كفرشوبا اللبنانية.. كيف نجحت في إفشال مخطط “جسّ النبض” الإسرائيلي؟
العين برس / تقرير
زهراء رمال
تمكّن الأهالي من دخول أراضٍ لبنانية خلف “خط الانسحاب” كانت تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، ورفعوا العلم اللبناني على تلّة فيها، مقابِلة لموقع السماقة، مؤكدين أنّ هذه الأرض لا تتسع لهويتين، “إما نحن، أو نحن”.
كل العيون اتجهت خلال الساعات الأخيرة نحو بلدة كفرشوبا المحتلة، جنوبي لبنان، في إثر التوترات التي شهدتها القرية الواقعة عند مثلث الحدود اللبنانية – السورية – الفلسطينية، مع قوات الاحتلال الإسرائيلي.
مرتفعات وتلال البلدة شهدت، صباح الجمعة، مواجهات بين عدد من الشبان من أبناء منطقة العرقوب وكفرشوبا، بمؤازرة من الجيش اللبناني، في مواجهة قوات الاحتلال، للتأكيد على “لبنانية” تلال كفرشوبا ومزارع شبعا، وعدم الاعتراف بما يسمى “خط الانسحاب”، الذي رسمته الأمم المتحدة بعد انسحاب الاحتلال وتحرير الجنوب في العام 2000.
من أشعل فتيل شرارة هذه الأحداث، هي قوات الاحتلال الإسرائيلي، التي نشطت، بشكلٍ غير اعتيادي، خلال الأيام السابقة في منطقة العرقوب، وتحديداً في تلال كفرشوبا. إذ تحاول هذه القوات إحداث تغييرٍ في معالم المنطقة، من خلال حفر خنادق وتجريف أراضٍ، تمهيداً لتمديد سياجٍ حديدي جديد، بين موقع السماقة وبوابة حسن المحاذية لبركة بعثائيل في خراج البلدة.
قبل يومين، كانت بداية التصعيد. ابن البلدة، أبو بلال خليفة، أكد للميادين نت أنّ قوات الاحتلال كانت قد أحضرت يومها جرافات عملاقة، وبدأت تتقدم عند “خط الانسحاب”، وحفرت خنادق من منطقة المجيدية حتى تلال كفرشوبا إلى حدود تلال شبعا، لتثبيت بلوكات حجرية في نقطة تتعدى الخط. لم يتحمّل أهل القرية هذا العدوان، فقام جزء من الرعاة من أصحاب الأرض بمنع الجرافات الإسرائيلية من حفر خنادق جديدة في الأرض وتخريبها، بحسب ما تابع.
بطل هذا المشهد كان ابن البلدة، المزارع إسماعيل ناصر، الذي أظهرته عدسات الكاميرا وهو يواجه بجسده الاعتداء الإسرائيلي، ليقف صامداً “باللحم الحي” في وجه الجرافة الإسرائيلية المدّرعة التي اعتدت على أرضه، مؤكداً أنّ “هذه الأرض هي أرض الأجداد، ولن نتخلّى عنها ونتركها لإسرائيل”.
في إثر ذلك، استنفر الجيش اللبناني وقوات “حفظ السلام” الدولية -“اليونيفيل”- عناصرهم، فيما واكبت دبابة إسرائيلية الجرافة التي اضطرّت إلى التراجع واستكمال الأعمال من خلف “خط الانسحاب”، بمواكبة من الجنود الإسرائيليين الذين تجمعوا خلف تلّة مطلة على المكان في الأراضي المحتلّة من جهة فلسطين المحتلة.
ولاحقاً، تمكّن الأهالي من دخول أراضٍ لبنانية خلف “خط الانسحاب” كانت تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، ورفعوا العلم اللبناني على تلّة فيها، مقابِلة لموقع السماقة، مؤكدين أنّ هذه الأرض لا تتسع لهويتين، “إما نحن، أو نحن”.
