المتتبّع لأوضاع بوركينا فاسو يلاحظ تأثير مجموعة من المتغيرات والعوامل التي أدت إلى هشاشة الوضع الاقتصادي والاجتماعي، ما أثّر سلباً في قيادة النخب السياسية والعسكرية للبلاد.
التأمت فعاليات المجتمع المدني في بوركينا فاسو يومي 14 و15 تشرين الأول/أكتوبر في العاصمة واغادوغو من أجل تعيين رئيس المرحلة الانتقالية، لتتويج الجلسات الوطنية التي من شأنها إرساء توافق سياسي واجتماعي جديد في البلد الذي شهد انقلاباً عسكرياً يوم 30 أيلول/سبتمبر الماضي.
اختيار 15 تشرين الأول/أكتوبر لإجراء الجلسات الوطنية ليس محض المصادفة، إذ إنه يوافق ذكرى اغتيال القائد البوركينابي توماس سانكارا عام 1987. ولأن سانكارا يمثل رمز الوطنية ورفض الإمبريالية والاستعمار، فإن استحضار القائد الرمز كفيل، بحسب السلطات العسكرية الجديدة، بحشد الشعور الوطني ومعاداة الوجود الفرنسي في البلاد.
لكنَّ التقلبات السياسية في بوركينا فاسو، حيث عرفت البلاد انقلابين عسكريين في السنة الجارية: الأول في 24 كانون الثاني/يناير، والأخير في 30 أيلول/سبتمبر، كانت لها دلالات استراتيجية تجاوزت حدود بوركينا فاسو، فالتجربة المالية ليست بعيدة، وتخلص سلطات باماكو العسكرية من الوجود الفرنسي أدى إلى إحياء الشعور بالفخر والاعتزاز القومي، وبالنزعة الأفريقانية المناهضة للاستعمار.
من يرمز بوضوح إلى الاستعمار في منطقة الساحل الأفريقي أكثر من فرنسا؟ في مالي، في النيجر، في تشاد، في جمهورية أفريقيا الوسطى، أصبحت التظاهرات المناهضة للوجود والنفوذ الفرنسيين في المنطقة الهواية المفضلة للمواطنين في هذه الدول، لكن ما يلفت الانتباه هو رفع المتظاهرين الأعلام الروسية ولافتات تدعو إلى التدخل الروسي لمكافحة الإرهاب. هل يعني هذا انقلاباً استراتيجياً في موازين القوى في منطقة الساحل من طغيان النفوذ الفرنسي بكل أبعاده إلى ظهور لاعب استراتيجي جديد هو روسيا؟
لم ينأ المتظاهرون في مدن بوركينا فاسو بأنفسهم عن رفع الشعارات المؤيدة للوجود الروسي، بل بالغوا في إشهارها يوم الانقلاب الذي أطاح العقيد داميبا تزامناً مع إحراق السفارة الفرنسية في واغادوغو. واستمر المتظاهرون في رفع اللافتات والأعلام الروسية قبل الجلسات الوطنية، ولسان حالهم التأييد كل التأييد للنقيب إبراهيم تراوري، قائد الانقلاب الأخير، من أجل قيادة المرحلة الانتقالية. هنا يمكن فهم الحضور القوي لذكرى توماس سانكارا في المخيال الشعبي، واستحضار هذه الذكرى في هذه الفترة الحرجة من تاريخ بوركينا فاسو بالذات.
المتتبّع لأوضاع بوركينا فاسو يلاحظ تأثير مجموعة من المتغيرات والعوامل التي أدت إلى هشاشة الوضع الاقتصادي والاجتماعي، ما أثّر سلباً في قيادة النخب السياسية والعسكرية للبلاد.
أولاً: استفحال ظاهرة الإرهاب في منطقة الساحل وانعكاسها على أمن المنطقة والدولة البوركانابية منذ عام 2012 (تدمير ليبيا على يد حلف الناتو، وسقوط شمال مالي على يد الإرهابيين، انتهاءً بالتدخل الفرنسي تحت لواء عمليتي سيرفال وبرخان).
واليوم، تفيد التقارير الأمنية بأنَّ الدولة فقدت 40% من مساحة البلاد لمصلحة الجماعات الإرهابية المختلفة (تنظيم “داعش” في الصحراء الكبرى، جماعة أنصار الإسلام، تنظيم “القاعدة” في بلاد المغرب الإسلامي).
ثانياً: ضعف الأداء السياسي للنخب السياسية والعسكرية في مواجهة ظاهرة الإرهاب منذ عام 2015، إذ لم يستطع الرئيس السابق روك مارك كريستيان كابوري التحكّم في الوضع (آلاف القتلى ضحايا الإرهاب، ونزوح مليوني شخص من منازلهم وقراهم)، ما ترتب عليه انقلاب 24 كانون الثاني/يناير الماضي، واستيلاء العقيد بول هنري سانداوغو داميبا على السلطة، والتزامه القضاء على الإرهاب في غضون خمسة أشهر.
الانقلاب “التصحيحي” للنقيب إبراهيم تراوري جاء في ظرف سياسي داخلي وإقليمي تميَّز بفشل العقيد داميبا في تحقيق وعوده، وخصوصاً انحسار النفوذ الفرنسي وإعلان باريس في 15 آب/أغسطس الماضي نهاية عملية برخان وتاكوبا في مالي، بالتوازي مع توثيق التعاون العسكري والأمني المالي الروسي، وبين أفريقيا الوسطى وروسيا.
