يعتقد بعض الحكام المحكومين في بلداننا المنكوبة بهم وبالشعوب القابلة للاستكانة أن من علامات الحكمة وكمال العقل عدم حاجته إلى رأي غيره لأن عقله في رأسه وهو بذاته قادر على معرفة خلاصه !، وهؤلاء البعض نوعان ، أحدهما يتظاهر بعدم حاجته للرأي مع أنه مُسيَّر إما بعلمه أو دونه من مطبخ سياسي يعرف واقع البلد ولكنه يدير هذا النوع من الحكام المحكومين في الاتجاه الذي يخدم مصالحه هو وليذهب الشعب إلى الجحيم ، هذه هي لغة المصالح المتوحشة التي تحكم البلدان مسلوبة السيادة بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، وليس هذا بمستغرب, الغريب في الأمر أن بعض هؤلاء الحكام المحكومين يأكلهم قدر هائل من الغرور فيشعرون كما لو أنهم أحرار في حكمهم وفي تصرفاتهم ولهم القدرة على اتخاذ القرار دون حاجة إلى أخذ المشورة من أحد ، وهذا أحد أشكال الجهل المركب لأن صاحبه يجهل أنه بلا إرادة ويجهل كذلك أن عليه التفريق بين الشأن العام والشأن الخاص ، ونطاق حقه في اتخاذ القرار في كلا الحالتين ، فله كامل الحرية بأن يفكر كما يشاء في كافة شؤونه الخاصة وأن يتخذ القرار الذي يراه مناسباً ومتى وكيف يتخذه لأنه يتصرف في ملكه الخاص ، ولكن الأمر مختلف في الشأن العام وبكل تفاصيله أيضاً ، والمسألة كما أشرنا متعلقة بحق الملكية ، فالملكية الخاصة تخص مالكها وللمالك في ملكه ما يشاء كما يقال شرعاً وقانوناً ، لكن المالك فيما يخص الملكية العامة وقضايا الشأن العام هو الشعب أو المجتمع ، ولذلك فإن من حق المالك ملكية عامة أن يلزم السلطة العامة المنتخبة من قبله انتخاباً حراً نزيهاً وأن يمنع أي طرف سياسي من استخدام القوة في الوصول إلى الحكم ، وأن يلزم من يصل إليها بصورة شرعية بالتصرف وفق قواعد وأنظمة يحددها وأن يفرض على جميع السلطات رقابة حقيقية سابقة ولاحقة ومصاحبة لأداء وظيفتها وباتباع مبادئ الدستور وقواعد القانون في كل تصرفاتها باعتبار المنظومة التشريعية بمثابة العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين السلطة ومالكها وبين كافة السلطات ببعضها.
كما يلزم السلطة التنفيذية والتشريعية باحترام مبدأ استقلال القضاء وإلزام جميع السلطات بتطبيق مبدأ سيادة القانون بدون مواربة ولا تلاعب أو خلط بين القضايا الدينية والفقهية وبين السياسة لأن السياسة إنما تسير بمنطق العلم فهي مسألة علمية يخضع أداؤها للتقييم العلمي والصح والخطأ والثواب والعقاب الدينيوي أما الدين فهو علاقة الفرد بربه مهما استفاد المجتمع من سلطة الضمير لأن هذه السلطة مرد الإنسان فيها إلى الله في تحديد مدى الالتزام بها ومن المتقي من غير المتقي ومن يخاف الله من المنافق ، وتحديد عقاب المذنب والمسيء وثواب المحسن.
والحكيم الحقيقي يعلم حق العلم أن حاجته لرأي الحكماء ومشورتهم حاجة عظيمة ونتائجها الإيجابية غير محدودة ولهذا توجب قوانين الدنيا على متخذي القرار في المسائل الهامة ضرورة أخذ الرأي قبل اتخاذه ولا يجوز التصرف فيها دون الرجوع إلى المستشارين وأصحاب الرأي ، ونحن هنا نتحدث عن قواعد تتبعها الدول التي قطعت شوطا في بناء المؤسسات وحكامها يدركون أنهم أناس مثلنا غير معصومين ولا يوحى إليهم من السماء وليسوا رموزا يصل البعض في طاعتهم إلى حد الاعتقاد في تقديسهم ، وهذا واضح من خلال التذمر من نقد أخطائهم بل وأخطاء من يشغلون الوظيفة العامة التي يشرفون عليها كما هو مفترض وكأنهم موظفون في شركة خاصة ، وفي ذلك ضرر فادح على كل من يتم تقديسهم مثلما هو ضرر على الدولة والمجتمع ، إن كل من يقبل بهذا يجهل أو يتجاهل أن النقد أحد أهم وسائل تقييم عمل الموظف العام وله أهمية بالغة في رسم السياسات مستقبلاً لأن من أبجديات العلاقة بين الموظف العام وبين الشعب ضرورة أن تكون علاقة شفافة ، ولهذا أصبح حق الحصول على المعلومات في الدول الحرة من حقوق الإنسان المعاصرة أشبه بالعلاقة المباشرة بين رب العمل (الشعب) وبين العامل أي (الموظف العام) ابتداءً من رئيس الجمهورية وانتهاءً بأدنى درجة في سلم الوظيفة العامة هذه العلاقة تقتضي من كل مفردات هذا السلم أن لا ينسوا دائماً بأنهم بشر يخطئون ويصيبون كبقية خلق الله ، وتتقاذفهم أمواج العواطف ويسبحون في بحر الحياة المليء بالمتناقضات ، وأن تطبيق مبدأ الثواب والعقاب في الدنيا هو خلاصة عمل جميع السلطات وأن عدم الالتزام به بمنطق الخلط بين حق الله وحق الإنسان وبين الدين والسياسة إخلال بقواعد الدين القويم والسياسة الحكيمة وانتهاك للحقوق العامة والخاصة ، وطبقاً لهذا المبدأ فإنه لا يشعر بالحاجة إلى الاستشارة إلا الحكيم، ولا يتجاهل هذه الحاجة أو يجهلها إلا الأحمق المغرور والله فوق كل ذي علم عليم.
يرسم المستبد الخفيُّ خطانا * فنخلط بين المُنى والمنايا
المصدر: موقع أنصار الله