إلا أنّ الأمر لم ينتهِ هنا.
أهل الأرض “بالمرصاد”
“العدو الإسرائيلي منذ أن احتلّ هذه الأرض يعمل ليل نهار من أجل قضم الأراضي والتوسع فيها”، يخبرنا أبو بلال خليفة. وبالفعل، قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي، الخميس، بأعمال تجريف خارج ما يُعرف بـ”خط الانسحاب”، ليسارع أهالي البلدة إلى التصدي لها.
والأمر لم يقتصر عنذ هذا الحدّ، إذ ثبّت جنود الاحتلال أيضاً أسلاكاً معدنية قرب هذا الخط، لمنع عبور الرعاة والمزارعين إلى الأراضي المحتلة على غرار ما حصل في اليوم السابق.
إلا أنّ هذا الفعل لم يمرّ مرور الكرام عند الأهالي، حيث توافد، الجمعة، العشرات من أبناء كفرشوبا وشبعا وكفرحمام وباقي قرى العرقوب لتنفيذ وقفة احتجاجية، استنكاراً لأعمال التجريف وتغيير معالم الأرض.
بطبيعة الحال، شهد هذا الاعتصام تضامناً كبيراً من أهل القرى المجاورة مع أهالي كفرشوبا، حيث أكد خليفة للميادين نت أنّ جزءاً كبيراً من أبناء قرى الجنوب “دعمونا وشاركوا معنا في التظاهرة”، مشيراً إلى أنّ شبان البلدة قاموا بإزالة الأسلاك الشائكة التي وضعها الاحتلال الإسرائيلي، وردموا نفقاً أقامه في المنطقة.
وتابع بأنّ قوات الاحتلال الإسرائيلي “قامت بقصفنا بالقنابل الدخانية رداً على هذه المظاهرات”، مؤكداً سقوط أكثر من 11 جريحاً بسبب الأسلاك الشائكة، إلى جانب الاختناق بالقنابل المسيلة بالدموع.
في غضون ذلك، استقدمت قوات الاحتلال دبابة ميركافا وجنوداً من موقع السماقة المحتل إلى نقطة التوتر مع الجيش اللبناني في كفرشوبا. في المقابل، تربّصت وحدات الجيش اللبناني عند الحدود لحماية المعتصمين، موجهةً أسلحتها باتجاه الآلية العسكرية للاحتلال، مؤكدةً بذلك أنّ إرادة القتال لديها راسخة لا تتزحزح.
في هذا الوقت، اكتفت قوات “اليونيفيل”، كعادتها، بمشاهدة قوات الاحتلال خلال اعتدائها على الأهالي، بحجة أنّ الحفريات تجري خلف “خطّ الانسحاب”، في حين نفّذ الجيش انتشاراً في المنطقة الحدودية.
وفي تحدٍّ لقوات الاحتلال، أقام أهالي كفرشوبا والعرقوب الصلاة ظهراً قرب شريط “خط الانسحاب” حيث كان الجنود ينتشرون بدرجة الاستنفار، قبل أن يغادروا المنطقة بعد هدوءٍ نسبي.
تاريخ طويل من المقاومة
على الرغم من أنها المرة الأولى التي تجرؤ فيها قوات الاحتلال على تغيير معالم المنطقة منذ انسحابها من لبنان عام 2000، إلا أنها، وخلال كل أعمالها المعادية خلال الأيام الأخيرة في تلال كفرشوبا، لم تجرؤ جرافاتها على تجاوز “خط الانسحاب”، ولو لمترٍ واحد.
ما حدث هناك ليس بالأمر المستغرب، فالبلدة معروف عنها مقاومتها للمحتلين والأعداء من أيام الحكم الروماني، ومن تعاقب عليها من المحتلين خلال العقود الماضية، بحسب مؤرخين. فكفرشوبا كانت موقعاً مهماً للجيشين التركي والفرنسي في ما مضى، حيث عُرف عن أبناء البلدة مواجهتهم للجيشين. مقاومة أهالي كفرشوبا للعدوان، على اختلافه، استمرّت مع توالي السنين، وصولاً إلى مقاومتها الاحتلال الإسرائيلي، حيث كانت من أوائل القرى المناهضة له.
