لم تتوقف المناورات والحشود المعادية من حول كوريا عند مناورات “درع حرية أولشي”، كما سُمِّيت عام 2022، إذ بدأت الولايات المتحدة الأميركية وكوريا الجنوبية، الأسبوع الفائت، مناورة تحت عنوان “العاصفة اليقظة”.
كثيراً ما تُبرِز وسائل الإعلام العالمية إطلاق كوريا الشمالية صواريخها قرب اليابان أو كوريا الجنوبية كأنه ناشئٌ عن مزاجية متقلبة وخطرة تحركها الهواجس، لا القرارات العقلانية المدروسة. لكنّ بث مثل ذلك الانطباع المدسوس ليس سوى جزءٍ من حملة تشويه منهجية منظمة تواجهها جمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية منذ عقود، ولاسيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانفلات منظومة القطب الواحد، لتقويض أواخر القلاع المناهضة للإمبريالية في أطراف الأرض، من كوبا إلى كوريا.
ما تتغاضى عنه وسائل الإعلام، الساعية لتشويه صورة جمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية وقيادتها، هو تصاعد الحشود والمناورات الأميركية واليابانية والكورية الجنوبية مؤخراً في محيطها المباشر. ففي شهر آب/أغسطس الفائت تحديداً، بدأت أكبر مناورات أميركية – كورية جنوبية منذ أعوام. وتضمّنت تمارينها، التي شارك فيها عشراتُ آلاف الجنود وأعدادٌ ضخمةٌ من الطائرات والدبابات والسفن الحربية، محاكاةً لهجمات مشتركة، وتعزيزاً للخطوط الأمامية بالأسلحة والوقود، وعمليات “انتزاع” لأسلحة الدمار الشامل، بالذخيرة الحية.
أعلن الجيشان الأميركي والكوري الجنوبي وقتها، في بيانٍ مشترك، أن مناورتهما الكبيرة المشتركة، تحت اسم “درع حرية أولتشي”، جاءت رداً على تطوير كوريا الشمالية تجاربها الصاروخية خلال العام الجاري. ويُذكر أن تلك المناورات ظلت تجري سنوياً حتى توقفت بعد عام 2018، وتمت عبر محاكاة حاسوبية عام 2019، وكانت جرت على نطاق واسع لآخر مرة عام 2017.
تحمل تلك المناورات السنوية تنويعاً على اسم “أولتشي” Ulchi، وهو قائد عسكري كوري، انحدر من منطقة قريبة من بيونغ يانغ، عاصمة كوريا الشمالية اليوم، في نهاية القرن السادس وبداية القرن السابع الميلادي. وكانت المملكة، التي شغل “أولتشي” منصب القائد العام لجيوشها تمتد في أوج قوتها عبر معظم شبه الجزيرة الكورية، وعبر منشوريا، شمالي شرقي الصين، وأجزاء من منغوليا. وكانت أهم مآثر “أولتشي”، بحسب الروايات المتواترة من الزمن الغابر، أنه هزم جيشاً صينياً ضخماً بلغ حجمه أكثر من مليون مقاتل.
العبرة المعاصرة، عندما تتبنى الولايات المتحدة وحلفاؤها الجنرالَ “أولتشي” عنواناً لمناورات عسكرية، واضحةٌ جداً، بالنسبة إلى بيونغ يانغ، وبالنسبة إلى بكين أيضاً: إطاحة نظام الحكم في كوريا الشمالية، وهزيمة الجيش الصيني.
لم تتوقف المناورات والحشود المعادية من حول كوريا عند مناورات “درع حرية أولشي”، كما سُمِّيت عام 2022، إذ بدأت الولايات المتحدة الأميركية وكوريا الجنوبية، الأسبوع الفائت، مناورة تحت عنوان “العاصفة اليقظة”، شاركت فيها 240 طائرة حربية قامت بـ1600 طلعة جوية، كان يُفترض أن تنتهي يوم الجمعة الفائت، لكنْ جرى تمديدها بعد إطلاق كوريا الشمالية الأربعاء الفائت دفعة من 23 صاروخاً وقع أحدها في المنطقة الاقتصادية الخالصة لكوريا الجنوبية. في اليوم ذاته، أطلقت كوريا الشمالية صاروخاً باليستياً وقع خارج المنطقة الاقتصادية الخالصة لليابان، ونحو 100 قذيفة مدفعية في اتجاه بحر اليابان.
