تقليدية -كما كانت عليه منذ تأسيسها عام 1978- إلى “قوة متعددة الجنسية” ضمن إطار “فرض السلام بالقوة” مستمرة منذ حرب تموز 2006، وصدور القرار 1701، إلى اليوم.
1- الفرق بين “حفظ السلام التقليدي” و”فرض السلام”
لم يشر ميثاق الأمم المتحدة إلى مفهوم حفظ السلام صراحة، ولكن الحاجة الدولية إلى متطلبات حفظ الأمن الجماعي، أدت إلى إنشاء قوات حفظ سلام. وهكذا، يمكن القول إن حفظ السلام ظهر أولاً كممارسة ثم صيغ وبلور كمفهوم، وبعدما بدأت الحاجة ملحّة إلى تأطيره قانوناً، جرى البحث في الأسس القانونية التي ترعاه.
البداية الفعلية لنظام حفظ السلام جاءت إثر العدوان البريطاني-الفرنسي-الإسرائيلي على مصر عام 1956، حين اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً في السابع من تشرين الثاني/نوفمبر 1956 بمبادرة وتشجيع من الأمين العام داغ هامرشولد يدعو إلى إنشاء أول عملية لحفظ السلام في تاريخ الأمم المتحدة، وهي “قوة الطوارئ التابعة للأمم المتحدة في الشرق الأوسط” (UNEF).
وهكذا، أسفرت هذه الأزمة عن صوغ مفهوم “حفظ السلام”، ويقصد به: “نشر قوات عسكرية تابعة للأمم المتحدة في منطقة النزاع، بهدف المساعدة في تطبيق الاتفاقيات التي يجري التوصل إليها بين أطراف النزاع، وذلك بموافقة هذه الأطراف”. وتقوم مبادئ حفظ السلام التقليدية على موافقة الأطراف المعنية، وحياد قوات الأمم المتحدة، وعدم اللجوء إلى استخدام القوة من جانبها إلا في حالات الدفاع عن النفس أو الولاية.
لكن، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وقدرة الأميركيين على التحكم بقرارات مجلس الأمن الدولي، تطوّرت عمليات حفظ السلام الدولية، فانتقلت إلى نمط آخر يسمى فرض السلام peace enforcement وهي قوات تنشأ بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة (بعكس قوات حفظ السلام التقليدي التي تنشأ بقرار بموجب الفصل السادس) ولها قدرة واسعة على استخدام القوة لتحقيق أهدافها.
2- طبيعة عمل اليونيفيل القانونية:
حين بدأت مهمة قوات اليونيفيل في لبنان عام 1978، كانت مجرد قوة حفظ سلام تقليدية، أنشئت بناء على الشروط الأساسية لحفظ السلام التقليدي. لكن في الخامس من آب/ أغسطس 2006، وإبّان الحرب الإسرائيلية على لبنان، جرى توزيع مسودة (أميركية-فرنسية) لقرار أممي بموجب الفصل السابع، ينص على: تطبيق القرار 1559 ونزع سلاح جميع الجماعات المسلحة في لبنان، وتحويل مهمة اليونيفيل إلى العمل الإنساني، على أن يقوم “حلف الناتو” بنشر قواته في لبنان لتجريد حزب الله من سلاحه (أي القيام بما لم تستطع “إسرائيل” أن تفعله في تلك الحرب).
رُفض هذا القرار في لبنان، واستمرت بعده الحرب أسبوعين في محاولة إسرائيلية لفرض واقع ميداني يفضي إلى فرض القرار المقترح على لبنان، ولكن النتائج العسكرية أتت مخيبة لآمال الإسرائيليين والغربيين، وفرضت الوقائع الميدانية نفسها وصدر القرار رقم 1701 تحت الفصل السادس، عاكساً الهزيمة الإسرائيلية في حرب تموز، وأزيلت من النص النهائي كل العبارات التي تشير إلى استخدام القوة ونزع السلاح وغيرهما..
وهكذا، فإن الإطار القانوني الذي يكفل عمل اليونيفيل في لبنان هو الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، أما توصيف مهامها (بحسب قواعد الاشتباك) فيمكن اعتباره ضمن إطار “حفظ السلام القوي Robust ” وليس مفهوم “فرض السلام” enforcement (الفصل السابع) والفرق بينهما كبير، خصوصاً على صعيد القدرة على استخدام القوة، إذ تحتاج قوة “حفظ السلام Robust ” إلى تفويض من مجلس الأمن، وموافقة الدولة المضيفة أو الأطراف الرئيسة في النزاع لاستخدام القوة، فيما لا يتطلب فرض السلام موافقة الأطراف الرئيسة على الأرض، إذ يتيح لها نص القرار ذلك.
3- مسار اليونيفيل منذ عام 2006:
اختصرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الهدف الغربي من القرار رقم 1701، بخطابها أمام البرلمان الألماني في 20 أيلول/ سبتمبر 2006، حين أكدت أن “هدف اليونيفيل هو حماية إسرائيل”. ومع أن القرار الأممي المذكور لم يقرّ نشر قوة متعددة الجنسية (من الناتو) إلا أن الكتيبتين الفرنسية والإسبانية تعاملتا في البدء مع الواقع على الأرض بعكس نص القرار ما أثار حفيظة الأهالي وسبّب عدداً من الاشتباكات بين الطرفين في عدد من المحطات.
احتاجت قيادة اليونيفيل إلى سنوات لتغيّر مسارها، خصوصاً بعدما تعرّضت اليونيفيل لتهديدات من القاعدة (أيمن الظواهري) ووضع العبوات الناسفة لآلياتها، وإدراك قيادات اليونيفيل أن أمن القوات وسلامتها لا يمكن تحقيقهما في ظل بيئة معادية مهما بلغت القدرة على استخدام القوة، فبدأ التغيّر في سلوك اليونيفيل والانفتاح على الأهالي وتقديم المساعدات، وفتح قنوات الحوار، وعلى تنسيق أكبر مع الجيش اللبناني، الذي أناط به القرار رقم 1701 السيادة الأمنية على الأراضي اللبنانية في الجنوب، وفرض على اليونيفيل التنسيق مع الجيش خلال القيام بمهامها.
وهكذا، نجد اليوم، أن محاولات توسيع مهمات اليونفيل، وتوسيع قواعد الاشتباك، وهو هدف إسرائيلي-أميركي-غربي منذ البدء، لا يتوقف، لكنه لم ينجح أيضاً. وقد تكون المادة 16 من القرار الأخير التمديد لليونيفيل هي ضمن هذا الإطار، لكن القرار الأممي الأساسي الذي يحدد عمل اليونيفيل، إضافة إلى الاتفاقية الموقعة بين لبنان والأمم المتحدة، والأهم موازين القوى على الأرض تبقى الإطار الأساسي الضابط لعمل اليونيفيل واحترامها السيادة اللبنانية، بصرف النظر عن النص الجديد.
المصدر: الميادين