جاءت معركة “سيف القدس” التي خاضها الشعب الفلسطيني وحركاته المقاوِمة في وجه آلة الإجرام والاحتلال الإسرائيلية، كنقطة مفصليّة.
“أمّةٌ واحدةٌ في مواجهة الاحتلال والعدوان”
كان هذا هو عنوان البيان الذي أصدرته “حركة المقاومة الإسلامية” في فلسطين المحتلة (حماس) يوم الخميس الفائت الواقع في 15 أيلول/سبتمبر، والمتعلّق بمسار عودة العلاقات بين الحركة والدولة السورية، بعد نحو عشر سنوات من القطيعة. ويمكن القول إنّ هذا العنوان بحدّ ذاته، هو أفضل تعبير بلاغيّ مكثّف عن واقع الحال كما ينبغي أنْ يكون، لأنّه يختصر كثيراً من رؤية محورٍ كامل، ومن تطلعات أهل هذا المحور وملايين المواطنين العرب.
لم يكن هذا البيان الأوّل الذي تُصدّره قيادة الحركة في هذا الشأن هذا العام، إذ سبقه بيان غاية في الأهمية في نيسان/إبريل الماضي، جاء كتتويج أوّليّ لجهودٍ ومشاورات طويلة اضطلعت بها أطراف في محور المقاومة، وعلى رأسها حزب الله على نحو أساسيّ وفاعل، لكسر الجمود القوي الذي كان قائماً بين الحركة ودمشق على مدى سنوات الحرب على سوريا، وتقريب وجهات النظر بهدف إعادة الأمور إلى حيث يجب أن تكون بين إحدى أهمّ حركات المقاومة في الداخل الفلسطينيّ المحتل، والدولة التي عوقبت وشُنّت عليها حرب مدمّرة لسبب أساسيّ واضح، هو تبنّيها منطق المقاوَمة وفعلها، ولدعمها حركات المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيليّ -وعلى رأسها حماس- وفي وجه قوى الهيمنة وأطماعها في المنطقة.
لقد عبّرت الحركة بوضوح في بيان نيسان/أبريل الماضي عن تقديرها لسوريا وقيادتها وشعبها، ودورها في النضال إلى جانب الشعب الفلسطينيّ وقضيته العادلة. وها هي تؤكّد في بيانها الجديد، عزمها على “المضيّ في بناء وتطوير علاقات راسخة بسوريا”. وقد جاء الحديث عن محاولات “إبعاد سوريا عن دورها التاريخيّ الفاعل” على صعيد القضية الفلسطينية، لافتاً في بيان الحركة، خصوصاً لجهة وجوب الوقوف مع الدولة السورية لإحباط هذه المحاولات، واستعادة دمشق دورها ومكانتها في الأمّتين العربية والإسلامية، وأثرها الكبير في مسار الصراع مع العدو الإسرائيليّ. وكانت بيانات الحركة قد عادت في الأشهر الأخيرة إلى إدانة كل اعتداء إسرائيليّ على الأرض السوريّة، وتأكيد وقوفها إلى جانب سوريا في ظلّ ما تتعرّض له من اعتداءات.
لم يكن الوصول إلى هذا التوافق والعودة إلى الوقوف معاً في طليعة هذا الخطّ المقاوم، بالأمر السهل، وذلك لأسباب لا تتعلّق بدمشق وحماس وحدهما بالدرجة الأولى، بل ترتبط أساساً بمدى قوة المشروع الأميركي وخطره، هذا المشروع الذي اجتاح المنطقة قبل عشر سنوات، متسلّحاً بكلّ ما أوتيَ من حشود عسكريّة وأنظمة تابعةٍ وشعارات ومؤامرات وقع في فخّها شرائح واسعة من المواطنين العرب وأحزاب وقوى سياسيّة، بكلّ ما يعنيه ذلك من ضغوط كبيرة على بعض الحركات والأحزاب بسبب ارتباطاتها السياسية والعقديّة والاقتصاديّة، وتلك أسباب وتبعات يجب أخذها بالاعتبار، وعدم تخطّيها والوثوب فوقها عند تحليل النتائج التي آلت إليها أحوال الأمة بين عامي 2010 و2016 على وجه التحديد.
ولكنْ، وعلى الرغم من ضراوة هذا المشروع القاتل وامتلاكه عدداً من أسباب النجاح في ذلك الحين، فإنّ قلب النتائج والوصول إلى خواتيم معاكسة لكلّ أهداف المشاريع الأميركية-الإسرائيليّة، ومِنْ ذلك عودة العلاقات بين الدولة السورية وحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، لم يكن ليحصل لولا قدرة قوى محور المقاومة على خلق أدوات النصر والنجاح من قلب المأساة الماثلة والمدمّرة. ويمكن الحديث هنا عن أسباب أساسيّة أوصلت إلى هذه النتائج على صعيد العلاقة بين دمشق وحركة حماس، واختصارها في نقاط أبرزها:
ـ قدرة سوريا، بجيشها وشعبها وقيادتها، على الصمود أوّلاً في وجه الطوفان المتمثّل في عدوانٍ غير مسبوق في العصر الحديث، لناحية شكله وتعقيداته وتشعّباته وضراوة أدواته وقدراته. ثم بدء سوريا وحلفائها في محور المقاومة -وعلى رأسهم إيران وحزب الله- ثم روسيا، بتحقيق الانتصارات على المشروع الاستعماري الهادف إلى تدمير البلاد وتقسيمها وتحويلها إلى دولة فاشلة، تلك الانتصارات التي بدأت بتغيير وجه المنطقة على النحو المناقض تماماً لأهداف المشروع المعادي.