كوريا الشمالية في مواجهة الناتو شرقاً
أرادت كوريا الشمالية القول بصواريخها إذاً إنها ليست خائفة من استعراض القوة والتهديد الماثل، وإنها ليست هدفاً سهلاً ولا لقمة سائغة. وهي تعرف أنها لا تواجه كوريا الجنوبية وحدها، بل تواجه القيادة العسكرية الأميركية لمنطقة المحيطين الهادئ والهندي US Indo-Pacific Command، التي يوجد فيها، بحسب الموقع الرسمي للقيادة العسكرية الأميركية للمنطقة المذكورة، 375 ألف جندي وموظف مدني أميركي، و200 سفينة، تتضمن 5 مجموعات حاملات طائرات، و1100 طائرة حربية، و130 ألف عسكري ومدني يتبعون البحرية الأميركية (وليس المقصود بـ”الموظفين المدنيين” هنا أساتذة مدارس أو عمال إغاثة طبعاً).
لا يتضمّن ما سبق أصول القوات التابعة والحليفة، إذ تقع تحالفات مثل “كواد” Quad (مشروع إنشاء الناتو الآسيوي من الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا)، ومثل “أوكوس” AUKUS (الذي ستساعد الولايات المتحدة وبريطانيا أستراليا بموجبه على تصنيع غواصات أسترالية تعمل بالطاقة النووية ونشرها، من أجل تعزيز الوجود العسكري الغربي في المنطقة)، ضمن صلاحيات القيادة العسكرية المركزية لمنطقة المحيطين الهادئ والهندي.
شاركت كوريا الجنوبية مثلاً، في هذا السياق، إلى جانب الولايات المتحدة، في حرب فيتنام، ودعمت الاحتلال العسكري الأميركي لأفغانستان والعراق. ولم تتوقف المناورات العسكرية الكبيرة بينها وبين الولايات المتحدة بعد عام 2017 إلّا بعد عامين من وصول رئيس كوري جنوبي إلى الحكم، سعى للتقارب مع كوريا الشمالية.
أمّا بعد تَبَوُّء “زَلْمة الأميركان” يون سوك يؤل، سدة الرئاسة الكورية الجنوبية في 10 أيار/مايو الفائت، على أساس برنامج تعزيز العلاقات بالإدارة الأميركية، عسكرياً وأمنياً، فتصاعدت التوترات في شبه الجزيرة الكورية طبعاً. و”صودف” أيضاً أن وصول يون سوك يؤل إلى السلطة جاء ملائماً جداً للأميركيين، في خضمّ تفاقم أزمة تايوان، ومشروع احتواء الصين كأهم خطر استراتيجي طويل المدى يواجه الهيمنة الأميركية على العالم، بحسب “استراتيجية الدفاع القومي” التي أعلنها البنتاغون رسمياً الشهر الفائت.
ماذا وراء الرد الكوري الشرس على عرض اقتصادي سخي؟
هذا السياق مهم لفهم طريقة تشويه الخبر الكوري إعلامياً. فعندما وقفت كيم يو جونغ، أخت زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون (انتبه لوضع اسم العائلة في البداية، فجدهما هو الرئيس كيم إيل سونغ، وأبوهما هو الرئيس كيم جونغ إيل)، وطلبت إلى الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يؤل، يوم 18 آب/أغسطس الفائت، أن “يغلق فمه”، ووصفت عرضه لكوريا الشمالية، عبر مساعدتها اقتصادياً في مقابل التخلي عن سلاحها النووي، بأنه “سخيف”، قائلةً إن أحداً لا يتخلى عن مصيره في مقابل “كعكة ذرة”، وإن الرئيس الكوري الجنوبي شخص “صبياني” و”ساذج”، جرى تصوير الأمر، في وسائل الإعلام الغربية، كأن السيدة كيم يو جونغ استيقظت من النوم فجأةً يوماً ما، وقررت أن تهين الرئيس الكوري الجنوبي، الذي يمدّ يد المساعدة إلى بلدها!
