العين برس:
الأحلاف على شاكلة الناتو فقدت قدرتها على البقاء في النظام الدولي المقبل، لماذا؟
رئيس تحرير مجلة “روسيا في السياسة العالمية”، فيودور لوكيانوف، يقول في مقال له إن حلف شمال الأطلسي ليس مجرد تكتل من التكتلات العسكرية السياسية، ويقول إت النظام القائم على القواعد كان العلامة التجارية الرئيسة للغرب في السنوات الأخيرة.
فيما يلي نص المقال كاملاً:
لخص رئيس مجلس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، قمة الناتو التي عقدت في مدريد في حزيران/يونيو بأنها “إشارة وحدة أرسلتها الديمقراطيات التي تقف في صفوف صلبة للدفاع عن النظام الديمقراطي وقيم الحرية والتعددية السياسية وحقوق الإنسان، والنظام الدولي المثبت بقواعد”.
في الوقت نفسه، أكّد المشاركون جميعاً في المنتدى، وعلى درجة غير مسبوقة من الإجماع، أنهم وضعوا جانباً كل التناقضات لمواجهة العدوان الروسي.
إن حلف شمال الأطلسي ليس مجرد تكتل من التكتلات العسكرية السياسية. وليست القضية في أنه أكبرها وأكثرها قوة. لقد أصبحت هذه المجموعة في وقت ما نموذجاً لما يجب أن يكون عليه أي تحالف، بصرف النظر عمن يحاول إنشاءه، وأين. ومن هنا جاءت الاستعارات العديدة من مثل: “ناتو الشرق الأوسط” و”ناتو المحيط الهادئ” فضلاً عن “الناتو الروسي”، كرديف لتسمية منظمة معاهدة الأمن الجماعي. إن حلف الناتو تحديداً هو الذي يعبر بما يرتبط بـ”نهاية التاريخ” الصحيحة.
لم تنشأ هذه السمعة لحلف الناتو من الصفر. إذ شكلت نهاية الحرب الباردة (كما اتضح فيما بعد) صورة جذابة جداً لحلف شمال الأطلسي. وحقق التكتل نصراً باهرًا سياسيًا وعقائديًا، وتجاوز المنافسة من حيث الراحة المادية والجاذبية، وفي الوقت نفسه لم يكن بحاجة إلى استخدام القوة العسكرية واحتمال التكاليف المرتبطة بذلك.
إن القوة المعنوية والأفكار والاقتصاد، التي أبداها الحلفاء بقيادة أميركا، كسرت العدو الذي تسبب بالرعب طوال عقود. أليس على الجميع أن يبحثوا عن مثل هذه المجموعة، عند السعي للانضمام إليها، أو إنشاء مجموعتهم الخاصة المشابهة لها؟
لكن التجربة تظهر أن الخيار الثاني لا يمكن تنفيذه. كما حصل مع مظمة معاهدة جنوب شرقي آسيا، و ميثاق أمن المحيط الهادئ ومنظمة الديمقراطية والتنمية الاقتصادية، وما إلى ذلك، وما ثبت شيء واحد فقط وهو أن المنظمات الإقليمية، التي تبدو مستوحاة من مثال الحلف الأطلسي، غير قابلة للحياة.
وحتى المنصات التي جرى تكييفها إلى أقصى حد مع حلف الناتو في عصر صعوده، كمنظمة الديمقراطية والتنمية الاقتصادية (والتي، في الواقع، صوّرت كنوع من غرفة ارتداء الملابس للتقارب الأوروبي الأطلسي)، انهارت بسرعة.
كذلك فإن معاهدة طشقند، التي أطلقتها روسيا في وقت من الأوقات، والتي على أساسها أنشئت منظمة معاهدة الأمن الجماعي، كانت أيضًا محاولة لإعادة إنتاج نوع العلاقات الناتوية.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، كان من المهم لموسكو إضفاء الطابع المؤسسي على دورها المركزي في مواجهة الانتشار المتزايد للهياكل الأطلسية إلى أوراسيا. لكن لم يحدث شيء مشابه لحلف الناتو، وبمرور الوقت أصبح من الواضح أن هذا مستحيل، بل وليس ضروريًا.