ـ تدخّل المقاومة الإسلامية في لبنان بشخص الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، بكلّ ما يملكه هذا القائد المقاوِم والحزب الذي يقوده من صدقيّة ووزن أخلاقيّ وعسكريّ وسياسيّ ومعنويّ لدى المقاومين والشرفاء على مستوى المنطقة والعالم، والعمل بجدٍّ ومسؤولية عالية لرأب كل التصدّعات التي أحدثها المشروع المعادي في الجبهة الحليفة، انطلاقاً من مسؤوليةٍ تقتضي رصّ الصفوف وجمع كلمة المقاومين للوقوف صفّاً واحداً في وجه مشروع يستهدفهم جميعاً، والاستعداد لمواجهةٍ حاسمةٍ قد تكون أخطر من كل المواجهات السابقة على مستوى الأمة والقضية الفلسطينية تحديداً، ما يقتضي منع تشتيت جهود المقاومين وقدراتهم، ليتمكّنوا معاً من تحقيق نصرٍ كبير واستراتيجيّ يُحقّق تطلّعات الأمة إلى التحرير والنهضة.
إن تلك الجهود والآمال عبّر عنها السيد حسن نصر الله غير مرّة، ولاسيما في حواره مع قناة “الميادين” في الذكرى الأربعين لانطلاقة المقاومة الإسلامية في لبنان، حين تحدّث عن اهتمامه الشخصيّ بضرورة تسوية العلاقة بين دمشق وحماس، وعن إيجابيّة النتائج التي بلغتها جهوده على هذا الصعيد.
وورد ذلك في خطابه الأخير لمناسبة ذكرى أربعينيّة الإمام الحسين (عليه السلام) وذلك بعد يوم واحد من بيان حماس الأخير، فأشاد السيد نصر الله ببيان الحركة ووصفه بالمتقدّم جدّاً، وعبّر عن احترامه لهذا الخيار المهم، كما عبّر عن مدى انفتاح سوريا على كلّ ما فيه مصلحة الشعب الفلسطيني والقضية المركزية التي لم تتخلّ عنها دمشق قطّ، ولم تبخل ولن تبخل بأيّ تضحيات في سبيلها.
جاءت معركة “سيف القدس” التي خاضها الشعب الفلسطيني وحركاته المقاوِمة في وجه آلة الإجرام والاحتلال الإسرائيلية، كنقطة مفصليّة على هذا المسار، إذ خاضت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” مع إخوانها في حركات المقاومة الفلسطينية، واحدة من أهمّ وأخطر المعارك في السنوات الأخيرة في الداخل الفلسطينيّ، وذلك لناحية المعادلات الجديدة التي أفرزتها تلك المعركة، والتي صاغها وصنعها ذاك الجهد المشترك والجماعي الذي قام به معاً جلّ أطراف محور المقاومة، بدايةً بشعبنا الفلسطيني في الداخل (أراضي ما يسمى 48 فضلاً عن القدس وغزة والضفة) مروراً بالجبهات التي اصطف فيها المقاومون من حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وعموم المقاومين الفلسطينيين في نسق واحد أمام جيش الاحتلال، انتهاءً بالجهد الهائل المتعلّق بالتخطيط والتسليح والإمداد الذي بذلته قوى محور المقاومة خارج فلسطين، وفي طليعتها دمشق وطهران والضاحية الجنوبية لبيروت، حيث ظهرت دمشق على الجبهة بوضوح من خلال السلاح الذي أمدّت به المقاومين الفلسطينيين من دون تمييز بين فصيل وآخر، بكل ما يعنيه ذلك من جهود مضنيةٍ تكفّلت بها دمشق وإخوانها في المحور لإيصال هذا السلاح، ما كلّف سوريا كثيراً من التضحيات بعد اعتداءات إسرائيلية على الموانئ والأراضي السورية، جاءت تحديداً كردٍّ من العدو على موضوع نقل السلاح السوريّ إلى الداخل الفلسطينيّ، هذا السلاح النوعيّ الذي غيّر مسار المعركة، ومنع دبابات الاحتلال من مجرّد التفكير في التقدّم ولو خطوة واحدة في اتجاه الداخل الغزّاوي.
