يمكن لطوباس أن تجري عمليات مشاغلة، وأن تساهم في توسع رقعة الاشتباك. أما المحافظة على ديمومة العمل لوقت طويل، فهي تحدٍّ حقيقي، لكن يمكن لهذه المدينة أن تمثل مستقبلاً مصدر قلق حقيقياً لـ”إسرائيل”.
في الحلقة الثالثة، نستعرض تجربة آخر كتيبة معلنة حتى الآن: “طوباس”، واضعين في الإطار “العملية النوعية” الأخيرة في الأغوار الشمالية، مع قراءة سريعة لعمليات إطلاق النار في رام الله، فيما نتحرى وراء إعلان كتيبة في الخليل التي نستشرف واقع العمل فيها، لنكون بذلك قد كشفنا جزءاً كبيراً من المساحة الفعلية لـ”بقعة الزيت” التي تمددت في الضفة في عام واحد فقط، من دون أن تغفل العيون عن محافظات ومدن أخرى.
لا تزال طوباس، الواقعة شمال شرقي الضفة المحتلة، بمحاذاة نهر الأردن، تجهد لتجد لنفسها متسعاً بين كتائب المقاومة المتصاعدة في الضفة، وخصوصاً أن السلطة الفلسطينية استطاعت خلال الشهر الماضي ومطلع هذا الشهر أن تشنّ حملات اعتقال وتنكيل بحقّ عدد من الكوادر الفعالين، وخصوصاً في “الجهاد الإسلامي”. وكانت كتيبة هذه المدينة قد خرجت إلى النور منتصف تموز/يوليو الماضي، عندما صدر البيان الأول الذي أعلن التصدي لاجتياح إسرائيلي.
الفعل الأبرز لـ”كتيبة طوباس” كان رمزياً أكثر منه في التأثير العسكري، لكنه شكّل بادرة مهمة، حين أعلنت الكتيبة فجر الأحد 24 تموز/يوليو 2022 أنها أطلقت النار على حاجز “تياسير” في المحافظة “نصرة لنابلس” خلال حصار حي الياسمينة في البلدة القديمة فيها (محاولة اغتيال الشهيد إبراهيم النابلسي).
لكن المحافظة تعاني مشكلات من أكثر من ناحية، أولها أن سكانها لا يتجاوزون 70 ألفاً موزعين على مناطق شاسعة وبنايات قصيرة، فيما تشكل الأغوار الشمالية ما نسبته 70% من مساحة المحافظة، وهي مناطق منخفضة ومكشوفة، ويتحكَّم فيها عدد من الحواجز الثابتة والطيّارة التي تنغّص حياة السكان، وخصوصاً المزارعين.
المشكلة الكبرى أن معظم أراضي طوباس تُصنف ضمن فئة “ج” في اتفاق أوسلو، بمعنى أن السلطة الفلسطينية هي المسؤولة عن تقديم الخدمات الطبية والتعليمية للسكان، فيما تسيطر “إسرائيل” على الجوانب الأمنية والإدارية والقانونية.
ولأن الأغوار الشمالية هي سلة غذاء الضفة من الخضراوات والفاكهة، وهي من أغنى مناطق الضفة بالمياه، فقد وقعت في طليعة الاستهداف الاستيطاني الإسرائيلي. لذلك، تتمحور سياسة الاحتلال حول عزل طوباس عن باقي محافظات الضفة بزيادة المواقع العسكرية فيها، إذ تحوي المحافظة 7 قواعد عسكرية تتربع على مساحة تزيد على 14 ألف دونم.
كتيبة طوباس
كتيبة طوباس
ما هو ممكن لطوباس
مع ذلك، إنَّ انطلاق كتيبة في مثل هذه الظروف يعني أنَّ هناك حالة تأثر كبيرة بتمدد حالات المقاومة في الضفة، وخصوصاً في جنين ونابلس وطولكرم، في وقت لم يعد الاستقطاب يقوم على الطرق التقليدية القديمة، بل من الممكن أن تسهم أنشودة أو حكاية شهيد أو مقطع مصور أو خطبة مؤثرة تنتقل عبر مواقع التواصل في صناعة القرار لدى أي شخص للانخراط في المقاومة.
وفي المدينة، عاصمة المحافظة، ثمة حضور متوازٍ للحركات الثلاث الكبرى: “حماس” و”الجهاد الإسلامي” و”فتح”، مع أفضلية محدودة للأولى أهّلتها للفوز في الانتخابات التشريعية عام 2006. الأهم أنَّ تأثير السلطة والأجهزة الأمنية السلبي في السكان محدود، إذ يحافظون على نقائهم القروي بعيداً من حالة التغريب المدني المادي التي تعيشها المدن الكبيرة.
