عملياً، وعلى الأرض، ليس هناك أيّ إشارة إلى تغير الموقف التركي تجاه سوريا، وحتى احتمالات تغيره على المدى القريب، والمقصود أيار/مايو المقبل، وهو موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية في تركيا.
قيل الكثير عن احتمالات المصالحة التركية مع سوريا بعد تصريحات الرئيس رجب طيب إردوغان ووزير خارجيته، وحتى المتحدث باسمه ومستشاره إبراهيم كالين. وقد تناقلت وسائل الإعلام العربية والدولية دائماً الجمل الأولى من أقوال هؤلاء، وكانت دائماً إيجابية حيال المصالحة، فيما كانت الجمل أو الفقرات التالية تتضمن تأكيداً على استمرارية الموقف التركي من سوريا، من خلال الحديث عن “حماية الشعب السوري من مظالم النظام” الذي يحمّله إردوغان في كل حديث “مسؤولية ما عاشته سوريا منذ البداية”.
لم يمنع هذا التناقض بعض الأوساط من الحديث عن لقاءات سرية مباشرة أو غير مباشرة عبر الروس بين مسؤولي المخابرات التركية-السورية، ولم تكن هناك أيّ معلومة سليمة أو رسمية فيما يتعلق بنتائج هذه اللقاءات. ويبدو واضحاً أنها لن تعني أيّ شيء مع استمرار الدّعم التركي لما يسمى “الجيش الوطني السوري” وقيادات ما يسمى “الائتلاف الوطني لقوى الثورة” والحكومة المنبثقة منه.
وجاء تسريب محضر أحد الاجتماعات بين هذه القيادات ومسؤول تركي في إطار التكتيكات التركية التي تهدف إلى إقناع أبو ظبي والرياض والقاهرة بجدية موقف تركيا بالمصالحة مع دمشق. كما جاء الحديث عن قطع التمويل التركي للقيادات المذكورة (نحو 500 ألف دولار شهرياً) في إطار هذا التكتيك أيضاً، ما دامت الدوحة هي الممول الحقيقي. ويبدو واضحاً أنها بدورها لن تتخلى عن ورقة المعارضة السورية لتستخدمها في القمة العربية القادمة، لمنع الزعماء العرب من اتخاذ أي موقف إيجابي تجاه الرئيس بشار الأسد.
عملياً، وعلى الأرض، ليس هناك أيّ إشارة إلى تغير الموقف التركي، وحتى احتمالات تغيره على المدى القريب، والمقصود أيار/مايو المقبل، وهو موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية في تركيا، وليس هناك أي إشارة أيضاً إلى احتمال موافقة الرئيس إردوغان على شروط الطرف السوري للمصالحة الشاملة، وأهمها انسحاب القوات التركية من كامل الأراضي السورية، وإيقاف كل أنواع الدعم لما يسمى “الجيش الوطني السوري” الذي تأسس في أنقرة في أيلول/سبتمبر 2019، وأخيراً عدم الاعتراض على عمليات الجيش السوري لتحرير مدينة إدلب وجوارها، إلى أن يكون الحديث لاحقاً عن شروط التنسيق والتعاون شرق الفرات في إطار اتفاقية “أضنة” بعد تحديثها، ليساهم ذلك في وضع حد نهائي لوجود مسلحي وحدات حماية الشعب الكردية، وهي الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، في الوقت الذي لا يتردد إردوغان ووزراؤه في التعبير عن انزعاجهم من المساعي الروسية لتحقيق المصالحة بين دمشق والوحدات المذكورة أو “قسد” عموماً.
لم يمنع كل ذلك أنقرة من التواصل بشكلٍ مباشر أو غير مباشر مع قيادات الميليشيات الكردية، ليضرب إردوغان بذلك عصفورين بحجر واحد؛ فهو يسعى لعرقلة أي مصالحة كردية مع دمشق، في مقابل انفتاح تركي جديد على الكرد مع اقتراب موعد الانتخابات التركية.
ويعرف الجميع أنَّ من سيحسم نتائج هذه الانتخابات هم الكرد الموالون بأغلبيتهم لحزب الشعوب الديمقراطي؛ الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني التركي المحظور، الذي تزيد شعبيته على 6 ملايين، أي أكثر من 10% من مجموع أصوات الناخبين في عموم البلاد، فإذا انحاز هؤلاء إلى مرشح المعارضة، فستكون هزيمة إردوغان محتّمة، ولو استنفر كلّ إمكانياته لضمان فوزه.
بالعودة إلى حسابات إردوغان في سوريا، بكلّ معطياتها الداخلية والخارجية، وأهمها حاجته إلى أصوات السوريين الذين مُنحوا الجنسية التركية، فإن أوساط المعارضة لا تخفي قلقها من سيناريوهات الاستفادة من المسلحين السوريين في حال انفجار الوضع الأمني قبل الانتخابات أو بعدها، وهو مصدر قلق بالنسبة إلى الجميع، وهو ما أشار إليه الداعية أحمد محمود أونلو الذي تحدث في إحدى البرامج التلفزيونية عن “نشاط سري لمجموعات إرهابية وهابية مسلّحة في العديد من مناطق تركيا، استعداداً لأيّ احتمالات طارئة، بما فيها الحرب الأهلية”.