قدّم الرئيس الكوري الجنوبي العرض ذاته، في خطابه الأول يوم تولّى الرئاسة رسمياً، ولم يستجرّ ذلك ردة الفعل ذاتها من طرف كوريا الشمالية، وإنما أجرت كوريا الشمالية بنجاح تجربة إطلاق صاروخ باليستي أخرى، للمرة الثانية في تاريخها، في 24 آذار/مارس الفائت، بعد أسبوعين من انتخابه، وقبل أن يستلم السلطة رسمياً.
لكنْ، عندما أعاد الرئيس يون سوك يؤل تقديم العرض بمناسبة مرور 100 يوم على استلامه الحكم، كانت القوات الأميركية والكورية تجمّعت من أجل إجراء أضخم مناورات تستهدف كوريا الشمالية منذ عام 2017، عندما أجرت كوريا الشمالية وقتها أول 3 تجارب ناجحة لإطلاق صواريخ باليستية عابرة للقارات.
لم يكن عرض الرئيس الكوري الجنوبي سلمياً، بغض النظر عن موقف كوريا الشمالية تجاهه، بل كان تهديداً مباشراً. لذلك، جاء الرد الكوري الشمالي، على لسان أخت كيم جونغ أون، قبل يوم أو يومين من تلك المناورات، شرساً بالضرورة، من دون أن يضطر الرئيس كيم جونغ أون إلى التنازل للرد عليه شخصياً.
دور اليابان في الاستراتيجية الشرقية للناتو
يُذكَر أن قيادة الجيش الكوري الجنوبي تَؤُول إلى البنتاغون تلقائياً في حالة اندلاع الحرب، وأنه يسعى منذ عقودٍ للحصول على استقلاليته عن الجيش الأميركي. وتُعَدّ مشاركته في مناورات، مثل “درع حرية أولشي”، واحداً من عدة شروط يسعى جاهداً لاستيفائها من أجل نيل تلك الاستقلالية، بينما يماطل الأميركيون، الذين ربما يرون في تصعيد التوتر بشأن شبه الجزيرة الكورية، من شروط إبقاء العملاق الصناعي الصاعد في كوريا الجنوبية تحت بسطار “العم سام” الذي يضع فيها أكثر من 28 ألف جندي أميركي.
أمّا اليابان، فيقبع فيها نحو 55 ألف جندي أميركي، ولم تكد تنتهي المناورات الكبيرة الأميركية – الكورية الجنوبية، والتي استمرت 11 يوماً، في نهاية آب/أغسطس، حتى أُعلنت أول أيلول/سبتمبر مناوراتٌ مشتركة ثلاثية بحرية، تضم اليابان والولايات المتحدة الأميركية وكوريا الجنوبية، في المياه الدولية في بحر اليابان، شرقي الساحل الكوري الشمالي، كان هدفها المعلن مواجهة القدرات البحرية المتنامية لكوريا الشمالية، ولاسيما غواصاتها الـ70، المتقادمة عموماً، باستثناء غواصة تجريبية جديدة، تزعم تقارير غربية أنها قادرة على إطلاق صواريخ باليستية مسلَّحة نووياً.
جرى تصوير المناورات الثلاثية الأميركية – اليابانية -الكورية الجنوبية، إعلامياً، بأنها ردٌّ على إطلاق كوريا الشمالية صاروخين باليستيين شرقاً، قبل بدء تلك المناورات بيومٍ واحد، كأن كوريا الشمالية تتحرش باليابان، من دون ذكر المناورات العسكرية الأميركية – الكورية الجنوبية الضخمة، والجارية في المنطقة آنذاك، ومن دون إيضاحٍ مُفاده أن التخطيط والتحضير لمناوراتٍ غير دورية، لها هذا الحجم، لا يجريان بين ليلةٍ وضحاها.
