قد يكون دور إيران الإقليمي هو الأخطر على الوجود الإسرائيلي، من منطلق شرعية التأسيس الجديد للدولة الإيرانية، بعد عام 1979، الذي ألزمت فيه نفسها عدم شرعية بقاء الكيان.
لم يكن ينقص “تل أبيب” التهديدات الوجودية المحيطة بها، حتى يخرج رئيس الشاباك الأسبق يوڤال ديسكين، بمقالة لافتة، في صحيفة يديعوت أحرنوت، عنوانها “إسرائيل تواجه ثالث تهديد وجودي”، وبمضمون أكثر غوراً وعمقاً بتفصيلاته المتعلقة بالتهديدات الداخلية، واحتمال حدوث حرب أهلية، وانفكاك عُرى التكوينات الداخلية المتنافرة، ومع ذلك توقف كثير من المهتمين بالشأن السياسي، عند عبارة الكيان الزائل، وحتمية غيابه عن المشهد الإقليمي في مرحلة زمنية، قد لا تتطلب أكثر من 3 عقود.
وبصرف النظر عن عمق رؤية يوڤال ديسكين للمخاطر الوجودية، داخلية المنشأ، فإن المخاطر الإقليمية الخارجية، لا تقل شأناً عن الداخل الذاهب نحو التفكك، بالنسبة إلى العقل السياسي الإسرائيلي، وذلك لفهمهم طبيعة الوجود الوظيفي لهذا الكيان، ومحاولته بناء منظومة إقليمية حامية له، يتسيّدها في بناء سياسات المنطقة، بما يمنحه فرصة التحوّل من كيان وظيفي إلى كيان طبيعي، بحكم التقادم الزمني، وتفتّت المنطقة المحيطة بها، بفعل أهلها، وبفعل المشروع الغربي، الذي بدأ بالتنبه للخطر الجيوسياسي للمنطقة، بعد تمدّد محمد علي باشا الألباني، والي مصر العثماني، إلى بلاد الشام بقيادة ابنه إبراهيم باشا عام 1831، ومحاولته الوصول إلى الأستانة، لإسقاط الإمبراطورية العثمانية المتهالكة، خشية قطع الطريق البري والبحري مع الهند، درة التاج البريطاني، ما دعا جون هنري تيمبل (لورد بالميسترون)، العضو في حزب المحافظين البريطاني، وزوج ابنته اللورد شافتسبيري، إلى توطين اليهود في فلسطين، على نحو مخالف لإيمانهم التوراتي، منذ عام 1839، وقبل بناء الحركة الصهيونية، ومؤتمرها عام 1897 في بال بسويسرا.
أدرك قادة “تل أبيب”، وقبل إعلان دولتهم، عام 1948، أن هذا الكيان الوظيفي، لا يمكنه النجاح في دورة بقلب العالم القديم، الذي تعاقبت عليه الإمبراطوريات والحضارات، منذ أكثر من 5 آلاف عام، إلا بتحطيم الفعل الجغرافي والديمغرافي لكل القوى الإقليمية، التي يعطيها بعدُها الجغرافي والتاريخي، القابلية لاستعادة دورها الإمبراطوري، وهذا بطبيعة الحال ينطبق على وادي النيل والهضبة الإيرانية وهضبة الأناضول، إضافة إلى مخاطر وحدة الهلال الخصيب، الذي كان له الدور الأساسي في صناعة الإمبراطوريات والحضارات، أو ساحة الصراع والتفاعل والتراكم المعرفي والسياسي للإمبراطوريات التاريخية الكبرى.
انطلقت السياسات الإسرائيلية، وبدعم غربي واضح ومستمر، من هذا المبدأ، وضرورة منع أي من القوى الجغرافية الثلاث، من استعادتها دورها الإقليمي والدولي، وضبط مساراتها بما يخدم استمرار الدور الوظيفي، إضافة إلى منع أي قوة إقليمية من الوصول إلى سوريا التاريخية، التي تؤدي دوراً أساسياً في ترجيح كفة الدور الإقليمي المتصاعد لكل من مصر وادي النيل، وتركيا الأناضولية، وإيران الهضبة التي تُطل على آسيا الوسطى وبلاد الهندكوش وغربي آسيا.