واشتهر شباب كفرشوبا خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي بمقاومتهم لهذا الاحتلال، حيث قدّمت البلدة عدداً من الشهداء، بالإضافة إلى زجّ العشرات من شبابها في معتقلات وزنازين أنصار، الخيام، مرجعيون، حاصبيا، عتليت وعسقلان في فلسطين المحتلة.
تاريخياً، اعتدت قوات الاحتلال الإسرائيلي على البلدة واجتاحتها عدة مرات في سنوات 1970 و1972، واحتلّتها عام 1975 حيث هدمت القرية بأكملها تقريباً وتضررت معظم المنازل. ووقع آخر اجتياح لها عام 1982، احتلّت بموجبه القرية حتى الـ25 من أيار/ مايو 2000، عندها انسحب “جيش” الاحتلال من جنوب لبنان باستثناء مزارع شبعا و تلال كفرشوبا.
حق لبناني مغصوب
جغرافياً، تقع منطقة مزارع شبعا وكفرشوبا في الجزء الواقع بين لبنان وسوريا. وهذا الجزء تمّ ترسيمه والتأكيد عليه في العام 1946، بموجب أعمال لجنة غزاوي وخطيب، وهي لجنة مختصة لبنانية-سورية، تتألف من قاضٍ لبناني هو رفيق غزاوي وآخر سوري هو عدنان الخطيب، توصّلت إلى رسم هذا الخط، ووضعت مزارع شبعا وكفرشوبا وتلالها ضمن الأراضي اللبنانية.
وفي هذا الصدد، قال العميد اللبناني المتقاعد، والخبير في الشؤون العسكرية، أمين حطيط، للميادين نت، إنه “عندما كُلّفنا في العام 2000 بالتحقق من الاندحار الإسرائيلي من جنوب لبنان، وصلنا إلى مرحلة التأكيد على خط الحدود، وهو الخط الذي يفصل بين لبنان وفلسطين، والخط الذي يفصل لبنان وسوريا”.
وتابع بالقول: “تقدّمنا للأمم المتحدة بالخرائط والوثائق التي تؤكد على خط الحدود، في جزئيه الفلسطيني والسوري”، مشيراً إلى أنّ الأمم المتحدة “حاولت أن تناور” لأنها ترغب في إبقاء الاحتلال في منطقة كفرشوبا ومزارع شبعا.
ووفق حطيط، توصّل لبنان والأمم المتحدة بعد نقاش إلى تفاهم يتمسّك لبنان بموجبه بحدوده الدولية التي تصل إلى وادي العسل، فيما تمسّكت الأمم المتحدة بخطها الذي سُمّي بـ”خط الانسحاب”، مع تفاهم لبناني أممي على أنّ الواقع المتحفظ عليه على الأرض يبقى كما هو دون مسّ أو تعديل.
وبموجب ذلك، كانت هناك 3 مراكز إسرائيلية عسكرية في مناطق تلال كفرشوبا ومزارع شبعا، هي “رويسات العلم” و”سماقة” و”حرمون”، وبقيت هذه المراكز على حالها بانتظار الحلّ، بحسب ما تابع العميد اللبناني.
وبعد انتصار لبنان في حرب عام 2006، وبموجب القرار الصادر عن مجلس الأمن في ذاك العام بعد العدوان الإسرائيلي، كلّفت الأمم المتحدة قوات “اليونيفيل” بالبحث عن حلّ لمزارع شبعا لإنهاء الاحتلال القائم فيها، لكن هذا الحل لم يأتِ حتى الآن.
