تستضيف قرغيزستان وطاجيكستان على أراضيهما قواعد عسكرية روسية ثابتة قادرة على تنفيذ عمليات برية محدودة؛ وتعتمدان عسكرياً وأمنياً اعتماداً كبيراً على روسيا.
ظلّت آسيا الوسطى أكثر من 70 عاماً جزءاً من الاتحاد السوفياتي، وبسقوطه نالت دولها الخمس استقلالها، إلا أنها بقيت ضمن الحدود السوفياتية السابقة.
ولدت الدول الجديدة مع نزاعات حدودية، ولم تسعَ لتأسيس أي مسار تكاملي فيما بينها، لم تلاقِ في البدء الاهتمام والتركيز سياسياً واقتصادياً وحتى ثقافياً من روسيا، لكن في مرحلة ثانية، أي في منتصف التسعينيات، استندت روسيا في علاقتها بآسيا الوسطى إلى مبادئ “عقيدة بريماكوف”، فنجحت، جزئياً، في استعادة دورها كمركز نفوذ، وركّزت علاقاتها العسكرية والأمنية المشتركة بتلك الدول، ما منحها نفوذاً عسكرياً كبيراً، سواء في الأطر الثنائية أو الإطار الجماعي الذي مثَّلته معاهدة الأمن الجماعي التي أسّست عام 1992.
في المرحلة الثالثة وبوصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى السلطة عام 2000 عزّز حضور موسكو في بلدان آسيا الوسطى، إذ استعملت أدوات نفوذها التي تمثّلت في وجود النخب ذات التوجه الروسي، والروابط الثقافية، وتأثير وسائل الإعلام، والعلاقات في المجالات الاقتصادية والأمنية.
ومع أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 جرى التركيز على رفض الانتشار الأميركي في المنطقة بعد حرب الأخيرة على أفغانستان، وتحوّلت معاهدة الأمن الجماعي عام 2003 إلى منظمة تمتلك قوات مشتركة للرد السريع، وقد ضمّت في عضويتها إلى جانب روسيا وبيلاروسيا وأرمينيا ثلاث دول من آسيا الوسطى، هي: كازاخستان، وقرغيزستان، وطاجيكستان.
سياسة روسيا ومتغيراتها مع دول آسيا الوسطى
تستضيف قرغيزستان وطاجيكستان على أراضيهما قواعد عسكرية روسية ثابتة قادرة على تنفيذ عمليات برية محدودة؛ وتعتمدان عسكرياً وأمنياً اعتماداً كبيراً على روسيا.
تعد طاجيكستان إحدى أفقر الجمهوريات السوفياتية سابقاً، وتربطها بروسيا علاقات قريبة جداً اقتصادياً، حيث يعمل أكثر من مليون مهاجر هناك، إلى جانب ما تحصل عليه من موارد الطاقة، فضلاً عن تحالف أمني وعسكري، وتنسيق في مواجهة تسلّل الإرهابيين وتهريب الأسلحة والمخدرات عبر حدودها المشتركة مع أفغانستان. وقد جرى تمديد معاهدة الوجود العسكري الروسي حتى 2042.
وكانت الولايات المتحدة قد نشرت قواعد في أعقاب 11 من أيلول/سبتمبر، وحصلت على تسهيلات عسكرية لها في مطار “خان آباد” العسكري بأوزبكستان، لضرب “الإرهاب”، إلا أن الدولة الأوزبكية تراجعت عام 2005 وطلبت سحب القوات الأميركية بذريعة أن “السياسة الدفاعية للدولة تقوم على مبدأ عدم المشاركة في عمليات حفظ السلام والنزاعات العسكرية في الخارج”.
انسحبت القوات الأميركية إلى مطار “ماناس” في قيرغيزستان التي طلبت عام 2015 سحب القوات الأميركية، بإيعاز من روسيا.
