كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن إقامة ما سمّته تركيا “المنطقةَ الآمنة”، التي تسعى أنقرة لإنشائها بعمق 30 كم داخل الحدود السورية. وهو حديث يحمل كثيراً من الخبث في اختيار الاسم.
شهدت السياسة الخارجية السورية في الآونة الأخيرة نشاطاً دبلوماسياً ملحوظاً، وحراكاً فاعلاً لم يقتصر على المستويَين العربي والإقليمي، بل انتقل إلى المستوى الدولي أيضاً، فانتقلت من “سياسة ردود الأفعال”، التي فرضتها طبيعة المرحلة الماضية وتجلياتها، إلى “سياسة الفعل والمبادرة”، وهو ما تجلّى في محاولات الانفتاح على الداخل العربي، إدراكاً منها لأهميته بالنسبة إلى سوريا، مع ضرورة الوفاء والمحافظة على علاقات سوريا المتميزة بالدول التي وقفت معها في أزمتها، والتي شكّلت صِمَام الأمان وقت اشتداد الأزمة.
هذه المرونة مهمّة ومطلوبة في المرحلة الراهنة، والتي تسعى فيها دمشق لمحاولة إنهاء أزمتها وفتح صفحة جديدة مع مَن أساء إليها، بعد أن عرف الجميع، وآمن بأن تلك المرونة لا تعني الليونة على الإطلاق، أو التهاون أو المساومة على القرار الوطني.
وكانت لافتةً زيارةُ وزير الخارجية السوري فيصل المقداد لطهران وقت انعقاد قمة طهران الثلاثية. فهذه الزيارة، بلا أدنى شكّ، ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بما ناقشه القادة بشأن الملف السوري. وأعتقد أنهم كانوا يحتاجون إلى توضيحات، أو استفسارات، أو ربما ردودٍ على بعض المقترحات التي نقلوها إلى الوزير السوري لينقلها بدوره إلى القيادة السورية، أو يجيب عنها بصورة مباشرة. وهذا ما يختصر، ربما، كثيراً من الوقت، ويُظهر مدى احترامهم لسيادة القرار السوري، ويعكس جدية الجانبين الروسي والإيراني ورغبتهما في التوصل إلى حل سريع بين سوريا وتركيا، وعدم إعطاء الرئيس إردوغان فرصة في المراوغة والمناورة، اللتين كانتا من أهم صفاته التي اشتُهِر بها.
في حقيقة “المنطقة الآمنة” المزعومة
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن إقامة ما سمّته تركيا “المنطقةَ الآمنة”، التي تسعى أنقرة لإنشائها بعمق 30 كم داخل الحدود السورية. وهو حديث يحمل كثيراً من الخبث في اختيار الاسم: “المنطقة الآمنة”. فلا أحد في العالم لا يريد أن تكون كل سوريا آمنة، وليس هذه المنطقة فحسب. لكن الأتراك يريدونها منطقة من نوع آخر؛ منطقة آمنة لنشاط الإرهابيين وتدريباتهم؛ آمنة من ضربات الجيش السوري وحلفائه لتلك المعسكرات القذرة، التي ترعاها تركيا وتشرف عليها، وتضم كبار الإرهابيين في العالم. وخير دليل على ذلك مقتل الإرهابي أبي بكر البغدادي، زعيم تنظيم “داعش” في تلك المنطقة “الآمنة”، التي أثارت عدداً من التساؤلات حينها، منها ما يتعلق بطبيعة الأشخاص الموجودين في فيها، ومدى تورط الدول ودعمها هؤلاء الإرهابيين في العالم.
وكان الإعلام الغربي حينها دأب على القول إن زعيم تنظيم “داعش” يعيش في شرقي سوريا، وتحديداً في محافظتي دير الزور والرقة، في إشارة مبطّنة آنذاك إلى اتهام الحكومة السورية يإيوائه، كونها تسيطر على هاتين المنطقتين، بالتعاون مع الحلفاء من إيران والعراق، ثم جاءت العملية الأميركية التي فضحت، أمام العالم كله، الدعم والحماية اللَّذين يتلقّاهما التنظيم وغيره من التنظيمات الإرهابية من جانب الحكومة التركية، فلقد قُتِل البغدادي في “منطقة خفض التصعيد”، وهي منطقة يسيطر عليها، بصورة كاملة، الجيش التركي، وهذا ما كان يُشعِر البغدادي بالأمان وحرية الحركة في هذه المنطقة. وهو ما دفع الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، إلى القول إنه “لم يستطع إبلاغ تركيا الهدفَ الدقيق للعملية، التي كانت الولايات المتحدة تعتزم القيام بها”، وهو ما تُفهم منه الخشيةُ من تسريب المعلومة إلى التنظيم من جانب تركيا من أجل المحافظة على البغدادي.