وعلى الرغم من علاقات “إسرائيل” القديمة بتركيا منذ عام 1951، فإنها لا تثق بأي دور إقليمي متعاظم لها في المنطقة، يمكن أن يهدّد دورها، وعلى الرغم من نجاحها في إخراج مصر من دائرة الدور الإقليمي، الذي يليق بها في شرقي المتوسط وشمالي أفريقيا وكامل أفريقيا، لم تتوقف عند هذا الحد، بل عملت لتدمير مصر من الداخل، وخصوصاً بعد بناء سد النهضة الإثيوبي، بقرار من البنك الدولي، وبتمويل من بعض الدول الخليجية، لمنع مصر من استعادة أي دور لها، وإبقائها في حال اللاحياة واللاموت، وإبقائها على حالها، بمساعدة المملكة السعودية والإمارات على نحو أساسي، وهما الباحثتان عن دور إقليمي لهما يحفظ وجودهما في أخطر منطقة جغرافية وتاريخية في العالم القديم.
ولا تختلف هواجس القادة الإسرائيليين في التعامل تجاه قوة الجغرافيا السياسية للهضبة الإيرانية، بل هي أكبر بما لا يقارن بأي قوة إقليمية أُخرى، خصوصاً بعد ثورتها عام 1979، وقدرتها على بناء نموذج سياسي شديد الحساسية تجاه النظام العالمي الغربي المهيمن، وهو يترافق مع تجربة علمية واقتصادية وعسكرية فريدة، على الرغم من العقوبات الشديدة، وقد استطاع أن يصل إلى شرقي المتوسط بالتحالف مع سوريا، ليصبح على حدود الكيان من الشرق والشمال في لبنان والجنوب في غزة، بل الوصول إلى الضفة الغربية من فلسطين وتسليحها، بما أربك الكيان، فضلاً عن اليمن الذي استطاع فيه حلفاؤها “أنصار الله”، السيطرة على المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، وقرب أهم المضايق البحرية “باب المندب”، إضافة إلى العراق، الذي نجح فيه حلفاؤها في السيطرة على مساراته السياسية أخيراً.
قد يكون دور إيران الإقليمي هو الأخطر على الوجود الإسرائيلي، من منطلق شرعية التأسيس الجديد للدولة الإيرانية، بعد عام 1979، الذي ألزمت فيه نفسها عدم شرعية بقاء الكيان، وأي تخلٍ عن هذا الالتزام يعني انتهاء شرعية النظام السياسي، والأمر الآخر هو ضرورات الدور الإقليمي، الذي لا يحتمل وجود نظام غريب، هو امتداد لمشروع الهيمنة الغربية، المانع لأي محاولة للاستقلال عن النظام العالمي.
وكل ما يحدث من صراع على الأدوار الإقليمية في غربي آسيا، لا ينفصل عن الصراع الدولي الكبير بين استقطابين كبيرين متناقضين، تقود فيه الولايات المتحدة القطب الغربي الذي هيمن على العالم أكثر من 200 عام، والاستقطاب الآخر، الذي تقوده الصين وروسيا ومعهما إيران كقوة ضاربة، والهند وجنوب أفريقيا كقوى اقتصادية ناهضة، إضافة إلى الدول التي تسعى للخروج من إطار الهيمنة الغربية، ونتائج هذا الصراع ستنعكس بطبيعة الحال على صراع الأدوار في غربي آسيا، وخصوصاً “إسرائيل” التي تعدّ جزءاً أساسياً من المشروع الغربي، بما يدفع الصين وروسيا إلى إعادة حسابات المصالح بين إيران وحلفائها من جهة، وشعوب ودول المنطقة بالدرجة الثانية، فالاستقرار فيها، لا يمكن أن يحصل بوجود كيان لا يستطيع البقاء، إلا باستمرار الصراعات المتعدّدة المستويات في محيطه، فضلاً عن مشكلاته الوجودية الداخلية، وتصاعد المقاومة الفلسطينية المسلحة في كامل أرجاء فلسطين.
ويبقى السؤال الأهم الذي قد يحتاج إلى عقدين من الزمن، للخروج من الكارثة الكبرى، وزوال هذا الكيان، كيف ستصبح صورة هذه المنطقة، جغرافياً وسياسياً، وهل تستطيع إيجاد حلول مختلفة، بعيداً من صراع الأدوار؟
المصدر: الميادين