يكمن سر حلف شمال الأطلسي في ما قاله سانشيز في البداية: الحلف قاسم مشترك لأفكار المشاركين في كيفية بناء الدولة الحديثة، والأفكار اللازمة لوجودها، وكيف ينبغي إدارة العمليات الدولية على النحو الصحيح. لكن كل هذا لا يجعل حلف الناتو فريدًا، ولا يضاهى الآخرين في التشكيلات الأخرى فحسب، بل يجعله ضعيف التكيف في أداء وظيفته بفعالية في الفترة المقبلة.
يبدو أن الادعاء الأخير أصبح خطأً الآن، بعد ادّعاء أن بوتين وحّد حلف الناتو، وبث روحًا جديدة فيه، وإعطى مغزىً لمنظمة ما زالت منذ ثلاثين عاماً تبحث لنفسها عن مهمة.
لنترك جانباً السؤال القائل: إن جوهر التهديد الذي شكله الاتحاد السوفياتي للغرب، والذي قدّم خدمة فعلية كأداة توحيد قوية، يختلف تمامًا عما يُنسب الآن إلى روسيا. لنفترض أن أعضاء الحلف من أيسلندا إلى البرتغال، ومن ألبانيا إلى السويد، يعتقدون حقًا أن بوتين يسعى لغزو أوروبا. لكن حتى هذا الافتراض المشكوك فيه لا يسمح لنا بالتجرّد من الظروف الموضوعية التي تؤثر في أسس وحدة الناتو.
لنبدأ من موضوع بناء الدولة، فالمناقشات في حسنات الديمقراطية وسيئاتها، لا معنى لها خارج مجال الدعاية. ومع ذلك، وفي ظل ظروف الأزمة العالمية متعددة الوجه، تواجه البلدان جميعاً من دون استثناء، وبصرف النظر عن شكل منظمتها، أشد التحديات.
إن حلّ المشكلات الناشئة سوف يرتكز بصورة متزايدة على مبدأ الملاءمة والكفاءة، على اتباع واحد أو آخر من الطروح الأيديولوجية لتنظيم الدولة. في أي حال، لا يمكن أن يدعي أيّ نظام إدارة الآن أنه يعمل كمعيار للآخرين. لا أحد لديه ضمانة للنجاح.
وفيما يتعلق بالأفكار والقيم، فإن الصراع داخل المجتمع الغربي هو في الواقع أكثر حدة من التناقضات التي تفصل، على سبيل المثال، بين الغرب وغير الغرب. هذه هي المشاعر التي تغلي في الولايات المتحدة تحديداً بشأن مسائل القيم، والاختلافات المتزايدة بين أميركا وأوروبا (الولايات المتحدة، على سبيل المثال، لن يكون لديها فرصة للانضمام إلى مجلس أوروبا). هذا كله، بلا شك، شأن داخلي للمجتمعات الغربية. لكن هذه الخلافات تتعارض ومبدأ مهماً من مبادئ حلف شمال الأطلسي وهو التجانس الأخلاقي. وهذا، مرةً أخرى، لا يسمح بتقديم الناتو نموذجاً يحتذى به.
وفي النهاية، كان النظام القائم على القواعد هو العلامة التجارية الرئيسة للغرب في السنوات الأخيرة، وهنا الأمر الأكثر إثارة للاهتمام. بالنسبة إلى الدبلوماسيين الروس، حيث يعد هذا المفهوم أشبه بقماشة حمراء للثور، لأنه بحسب الفهم الروسي، فإن “القواعد” تتعارض و”القانون الدولي”، وهذا ليس أمرًا جيدًا.
ولكن الأمر ليس هنا، إن وجود “القواعد” يعني أيضاً موضوع إنشائها، والجهة التي ستصوغها وتراقب تنفيذها. في سنوات الحرب الباردة، والمواجهة المنظمة التي تخللتها، كانت هذه الوظيفة تقع على عاتق القوتين العظميين؛ وبعد اختفاء إحداهما، بدا أنها انتقلت إلى القوة المتبقية. ثم حدث ما لا مفر منه – فقد رأى الجانب المهيمن، أنه لم تعد هناك قوى كافية للموافقة على القواعد على نطاق عالمي، وبدأت المؤسسات المعدة للنظام الجديد بدأت تظهر فضلها.