العدوّ “يجسّ النبض”
23 عاماً مضت، وواقع تلال كفرشوبا ومزارع شبعا هو واقعٌ قائم على عناصر ثلاثة، الأول مطالبة لبنان وإثباته للبنانية المزارع، إلى جانب دعمٍ سوري للبنان في موقفه. العنصر الثاني هو “الرفض الأممي للمطالب، وتحفظ بانتظار حل مسألة الشرق الأوسط”، أما العنصر الثالث، فهو “إبقاء الوضع دونما تغيير على الأرض، لا تقدم ولا تراجع، بانتظار الحل”.
يرى حطيط أنّ “إسرائيل” تمتلك خطّة بلورتها من أجل قضم شيءٍ من الأراضي اللبنانية في تلك المنطقة، تعتمد فيها استراتيجية “جسّ النبض”، فإذا سكت لبنان عن أفعالها العدوانية يصبح القضم ضماً بعد ذلك بالأمر الواقع، واذا رفض لبنان وواجه، تتراجع “إسرائيل” وكأنّ شيئاً لم يكُن.
وهنا تكمن أهمية التصرف الذي قام به أهالي المنطقة، مدعومون من الجيش اللبناني، في رفض أعمال التجريف، لأنّ في هذا الرفض والحركة الاحتجاجية إفشالٌ للاحتلال في استراتيجة “جسّ النبض”، وهذا موقفٌ يسجّل للشعب اللبناني في معارضته، ويسجّل للجيش اللبناني أيضاً وقفته.
وأكد العميد اللبناني للميادين نت أنّ خط “الانسحاب” الذي تدّعيه الأمم المتحدة هو خط وهمي ليس له أي قيمة قانونية، مشدداً على أنّ ما يملك قيمة قانونية هو خط الحدود الدولية، مع فلسطين وسوريا.
هذا واعتبر حطيط أنّه في هذه المرحلة بالذات، هناك مستجد حصل للاحتلال الإسرائيلي استند إليه ليرسم خطوطاً وأسلاكاً شائكة، موضحاً أنه بعد مناورة المقاومة الأخيرة في عرمتا وجد العدو في دراسته لبنيته الدفاعية، أنّ منطقة مزارع شبعا هي “خاصرة رخوة” يمكن أن ينفذ منها المقاومون، لذلك اتجه إلى بناء التحصينات والإنشاءات في تلك المنطقة، ليدعم وضعه الدفاعي.
كذلك، أكد أنّه لدى الاحتلال الإسرائيلي مصالح جغرافية واقتصادية وأمنية في منطقة مزارع شبعا، لاسيما وأنها تعتبر “المفتاح الغربي” للجولان السوري المحتل، لذلك يتمسك بهذه المنطقة.
ووفق قوله، فإنّ منطقة مزارع شبعا والجولان “تضمّ بحيرةً مائية تحت الأرض، يمكن للعدو عندما يستقيم له الوضع ويفضّ النزاع وتبقى المنطقة كما يعتقد بيده، أن يستفيد من الخزان المائي الكبير”.
في غضون ذلك، شدّد على أنّ المقاومة اللبنانية في مواجهة العدو تعتمد بشكلٍ دقيق “مبدأ التناسب والضرورة”، وهي في هذا المجال تعرف أين ومتى وكيف تتدخل إذا تهدد الأمن الوطني أو السيادة الوطنية.
ولا شكّ في أنّ المقاومة تُعتبر اليوم في أعلى درجات جهوزيتها، فإذا أمعن الاحتلال في استفزازه ولم يستجب للضغط الشعبي والعسكري، ولم تتبادر الدولة اللبنانية للقيام بما يتوجب عليها، سيكون “آخر الدواء الكي” وسيكون للمقاومة رأيٌ آخر في هذا الموضوع. والكل يعلم أنّ المقاومة قابضة على الزناد، وهي جاهزة دائماً ولا تفوّت أمراً عند حلول أجله.
قناة الميادين