لقد بيّنت تلك المعركة مدى حاجة المقاومين بعضهم إلى بعض، ومدى قوّتهم وقدراتهم حين يصطفّون معاً في وجه الاحتلال، وقد أظهرت تحديداً أنّ سوريا هي “قلب فلسطين الذي لا يمكن إدارة الظهر له” على حدّ تعبير السيد حسن نصر الله في حوار الأربعين ربيعاً مع “الميادين”، وأنّ أيّ حرب تحريرٍ على طريق القدس، لا يمكن أنْ تتقدم من دون سوريا وجهودها وتضحياتها ومبادئها وأفعالها. وأظهرت تلك المعركة أنّ حماس هي قوّة أساسيّة وفاعلة ومؤثّرة ومُضحيّة في المقاومة الفلسطينية في الداخل، وأنّ تجاوز هذا الواقع لا يمتّ بصلة إلى أي جهود أو خطوات حقيقية أو رؤية صائبة على صعيد مشروع المقاومة والتحرير.
وقد عبّر الرئيس السوريّ بشار الأسد لدى استقباله وفداً من القيادات الفلسطينية بعد معركة “سيف القدس”، عن وقوف دمشق مع كل مقاوم فلسطيني (إلى أيّ حزب أو حركة انتمى) وعن أبوابها المشرعة دائماً أمامهم جميعاً، ليؤكّد بذلك مبدئيّة مواقف سوريا وقراراتها التاريخية على صعيد القضية الفلسطينية ومقاومة الاحتلال والهيمنة.
أما قيادات حركة حماس فعبرت بدورها عن تثمينها للدور السوريّ في تلك المعركة، وفي كل معارك النضال على طريق فلسطين، لتأتي “سيف القدس” كشرحٍ إيضاحيّ عمليّ يُبيّن الطريق الصحيح الذي يحقّق آمال الأمة حين تجتمع قواها الوطنية، وهذا ما سرّع الجهود المبذولة على خطّ التقارب بين دمشق وحماس، والوصول إلى نتائج إيجابيّة على هذا الصعيد، وعلى صعيد مصلحة الأمة تالياً وقضيتها الرئيسة العادلة.
ـ انفتاح دمشق على جميع المبادرات والجهود التي تبتغي إصلاح أمر الأمة المقاوِمة وبلوغ مصالحها العليا، والتعالي على الخلافات مهما كانت مؤلمة وقاسية في سبيل الأهداف العظيمة التي تُحقّق آمالنا جميعاً، وقد عبّر عدد من المسؤولين السوريين، وعلى رأسهم الرئيس الأسد (خصوصاً في اجتماعه بالقيادات الفلسطينية بعد “سيف القدس”) عن هذا الأمر، كما عبّر عنه السيد نصرالله غير مرة، وآخرها في خطابه الأخير في أربعين الحسين قبل أيام، حين قال في تعليقه على بيان حماس الأخير: “إنّ سوريا ستبقى، قيادةً وشعباً، السند الحقيقي للشعب الفلسطينيّ، وهي تتحمّل التضحيات مع أجل ذلك، كانت وما زالت وستبقى”.
ـ انفتاح القيادة العسكرية والسياسية الجديدة لحركة حماس بدورها على المبادرات المتعلقة بالعلاقة بسوريا، ولعلّ البيان الأخير الذي أصدرته الحركة الخميس الفائت، يختصر موقفاً استراتيجيّاً ورؤية واضحة لدى الحركة وقيادتها حول الدور السوريّ المهم والمحوريّ في العمل المقاوم وفي نهضة الأمة كذلك، وقد لفت البيان إلى الخلافات الخطرة بين عناصر الأمة الفاعلة، وضرورة العمل لإنهائها لما في ذلك من مصلحة للأمة جمعاء، ولفلسطين وسوريا أيضاً. وجاء تثمين الحركة للمواقف والدور السوري في هذا البيان، كخطابِ فصل يختصر الرؤية كلها، ويدحض أي موقف مخالف لهذا المسار التاريخيّ المهم.
في النتيجة، يمكن نبش الخلافات والخوض في تفاصيلها المؤلمة على سوريا والسوريين، وعلى الشعب الفلسطينيّ وقضيّته كذلك، بهدف منع أو تعطيل أيّ مسار تصالحيّ بين قوى الأمة التي تواجه المحتل وأعوانه العرب والإقليميين الذي رصّوا صفوفهم في وجه القضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة، لكنْ يجب البحث أوّلاً عن المستفيد من التركيز على الخلاف وأسبابه وتبعاته (التي كانت كارثية ومؤلمة جدّاً في الواقع)، وعن المتضرّر من كلّ هذا.
وباختصار شديد، على السوريين متابعة ومراقبة موقف دمشق الرسميّ ومواقف حلفائها البارزين في محور المقاومة من هذا المسار ونتائجه الأخيرة، لتكوين رؤية واعية في هذا الشأن، لأنّ الوعي هو أحد أهمّ الأسلحة التي تحتاج إليها الأمة في هذه المرحلة الخطرة من تاريخها. والأمر نفسه ينطبق على جمهور حماس وكثير من العرب، مع تأكيد أنّ مصلحة المقاومة ومصلحة قضايانا العادلة في فلسطين وسوريا والمنطقة، يجب أنْ تأتي قبل وفوق كلّ اعتبار وموقف.
المصدر: الميادين