لم يكن مستغرباً إذاً أن تطلق كوريا الشمالية شرقاً، بعد أقل من أسبوع من المناورات البحرية الثلاثية المعادية، صاروخاً باليستياً ثالثاً عابراً للقارات، ارتفع نحو 1000 كيلومتر في الجو، وسافر من فوق اليابان نحو 4500 كيلومتر، ليحط على بُعد أكثر من 3200 كيلومتر شرقي اليابان. وانطلق ذلك الصاروخ، بالمناسبة، من عمق البر الكوري الشمالي: لا حاجة إلى الغواصات، وكوريا الشمالية قادرة على أن تدافع عن استقلالها.
وذكرت وكالة الأنباء المركزية الكورية الشمالية، يوم الإثنين، أن التجارب العسكرية الأخيرة، التي أجرتها، كانت رداً على التحركات العسكرية الاستفزازية من جانب الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية. وكان آخرها 4 صواريخ باليستية يوم السبت.
استراتيجية مدروسة، لا ردة فعل
ليست هذه بالطبع قائمة تفصيلية بما أطلقته كوريا الشمالية من صواريخ، في وتيرة متسارعة، خلال العام الجاري. في جميع الأحوال، لا يجوز أن نصوّر التجارب الصاروخية الكورية الشمالية بأنها مجرّد تجاوب شرطي مع الاستفزازات الأميركية والكورية الجنوبية واليابانية، وإنما هي نهجٌ تبنته جمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية رداً على التهديد الوجودي لبقائها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية، في وقتٍ كانت الصين معنيةً بتحسين العلاقات بالغرب بصورة عامة، وبالولايات المتحدة بصورة خاصة، بينما تبيَّن لاحقاً أنه استراتيجية اختراق لمنظومة العولمة، تجارياً واستثمارياً.
تسبّب انقطاع الدعم السوفياتي، وما عدّته بيونغ يانغ تخلياً صينياً عنها، بمصاعب جمة لكوريا الشمالية، شعباً واقتصاداً. وبلغت تلك المصاعب ذروتها في أواسط التسعينيات، مع دخول الاقتصاد الكوري أزمة اقتصادية عامة، وانتشار مجاعة قضت على مئات الآلاف، وربما ملايين الكوريين الشماليين، وهو ما فاقمه انقطاع استيراد حوامل الطاقة من الاتحاد السوفياتي، الذي كفّ عن الوجود، وسلسلة من دورات الجفاف والفيضانات التي قضت على المحصولين الزراعي والحيواني، واللذين لم يكفيا كوريا الشمالية يوماً، لأن 80% من أرضها جبلية وعرة تصعب زراعتها، وتقبع في الصقيع 6 أشهر في السنة.
بدأت كوريا الشمالية تخضع للعقوبات في الثمانينيات بتهمة “دعم الإرهاب” والشروع في إقامة برنامج نووي. ولم تكن تلك العقوبات قاصمة من قبلُ. وأصرّت كوريا الشمالية على المُضِيّ قُدُماً في مشروعها النووي، ولاسيما بعد تغوّل الولايات المتحدة على العراق عام 2003. وهي تشير في خطابها رسمياً إلى أن خطأ العراق المُميت كان تخليه عن برنامج أسلحة الدمار الشامل، الذي كان سيحمي العراق من الغزو والاحتلال لو بقي، وتعمق هذا الاستنتاج الكوري من تجربة عدوان الناتو على ليبيا عام 2011، بعد تخليها عن برنامج أسلحة الدمار الشامل عقب احتلال العراق.
انتقلت كوريا الشمالية، في عز أزمتها، اقتصادياً وغذائياً، من برنامج نووي سلمي إلى تطوير قنبلة نووية جرى اختبارها لأول مرة في 9 تشرين الأول/سبتمبر 2006. وهنا انصبت على رأس كوريا الشمالية سلسلةٌ متصلة من حزم العقوبات التي فرضها مجلس الأمن بموافقة روسيا والصين، أو بمحاولتيهما التخفيف من وطأة العقوبات المفروضة في تلك القرارات، التي راحت تتراكم وتخنق كوريا خنقاً، ابتداءً من القرار الرقم 1718، عام 2006، وصولاً إلى القرار 2397 بعد إطلاق كوريا الشمالية صاروخاً باليستياً عابراً للقارات بنجاح، للمرة الأولى عام 2017. وسبق هذه المجموعةَ قراران آخران لمجلس الأمن ضد كوريا الشمالية، أحدهما القرار 825، عام 1993، بعد انسحاب كوريا الشمالية من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، والقرار الرقم 1695، عام 2006، بعد إجراء كوريا الشمالية تجارب لإطلاق صواريخ باليستية.