ومنذ أيام، أعلن البنتاغون مقتل ماهر العقال، زعيم تنظيم “داعش” في سوريا، في منطقة عفرين، شمالي سوريا، وهي المنطقة الخاضعة لسيطرة مباشرة من جانب القوات التركية، الأمر الذي يجعلنا ندرك تماماً طبيعة “المنطقة الآمنة” وأهدافها. ولا تفوتنا الإشارة إلى عمليات التنقيب عن الآثار من جانب المجموعات الإرهابية في تل دودري الأثري في منطقة عفرين شمالي حلب، تحت إشراف استخباريّ تركي مباشر.
قمة طهران والقضايا التي ناقشتها
أتى انعقاد قمة طهران الثلاثية، والقمم الثنائية الثلاث التي رافقتها، بعد عامين على تأجيلها، لترسم معالم مرحلة جديدة من التعاون الاستراتيجي بين الدول الثلاث. فمن حيث التوقيت، جاء انعقاد القمة بعد أيام قليلة على زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للمنطقة، والتي يصفها الأميركيون بأنها كانت فاشلة، ولم تحقق الهدف المطلوب منها، على الرغم من تحقيق بعض الأهداف التي عَدّوها ثانوية ربما. فما يهم الناخب الأميركي هو انخفاض سعر النفط، أولاً وقبل أي شيء آخر. ولعل الفشل الأهم لهذه الزيارة، والذي يخص منطقتنا، هو الرفض العربي للانخراط في أيّ تحالف يستهدف إيران بصورة مباشرة، والحرص على توجيه خطاب هادئ وداعٍ إلى الحوار والبحث عن حلول للقضايا العالقة.
ولعل الإنجاز الأهم له هو تشجيع بعض الدول العربية، التي لا تحتاج إلى تشجيع ربما، بقدر حاجتها إلى مباركة سيدها الأميركي، على الانخراط في عملية السلام مع الكيان الصهيوني؛ هذه العملية التي تطورت كثيراً في الأشهر القليلة الماضية، وخصوصاً مع بعض الدول الخليجية. والغريب في الأمر، أن هذه الدول، اللاهثة وراء التطبيع وتوقيع اتفاقيات للسلام مع الكيان المحتل، لم تكن طرفاً في الصراع، وليس لها أراضٍ محتلة أصلاً، متناسيةً أن التطبيع هو خيار شعبي، وليس قراراً رسمياً، وأن كل الاتفاقيات السابقة للسلام لم تصل بالشعوب العربية إلى تقبُّل التطبيع مع هذا الكيان الغاصب.
وكانت قمة طهران ناقشت عدة قضايا ثنائية وإقليمية ودولية، بدءاً بالحرب في أوكرانيا، مروراً بتأمين سلاسل إمداد الغذاء من أوكرانيا، وخصوصاً الحبوب، وانتهاءً ربما بالأزمة السورية، التي تعني الكثير لهذه الدول الثلاث. فهذه الدول منخرطة، بصورة أساسية، في الأزمة السورية التي تتضارب فيها المصالح الإقليمية والدولية.
فالروس والإيرانيون داعمون رئيسيون للدولة السورية ولضرورة المحافظة على بقائها، لكنهم، في الوقت نفسه، يتنافسون، بكل تأكيد، في المصالح الاقتصادية ومحاولة التأثير في القرار السياسي السوري. كما أنهم يختلفون في رؤيتهم بشأن طريقة إدارة بعض ملفات الأزمة، وخصوصاً الاعتداءات الصهيونية المتكررة على الأراضي السورية، وطريقة تقديم الدعم إلى الفصائل المقاتلة في سوريا، وسوى ذلك من القضايا الشائكة. لكنهم، في الوقت نفسه، يقفون ضد الفصائل والمجموعات الإرهابية المدعومة من تركيا. كما أن الدول الثلاث (روسيا وإيران وتركيا) تقف ضد قوات “قسد”، المدعومة أميركياً، والتي تعدّها تركيا تهديداً لأمنها القومي، نتيجة للعلاقة التاريخية السيئة بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، والموقف التركي تجاه المطالب الانفصالية الكردية.
من هنا، بدأت، منذ شهرين، التهديدات التركية بشنّ عملية عسكرية في الشمال السوري، وعودة الحديث عن “المنطقة الآمنة”، وهي جزء من الأراضي السورية، بعمق 30 كم من الحدود مع تركيا. لكن، على الرغم من كل التهديدات، فإنه بدا واضحاً أن الحكومة السورية تعاملت معها بهدوء واطمئنان، وبتحدٍّ كبير لو اقتضى الأمر ذلك، وهو ما تمثّل بزيارة الرئيس السوري بشار الأسد لمدينة حلب، وإمضاء عطلة العيد فيها، رفقةَ أُسرته، بحيث جاءت تلك الزيارة في أوج التصعيد التركي ورغبته في السيطرة على مدينة حلب، أو بعض المناطق التابعة لها، في أقل تقدير.