والغريب في الموضوع عدم تحقيق أحد مع هذا الشخص أو استجوابه، ما دام مقرباً إلى الرئيس إردوغان الذي يستعد الآن لإصدار قانون جديد في البرلمان يقضي فيه على ما تبقى من حرية الصحافة والتعبير عن الرأي، سواء في وسائل الإعلام أو شبكات التواصل الاجتماعي. ووفقاً لهذا القانون، لن يسمح لأحد بكتابة أي كلمة تتناقض مع المعايير والمقاييس التي سيحددها، وإلا ستكون عقوبته السجن من سنة إلى 3 سنوات.
على سبيل المثال، لن يتسنى لأحد أن ينتقد سياسات إردوغان في سوريا أو ليبيا أو أيّ موضوع داخلي وخارجي. بمعنى أدقّ، لن يتسنى لأحد أن يقول مثلاً: “لماذا يتموضع الجيش التركي في سوريا أو ما علاقتنا بإدلب؟”، لتبقى سوريا، ومعها اللاجئون السوريون في تركيا أيضاً، في عالم النسيان، ليس بالنسبة إلى الأتراك فحسب، بل كذلك العرب، في ظل غياب الاهتمام الإعلامي بها، ما دامت لم تعد ضمن أولويات الزعماء العرب أيضاً، وهو ما يشجع الرئيس إردوغان على المزيد من التعنت في موقفه الخاص بسوريا، ما دام والأنظمة العربية في خندق واحد يمنع عودتها إلى الحضن العربي بشكل أو بآخر.
وعلى الرغم من التفاؤل الضئيل فيما يتعلق باحتمال التغير البطيء في مواقف الأنظمة العربية تجاه دمشق، مع استمرار اللامبالاة بما يقوم به الكيان الصهيوني يومياً ضد الشعب الفلسطيني، فالجميع يعرفون أنّ الكلّ ينتظر نتائج الانتخابات الإسرائيلية، لما لها من علاقة مباشرة بمستقبل التنسيق و”التعاون” العربي-الإسرائيلي-التركي حيال قضايا المنطقة، وأهمها سوريا، وعبرها لبنان وإيران، ومنها إلى اليمن، وهي جميعاً في سلة الاهتمامات التركية، وإلى جانبها من دون شك ليبيا، التي أصبحت، كما هي حال سوريا، قضية داخلية بالنسبة إلى إردوغان، الذي قال وأثبت بأفعاله أنه لن يتخلى عنها، كما لن يتخلى عن سوريا، إلا إذا طلب الشعب السوري منه ذلك.
وما عليه في مثل هذه الحالة إلا أن يسأل السوريين في المناطق التي يتموضع فيها الجيش التركي وباقي المؤسسات التركية، ومعهم حوالى 4 ملايين سوري مقيمين في تركيا. ولهذا السبب، كان وزير الدفاع خلوصي أكار قال، ومعه إبراهيم كالين، المتحدث باسم إردوغان، “إن تركيا تساعد 9 ملايين سوري في سوريا وتركيا”، في الوقت الذي “تساعد” أميركا 5 ملايين شخص شرق الفرات، وهو ما يجعلها طرفاً مباشراً ومؤثراً في الملف السوري، مع المعلومات التي تتحدث عن اتصالات مكثفة بين الأميركيين وقيادات المعارضة السورية لإبعادهم عن أنقرة، أو في الحد الأدنى إقناعهم بعدم الانصياع التام لتعليمات الأتراك وأوامرهم قبل مساعي المصالحة مع دمشق أو خلالها، وهو ما تراقبه أنظمة الخليج، بما فيها الدوحة، من كثب، على الرغم من مصالحتها مع القاهرة التي يبدو أنها لن تستعجل الضغط على إردوغان ما دام الأقوى في ليبيا التي قد تخلق لمصر ما يكفيها من المشاكل بسبب المجموعات الإخوانية، المعتدلة منها والمتطرفة، المدعومة من أنقرة.
قد يكون ذلك هو سر عدم الاهتمام المصري بالملف السوري، الذي أصبح في عالم النسيان أيضاً لدى أنظمة الخليج التي ما زالت تراوغ بعد عامين تقريباً من أحاديث الانفتاح السعودي والإماراتي على دمشق، وظل حبراً على ورق، كما هي الحال دائماً بالنسبة إلى هذه الأنظمة وأمثالها، ما دامت جميعاً على عاداتها القديمة في التآمر والخيانة، مهما اختلفت المقولات والحسابات والتكتيكات.
خير مثال على ذلك هو توتر حزيران/يونيو 2017 بين السعودية والإمارات ومصر مع قطر التي عادت وصالحت الجميع، فنسوا جميعاً أن الجيش التركي الذي ذهب إلى الدوحة بقي فيها ولن يعود، كما بقي هذا الجيش في 3 دول عربية أخرى، هي سوريا وليبيا والصومال، بعيداً عن اهتمامات الأنظمة العربية المعروفة، التي لا همّ لها سوى “التدخل الإيراني في الشأن العربي”، والمعنى هنا “في قلب الشاعر”، فالشأن الذي يتحدثون عنه بخجل هو “الشأن العبري، أي الإسرائيلي”.
المصدر: الميادين