ثالثاً: هشاشة الاقتصاد البوركينابي الذي يعتمد 25% من ناتجه الوطني الخام على قطاع الزراعة، الذي يوظِّف نحو 80% من اليد العاملة في البلاد. وبما أنَّ البلد هو ثالث منتج للقطن على مستوى القارة الأفريقية، فهو يعتمد على هذا الإنتاج بنسبة 10% لضمان وارداته. وقد كان للتغيرات المناخية في السنوات الأخيرة تأثير سلبي في الإنتاج الزراعي، وفي صادرات القطن، وبالتالي في عائدات البلاد بالعملة الصعبة.
رابعًا: ثروات بوركينا فاسو المعدنية التي تمثل 11% من الناتج الوطني الخام، لكون البلد هو سادس منتج للذهب في القارة الأفريقية، لكن الثروات المعدنية هي سلاح ذو حدين: فبقدر ما هي رافعة حقيقية للنهوض بالاستثمارات وبالاقتصاد بواسطة الشراكات بين بوركينا فاسو ودول تحوز تكنولوجيا الاستخراج والتحويل، فهي خطر حقيقي بما تمثله من هدف استقطاب للقوى الإمبريالية المفترسة للثروات الباطنية (وخصوصاً فرنسا) من جهة، وارتباط أسعارها بالتذبذبات في السوق العالمية، ما يؤثر سلباً في عائدات الدولة.
خامساً: الفقر المدقع الذي يهدد نسيج المجتمع البوركينابي، إذ يعيش أكثر من 40% من الشعب في بوركينا فاسو تحت خط الفقر المدقع، ويأتي البلد في المرتبة 144 من 157 في ترتيب الرأسمال الإنساني، وفقاً للبنك الدولي.
كل هذه المتغيرات والعوامل تمكّننا من فهم مجريات الأحداث، ليس في بوركينا فاسو فحسب، بل في كل المنطقة الساحلية الصحراوية التي تتشابه فيها الحقائق الجيوسياسية والجيواقتصادية والجيوتاريخية أيضاً، غير أن التحليل يبقى ناقصاً إذا ما أغفلنا دور العامل الخارجي الجديد الذي يتمثل بالوجود الروسي في الساحل.
أثبتت تجربة السنوات الأخيرة في ليبيا وسوريا أنَّ إسقاط القوة الصلبة على مسارح بعيدة من فيدرالية روسيا بات ممكناً، سواء من خلال نشر قوات عسكرية روسية (الحالة السورية)، أو من خلال شركات عسكرية خاصة (شركة “فاغنر” في الحالة الليبية)، ما مكّن روسيا من إيجاد مواطئ قدم في مجالات جيوسياسية كانت تقليدياً تحت نفوذ قوى أخرى (فرنسا في حالة الساحل).
كانت البداية مع اعتماد حكومة جمهورية أفريقيا الوسطى على المساعدة العسكرية الروسية سنة 2018، تلاها بعدها بسنتين وصول شركة “فاغنر” العسكرية الخاصة من أجل مساعدة السلطات السياسية على القضاء على الجماعات المسلحة الإرهابية.
السيناريو نفسه تكرر في مالي بعد فشل القوات المسلحة المالية المدعومة عسكرياً من طرف فرنسا في دحر هجومات الجماعات المسلحة. كانت النتيجة قيام ضباط بقيادة العقيد أسيمي غويتا بإطاحة الحكومة الانتقالية في آب/أغسطس 2020 وتوثيق علاقاتها مع روسيا وسط زخم شعبي غير مسبوق داعم للتوجه نحو موسكو. وقد تكللت هذه الإستراتيجية بتعزيز التعاون العسكري المباشر بين مالي وروسيا في مقابل انسحاب فرنسا من البلاد.
أفريقياً، كان لهذا الانسحاب الفرنسي الأثر المعنوي البالغ في شعوب المنطقة. للمرة الأولى في تاريخها، أحست الشعوب في الساحل الأفريقي بأنَّ بإمكانها الاعتماد على حليف استراتيجي آخر دون فرنسا، كما أنَّ تماهي الشعوب مع نخبها السياسية والعسكرية في تبني إستراتيجية مضادة للإمبريالية الغربية والتوجه نحو شركاء جدد (روسيا، الصين، الهند، تركيا، إيران) أضحى السمة الرئيسية للدبلوماسية الأفريقية الجديدة.
في هذا الصدد، كان تعامل هذه الدول مع العملية الخاصة الروسية في أوكرانيا خير دليل على التباعد الحاصل بين دول الساحل والغرب، ذلك أن امتناع مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وغينيا والسودان وجنوب السودان وإثيوبيا وإرتريا، إلى جانب الجزائر وجنوب أفريقيا، عن إدانة ضم روسيا إلى المناطق الأوكرانية الأربع، فيما لم تشارك بوركينا فاسو في التصويت، خير دليل على الانتقال إلى باراديغم جديد في العلاقات الدولية عامة، وفي علاقات الدول الأفريقية مع الغرب خاصة.
بعد باماكو، هل ستصبح واغادوغو القِبلة الجديدة للنضال الأفريقاني، وخصوصاً أنَّ أفكار الزعيم توماس سانكارا لا تزال راسخة بعد 36 سنة من اغتياله؟ وعي النخب السياسية والعسكرية والثقافية في هذه الدول بضرورة التخلص من عقدة الاستعمار والتبعية للمستَعمِر السابق كفيل بترسيخ فكرة أفريقيا للأفارقة، كما حلم بها آباء الفكر الوحدوي الأفريقي في خمسينيات القرن الماضي وستينياته.
هل وَلَّتْ فكرة القابلية للاستعمار، كما تصورها المفكر الجزائري مالك بن نبي، أو أن التاريخ ينتقم لمصلحة من وصفهم المفكر فرانتز فانون بمعذبي الأرض؟ مستقبل الحكومات الانتقالية في مالي وبوركينا فاسو خير ضمان لتجسيد هذه الفكرة على أرض الواقع.
المصدر: الميادين