لا عملية عسكرية من دون غطاء جويّ… ولا غطاء جويّ من دون موافقة روسيا
تدرك تركيا جيداً أنها لن تستطيع تنفيذ تهديداتها إلّا في ظل التفوق الجوي، الذي يتمتع به جيشها على الجيش السوري، لكن ذلك يحتاج إلى التنسيق مع الروس، تفادياً لحدوث صِدام مباشر معهم. وهذا غير وارد وغير مقبول، في الوقت الحاضر. فروسيا، التي تخوض حرباً في أوكرانيا ضدّ الولايات المتحدة وحلف الناتو، لن تنسى لإردوغان موقفه الداعم لانضمام كل من السويد وفنلندا إلى هذا الحلف، وقيامَ تركيا بإغلاق مضيق البوسفور في وجه السفن الحربية الروسية، بناءً على طلب أوكرانيا، وهو ما يعرقل وصول القوات البحرية الروسية إلى المتوسط. كما قامت تركيا بإغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية المتّجهة إلى سوريا.
كما يدرك الروس والإيرانيون أن تركيا اليوم هي “العدو الأقرب إليهم جغرافياً”، كونها جزءاً من حلف الناتو. ومن هنا، فالتعامل مع تركيا بحزم أمرٌ تقتضيه طبيعة التجاذبات الدولية، وهو ما كان واضحاً في تحذيرات المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية، الإمام علي خامنئي، للرئيس التركي من أن تهديد الأمن القومي لسوريا سيضر الأمن القومي لتركيا وسائر دول المنطقة.
الجيش السوري يستبق القمة
لأول مرة، منذ أكثر من عشرة أعوام، استطاع الجيش السوري بسط نفوذه في مناطق كوباني ومنبج وتل رفعت وتل تمر. كما قامت القوات الروسية بتعزيز مواقعها عند خطوط التماس مع المناطق التي تسيطر عليها تركيا والعصابات الإرهابية الموالية لها، ووصلت تعزيزات عسكرية روسية إلى مطار القامشلي، وهو ما يوحي باستلام القوات الروسية تلك المناطق من عصابات “قسد”، وتسليمها إلى الجيش السوري، الذي سينتشر على طول الحدود مع تركيا. وبالتالي، يشكّل ذلك محافظة على المطالب الأمنية التركية، وتفهماً لها. كل ذلك كان قبيل انعقاد القمة، وكان الملف السوري حاضراً، بل ربما كان الملف الأهم في أجندة تلك الاجتماعات لقادة الدول الضامنة لمسار أستانة، الذي كرّس التهدئة وتوزيع النفوذ في الأراضي السورية.
كما نجح حلفاء سوريا في انتزاع اعتراف تركيا باعتبار جميع التنظيمات، التي تقاتل في الأرض السورية من دون دعوة من حكومتها، تنظيماتٍ إرهابيةً أسوة بـ”قسد”، وهو ما يعني التزاماً مبدئياً من أنقرة بشأن وقف الدعم لتلك التنظيمات مستقبلاً.
ونجحت القمة أيضاً في الحصول على إجماع الدول الثلاث (روسيا وإيران وتركيا) على إدانة الهجمات الإسرائيلية المستمرة على الأراضي السورية، بما في ذلك الأهداف المدنية، وعدّها انتهاكاً للقانون الدولي، وزعزعة للأمن والاستقرار في سوريا، وهو ما يتطلّب العمل على إزالة الأسباب التي تتذرّع بها “إسرائيل” لتنفيذ هجماتها داخل سوريا. ولن يكون من المستبعد أن تشهد الأيام المقبلة إعادة توزيع للقوات الأجنبية الموجودة في الأراضي السورية، تجنباً لأي عدوان إسرائيلي. قمة طهران
ستشهد الأيام المقبلة انفراجاً في الملف السوري، ولعل بداية الحل سوف تكون بانسحاب القوات الأميركية من منطقة شرقي الفرات، وتسليم حقول النفط إلى الجيش السوري، والشروع في الحل السياسي، وهو ما سيشكّل رسالة قوية وضربة قاسية لقوات “قسد”، التي لن تجد حلاً سوى تسليم سلاحها، وبالتالي إيجاد حلّ ومخرج للتهديدات التركية.
في القمة المقبلة، التي ستُعقد في موسكو، لن تكون أمراً مستبعداً أبداً مشاركةُ الرئيس السوري بشار الأسد فيها، لتكون قمة موسكو الرباعية، التي قد تشكّل نقطة التحول في مسار الأزمة السورية برمتها. وكل ذلك سيكون بالتأسيس على ما تحقّق في قمة طهران، التي لم تغب سوريا عنها، بل كانت حاضرة بقوة. فمسار المحادثات فيها لم يكن إلّا انعكاساً لانتصارات رُسمت في الميدان.
المصدر: الميادين