كان من المفترض أن يكون “الناتو” الأداة الرئيسة لتحقيق النظام المطلوب، لكنه أخفق في أداء هذه الوظيفة. ومن هنا العودة إلى المهمة الأصلية المتمثلة في احتواء موسكو، ما ينسجم مع التحالف.أما الصين، التي كان من المفترض قبل بدء الحملة الروسية في أوكرانيا تقديمها على أنها مشكلة مهمة مثل روسيا، فأصبح أمرها فعلاً أكثر صعوبة.
من الناحية الأيديولوجية، يقوم “الناتو” على معارضة “العالم الحر” للأنظمة الاستبدادية، ما يتطلّب إدراج بكين في فئة المعارضين. من الناحية الجيوسياسية، فإن الحلف ليس مستعدًا للانتشار في العالم بأسره، أي لتجاوز النطاق التقليدي للمسؤولية.
ونتيجة لذلك، تزايدت الإجراءات الأميركية النشطة لتشكيل هياكل أخرى في المحيطين الهندي والهادئ، وأهمها الـAUKUS – التحالف الدفاعي الثلاثي، وهو رابطة لا تقوم على القواعد، ولكن على “المفاهيم”. ولكن بما أن البلدان ذات الثقافة القريبة جدًا (الأنجلو سكسونية) مدرجة فيه، فهناك مفاهيم، وهي تعمل.
إن التفاهم المتبادل، الذي لا يقوم على القوانين، ولكن على الوعي بالترابط بين القوى والمصالح التي تحدّد الممكن للشركاء، يبدو أكثر فأكثر كنظام جديد للعلاقات العالمية. لا روسيا ولا الصين ولا الهند، على سبيل المثال، على استعداد في أي حال من الأحوال لتحميل نفسها التزامات صارمة كجزء من التحالفات. والتحالف الذي تكون فيه البلدان المتوسطة والصغيرة خاضعة ببساطة لشريك كبير، في عالم غير منظم ومتعدّد التنوع، لا يصب في مصلحة تلك الدول المتوسطة والصغيرة.
فاستعداد الكبار لأداء واجباتهم كرعاة لهم، ليس واضحًا، والأهم من ذلك، لا أحد يثق بذلك. في المقابل، فإن الخضوع والسير في مسار شخص آخر لا يؤدي إلى مشكلات ممكنة وحسب، ولكن إلى كارثة، يجب أن نتعلم شيئاً من المثال الأوكراني.
في مقابلة له أخيراً، قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين: “إن ترك روسيا تفعل ما تفعله سيعني أننا نعود إلى عالم يكون فيه الأقوى على حق، وحيث يمكن أن تتنمر الدول الكبرى على الصغرى.” كان يدور في ذهنه أزمة ذلك “النظام القائم على القواعد”، والذي استبدل بانعدام القانون.
دعونا لا نسخر من ذلك، ولكن، ما تقاليد الولايات المتحدة نفسها فيما يتعلق بالعلاقات بـ”الدول الصغرى”؟ أميركا لا تختلف عن كل القوى العظمى الأخرى في ذلك. من المثير للشك أن واشنطن وشركاءها قادرون على إعادة العالم إلى حال النظام السابقة برعايتهم الخاصة وفي إطار تحالفاتهم واتحاداتهم.
في النظام العالمي المرتقب، سيكون هذا مستحيلًا لأسباب هيكلية. ورفض الاعتراف بذلك، يعني عدم استقرار العلاقات الدولية، بل على العكس من ذلك، يعني عدم الرغبة في البحث عن طرائق جديدة فعّالة لتنظيمها. وهو أمر لن يؤدي إلا إلى إطالة أزمة الأمن الدولي وتفاقمها.
نقله إلى العربية: فهيم الصوراني
المصدر: الميادين