تبعت تلك القرارات، بعد عام 2017، قراراتٌ أخرى من مجلس الأمن، تُمَدّد عمل اللجان المختصة، والمنبثقة من القرارات السابقة. لكنْ، مع تصاعد التناقضات بين روسيا والصين من جهة، والغرب الجماعي من جهةٍ أخرى، كان المد الدولي تحول، وفي عام 2022، أحبط الفيتو المزدوج أو المعارضة الروسية – الصينية المسبقة استصدار قرارات جديدة من مجلس الأمن ضد كوريا الشمالية، 3 مرات على الأقل: في 26 أيار/مايو، وفي 1 حزيران/يونيو، وقبل أيام، بعد آخر إطلاق صاروخ باليستي كوري شمالي.
أثمر الصبر الاستراتيجي في مواجهة التجويع والحصار الخانقين في المحافظة على مصير بلد صغير نسبياً، يبلغ حجمه أكثر قليلاً من 120 ألف كيلومتر مربع (توجد 13 دولة عربية أكبر منه مساحةً)، ويبلغ عدد سكانه نحو 26 مليوناً، بحسب تقديرات عام 2022.
كذلك، أثمرت أزمتا أوكرانيا وتايوان خيراً بالنسبة إلى علاقة بيونغ يانغ بكل من روسيا والصين. وأثمر احتمال ضغوط روسيا والصين الشديدة على كوريا الشمالية، والصبر في مواجهة الحرب الاقتصادية الضروس، التي يشنها الغرب وحلفاؤه عليها، في الفوز ببرنامجي سلاح نووي متكامل وصواريخ باليستية عابرة للقارات تقضّ مضجع القيادة العسكرية الأميركية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
التحوّلات الدولية بوابة فرج لكوريا الشمالية
لا شكّ في أن القيادة الكورية الشمالية صفّقت فرحاً عندما رأت القاذفات الاستراتيجية الروسية والصينية تُجري مناورات جوية واسعة النطاق فوق بحر اليابان، الذي يفصل بين السواحل الروسية والصينية والكورية من جهة، واليابان من جهةٍ أخرى، بينما كان الرئيس بايدن يُجري محادثات تأسيس التحالف الرباعي “كواد” في طوكيو، لتتابع القاذفات القادرة على حمل أسلحة نووية جولتها إلى بحر الصين الشرقي.
واليوم، باتت روسيا والصين تخطبان ودّ كوريا الشمالية، فهي حجر زاوية لا غنى عنه في مواجهة الهيمنة الأميركية في أقصى الشرق، كما كانت في بداية خمسينيات القرن العشرين في إبّان الحرب الباردة في عزها. وفي 6 أيلول/سبتمبر الفائت، اتهمت وزارة الخارجية الأميركية روسيا بأنها على وشك شراء ملايين الصواريخ وقذائف المدفعية من كوريا الشمالية لاستخدامها في أوكرانيا.
كان من المنطقي أن تعود كوريا الشمالية إلى سابق أهميتها الجغرافية – السياسية في عين كل من روسيا والصين مع تصاعد التوترات الدولية، وصار لا بد من تعزيز دفاعاتها وحمايتها استراتيجياً، لأن حدودها مع الصين تمتد 1352 كيلومتراً، وأغلبية تجارة كوريا الشمالية تمرّ عبر الصين.
أمّا حدودها القصيرة مع أقصى الشرق الروسي، فتمتد 17 كيلومتراً في البر، ونحو 22 كيلومتراً في البحر. والحدود الروسية – الكورية الشمالية، على الرغم من قصرها، تمثل شرياناً حيوياً لروسيا، لأن سكة حديد تمرّ عبرها إلى مرفأ راسون الكوري، الذي لا يتجمد شتاءً، على عكس مرفأ فلاديفوستوك الروسي، ليصبح المرفأ الكوري رئة أقصى الشرق الروسي في الشتاء. ولهذا، تدير شركة روسية أحد أرصفته الثلاثة.