شكلت كازاخستان وتركمانستان بقدراتهما الإنتاجية والاحتياطيات النفطية والغاز وموقعهما على بحر قزوين مركزاً مهماً بالنسبة إلى روسيا. تتشابك المصالح المتعلقة بالطاقة مع الاهتمامات الجيوسياسية لروسيا، فهي تنظر إلى الطاقة على أنها رأسمال يجري توظيفه.
تطور سياسة روسيا تجاه آسيا الوسطى
شددت وثيقة “استراتيجية الأمن القومي الروسية” عام 2013 على الحاجة إلى تعزيز منظمة معاهدة الأمن الجماعي ومنظمة شنغهاي للتعاون وغيرها من المنظمات، وعلى تطوير التعاون الثنائي في المجالين العسكري والسياسي.. وحددت استراتيجية الأمن القومي حتى عام 2020 المخاطر التالية: تطوير العقلية القومية، وكراهية الأجانب، والانفصالية.
أدى الموقع الجغرافي السياسي الحيوي، والتعاون مع رابطة الدول المستقلة أي الدول الأعضاء، دوراً في ضمان الأمن المتبادل، بما في ذلك الجهود المشتركة لمكافحة الإتجار بالمخدرات والجريمة والهجرة غير الشرعية. والتركيز على العوامل المزعزعة للاستقرار.
تطورت نظرة روسيا الجيوسياسية في آسيا الوسطى، وتمثلت مصالحها الأساسية في الحفاظ على مجال نفوذها وإبعاد النفوذ الغربي وتأمين المنطقة من التهديدات الخارجية والداخلية للاستقرار، خصوصاً فيما يتعلق بالآثار غير المباشرة من أفغانستان مع اكتساب مبادرة الحزام والطريق في بكين زخماً.
باتت المنطقة محل استقطاب من قوى غربية، خصوصاً الولايات المتحدة، التي توليها اهتماماً خاصاً بعد انسحابها من أفغانستان، فضلاً عن التطلعات الصينية والأوروبية التي تجعلها محل اختبار للنفوذ الروسي، وتطرح مدى قدرة موسكو على احتواء الخلافات في آسيا الوسطى، وفي مقدمها الأزمة الحدودية بين طاجيكستان وقرغيزستان، حيث واكب اندلاع الاشتباك الحدودي بينهما انعقاد قمة “منظمة شنغهاي” بمدينة سمرقند في أوزبكستان.
تضم منظمة شنغهاي للتعاون حالياً ثماني دول أعضاء، وهي أوزبكستان، وباكستان، وروسيا، والصين، وطاجيكستان، وقيرغيزستان، وكازاخستان، والهند وأخيراً إيران التي تتمتع إلى جانب تركيا بقدر من التأثير في دول آسيا الوسطى الخمس بحكم الامتدادات اللغوية والعرقية.
إلا أن مشكلات المعارك الحدودية تشكل ثغرة كبيرة في سياسة روسيا تجاه دول آسيا الوسطى، إذ لم تستطع من خلال “منظمة معاهدة الأمن الجماعي” وغيرها من المؤسسات الإقليمية التي تقودها أن تؤثر في تحديد الحدود الموروثة من العهد السوفياتي، ولم يكن لها إلا تأثير ضئيل في إدارة هذه الأزمات.
فالسياسة الروسية التي كانت تتكئ لزيادة سيطرتها على لجوء الدول المتنازعة إليها لحل مشكلاتها الحدودية، أصبحت غير مفيدة، بعد ظهور طامحين إلى منافستها في ظل انهماكها بحربها في أوكرانيا. لا سيما أن بعض التحليلات رأت أن الولايات المتحدة هي من أججت الخلافات بين طاجيكستان وقيرغيزستان في فترة افتتاح قمة سمرقند.