هدّدت الإدارة الأميركية كوريا الشمالية، الأسبوع الفائت، على لسان الناطق باسم الخارجية الأميركية، نيد برايس، في مؤتمر صحافي، بـ”ثمن باهظ وعواقب وخيمة”، إذا أجرت اختباراً سابعاً للسلاح النووي. فلماذا التوقف عند الاختبار السابع تحديداً للسلاح النووي الكوري الشمالي، لا العاشر أو الثاني عشر؟! وهل أصبح تهديد كوريا الشمالية عسكرياً ذريعةً لحشد القوى في أقصى الشرق ضد روسيا والصين؟
لم تتوقف كوريا الشمالية عند الماضي، على رغم الألم، واصطفّت فوراً مع روسيا في أوكرانيا ومع الصين في أزمة تايوان. ويدرس الاستراتيجيون الأميركيون حالياً إمكان تدخل كوريا الشمالية إلى جانب الصين عسكرياً بصورة مباشرة، إذا اشتعل مضيق تايوان، أو بصورة غير مباشرة، عبر إشغال القوات الأميركية في كوريا الجنوبية واليابان وجزيرة غوام، من خلال إشعال الجبهة الكورية.
ثروة من المعادن الكورية الشمالية قيمتها تريليونات الدولارات
لكن كوريا الشمالية ليست موقعاً جغرافياً – سياسياً حساساً فحسب، بل تحتوي أرضها على أكثر من 200 نوعٍ من المعادن، بعضها من الصنف النادر. وقدّرت قيمتها شركة التعدين التابعة للدولة في كوريا الجنوبية بـ6 تريليونات دولار (بحسب موقع “بلومبيرغ” في 20/1/2012)، وقدّر قيمتها مركز أبحاث كوري جنوبي بـ10 تريليونات دولار (بحسب موقع “ذا إيكونومست” في 5/5/2016). ومن هذه المعادن احتياطات مثبتة ومحتملة من الحديد والزنك والنحاس والذهب والغرافيت (المادة الموجودة في أقلام الرصاص) والتنغستون (المادة الموجودة في أسلاك لمبات الإنارة) والكلس، وغيرها كثير، بالإضافة إلى احتياطيات مثبتة من أجود أنواع الفحم، واحتياطيات محتملة من النفط والغاز.
العائق أمام استخراجها؟ نقص رأس المال، وتخلُّف وسائل التعدين تكنولوجياً، وخوف الشركات العالمية، وحتى الصينية والروسية منها، من الوقوع تحت ربقة العقوبات. لذلك، بمقدار ما يتفاقم الصراع بين روسيا والصين والقوى الصاعدة من جهة، والغرب وأذنابه من جهةٍ أخرى، بمقدار ما ينفك عقال الطاقات الاقتصادية الضخمة الكامنة في الجبال الكورية. والشركات الصينية وغيرها قادرة، عندما يزول الخوف من العقوبات، على أن تحوّل كوريا الشمالية إلى جنة خلال عامين أو ثلاثة ربما.
موقف مبدئي ثابت تجاه الكيان الصهيوني
أخيراً، وليس آخراً، تستحق كوريا الشمالية منا كل الدعم والتأييد، لأنها من الدول القليلة في العالم التي ما برحت تصر على رفض حق الكيان الصهيوني في الوجود، ولأنها ترفض أي شكل من أشكال التطبيع معه، حتى بعد اتفاقيتي أوسلو ووادي عربة وكل الانهيارات.
وفي عام 1988، عندما اعترف المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر بحق الكيان الصهيوني في الوجود في الأرض المحتلة عام 1948 (تحت ستار “إعلان الدولة”)، أعلنت كوريا الشمالية أنها تعترف بفلسطين على كامل التراب الوطني الفلسطيني، وأنها تعدّ الجولان بكامله أرضاً سورية. ويكفي هذا وحده كي نقف معها بكل ما نملك من قوة، فما بالكم إذا كانت قلعةً شامخةً في مواجهة الإمبريالية أيضاً؟
المصدر: الميادين