وعلى الرغم من جهود الرئيس الروسي بوتين لرأب الصدع ووقف الاشتباكات، ورغبة الرئيسين الطاجيكي والقرغيزي في إيقافها، بقيت مستمرة، كما أن اندلاع النزاع بين أرمينيا وأذربيجان في توقيت انعقاد القمة كان المقصود منه أميركياً التشويش على القمة وإفسادها، فيما اتخذها الرئيس الأرميني نيكول باشينيان ذريعة للتغيب عن القمة لاستقبال نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأميركي التي كانت في زيارة لأرمينيا.. وكان عنوان زيارتها التدخل في الشؤون الأرمينية، ودعم المعارضة هناك والتدخل في العلاقة الأرمينية الإيرانية.
كان لافتاً قبل القمة، وعلى الرغم من انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، لقاء وزير الخارجية الأميركية انتوني بلينكن نظراءه في دول آسيا الوسطى الخمس، من خلال إطار عمل “C5 + 1” وهي قمة دبلوماسية تعقد سنوياً منذ عام 2015 لتحسين العلاقات وتقويتها.
أما المناورات المشتركة التي جرت في آب/أغسطس الماضي، بين بلدان آسيا الوسطى والولايات المتحدة، باسم “التعاون الإقليمي -2022” في طاجيكستان، فأدت إلى غضب موسكو التي سارعت إلى إعلان رفض إجرائها على مقربة مباشرة من حدودها وحدود الصين، فيما قام باتروشيف سكرتير الأمن القومي الروسي بتنبيه بلدان المنطقة ومنظمة شنغهاي للتعاون، بضرورة استيعاب المخاطر التي تعنيها مثل هذه المبادرات الأميركية على الأمن القومي، في ظل الحرب الروسية الأوكرانية.
تولي الصين موقع آسيا الوسطى أهمية قصوى، كجزء من مشاريع العبور البري لمبادرة الحزام والطريق التي تربطها بأوروبا والشرق الأوسط، وتدرك مدى غنى تلك الأراضي بالموارد الطبيعية وخصوصاً في مجال الطاقة.
تظل علاقات طاجيكستان بالصين، التي تشهد تنامياً ملموساً على الصعيد الاقتصادي، مهمة جداً، إلى جانب موقعها الجيوسياسي وأهميته بالنسبة إلى مكافحة الإرهاب. تبدو العلاقة قريبة من تلك التي ترتبط بها مع أوزبكستان في إطار الشراكة الاستراتيجية الشاملة والتنسيق في الشؤون الدولية والإقليمية.
تبدو آسيا الوسطى كميدان للتنافس الدولي بحكم موقعها الاستراتيجي ومواردها، فضلاً عن ضعف أنظمتها الوطنية التي ترى واشنطن إمكانيةً لاختراقها، في ظل التنافس الحاد بينها وبين روسيا والصين الملتزمتين بالعمل معاً، حيث تتولى روسيا القيادة في الشؤون العسكرية الإقليمية والاستقرار السياسي، مع أنها بدأت تنحو منحى الاستثمار في إطار المنافسة ليس مع الصين وحسب، وإنما مع محاولة الولايات المتحدة المبادرة في الشؤون التنموية والاستثمار في المنطقة.
كذلك عقدت روسيا وأوزبكستان، على هامش قمة سمرقند، تعاوناً من أجل “إنشاء مجمعات صناعية مشتركة في المناطق التابعة لأوزبكستان، وعقد المنتدى المقبل لمنطقتي أوزبكستان وروسيا في تشرين الأول/أكتوبر”، كما ترى موسكو أن أوزبكستان اليوم هي الرائد من حيث عدد الفروع الأجنبية للجامعات الروسية، على مدى السنوات الأربع الماضية، بعد افتتاح فروع الـ12 جامعة روسية بما يصل مجموعها إلى 15 جامعة.
تحاول الولايات المتحدة في ظل صراعها المعلن مع روسيا والصين تثبيت اختراقات في آسيا الوسطى لضرب مشروع الحزام والطريق، وفي تايوان من أجل جر الصين إلى حرب بالوكالة، في ظل سعيها للحفاظ على سيطرتها الأحادية المهددة من روسيا والصين تحديداً.
بقلم هدى رزق
المصدر: الميادين