في النتيجة، يمكن لطوباس أن تجري عمليات مشاغلة، وأن تساهم في توسع رقعة الاشتباك. أما إمكانية المحافظة على ديمومة العمل لوقت طويل، فهي تحدٍّ حقيقي، لكن يمكن لهذه المدينة أن تمثل مستقبلاً مصدر قلق حقيقياً لـ”إسرائيل” بسبب التلاحم العشائري بين قاطنيها وأقربائهم في الجانب الأردني، وهذا ما يفسر كثرة الأخبار الإسرائيلية عن حالات إدخال السلاح من الأغوار بصورة أسبوعية تقريباً.
اقرأ أيضاً: كتائب المقاومة في الضفة: عندما يستفيق “الأسد النائم” (1/4)
عملية الأغوار في الميزان
جاءت عملية الأحد 4 أيلول/سبتمبر 2022 التي وُصفت بالنوعية لجهة طبيعة المنفذين وطريقة التنفيذ والمكان، رغم بعض الإخفاقات الميدانية، لتزيد من حضور الأغوار الشمالية في مساحة المواجهة. وقد شرعت وسائل الإعلام العبرية في تقديم معطيات حول الحادثة لتبرير الإخفاقات، وخصوصاً أن الحافلة المستهدفة كانت تحمل جنوداً من لواء “كفير” الذين قيل إنهم التحقوا بالخدمة قبل نحو أسبوعين فقط. زِد على ذلك أنَّ الحافلة لم تكن مصفّحة، وقد تجاوزها المنفذون الثلاثة مستقلين مركبة “تندر”، ثم توقفوا إلى جانب الطريق، وأطلقوا عليها 25 رصاصة حتى توقفت نتيجة إصابة السائق، قبل أن يحاولوا إحراقها بزجاجات حارقة.
تعقيباً على ذلك، رأى “معهد دراسات الأمن القومي” التابع لجامعة “تل أبيب” أن العملية “لم تكن مفاجئة حتى إن تضمنت تكتيكات غير عادية”، واضعاً إياها “علامةً أخرى” في ساحة المقاومة الآخذة بالاتساع. أما ما أراد المعهد التركيز عليه، فهو أن عملية الأغوار جزء من اتجاه ظهر في آذار/مارس الماضي، وبدأ بعمليات في المدن المحتلة عام 1948، “انطلاقاً من جنين التي استطاعت الجهاد الإسلامي أن تحولها إلى أهم بؤرة مقاومة في الضفة”، ثم “أقامت شبكات تعاون مع حماس وعناصر من فتح، وهي تقود جهوداً منهجية لتجنيد الشباب. وقد مولت مجموعات لا تتبع لها تنظيمياً”، أي إمكانية عمل خلايا ظل.
النقطة اللافتة هي إقرار المعهد بأنَّه لا يمكن تفسير ظاهرة تنامي المقاومة من منطلق الصعوبات الاقتصادية، بل يجب الإقرار بأن هناك وعياً متزايداً بضرورة النضال ضد الاحتلال “جراء الفراغ الذي تركته السلطة… ثمن المقاومة ليس باهظاً، فالأبطال الفلسطينيون يولدون كل يوم، والشعور بالقدرة والدافعية للنضال المسلح يستقر في الوعي الجمعي لجيل الشباب، وهذا بحد ذاته سبب كافٍ لتوسع دائرة المواجهة في الضفة”.
ماذا عن رام الله؟
تتتابع على نحو شبه يومي، وأحياناً أسبوعي، الأنباء عن عمليات إطلاق نار في رام الله تستهدف حافلات للمستوطنين وحواجز لـ”الجيش” الإسرائيلي ومداخل مستوطنات، ما دفع كثيرين إلى تقديرِ إعلانِ كتيبةٍ في رام الله والبيرة، وهو الحدث الذي لم يقع بعد.
لكن توالي العمل وحوادث إطلاق النار، وخصوصاً قرب بلدة سلواد شرقي رام الله، أو انطلاقاً منها، يثير علامات استفهام عن كتيبة فعلية يرجح أنها تؤجل إعلان نفسها لأسباب لها علاقة بالسلطة التي ترى أن مثل هذا الواقع في عاصمتها السياسية سيكون ضاغطاً عليها بشدة.
وبينما تمتلك “حماس” قواعد عمل قوية في عدد من قرى رام الله قياساً بـ”الجهاد الإسلامي” التي لم تصرح أو تلمح إلى أي تفاصيل في هذا الشأن بعد، فإن الحضور الأقوى يبقى لمجموعات من “كتائب الأقصى” (فتح) أو عناصر من السلطة قد يتخذون هذا المنحى.
وكانت أشهر عمليتين وقعتا في رام الله خلال السنوات القليلة الماضية هما “جفعات آساف” (أسفرت عن مقتل 3 جنود إسرائيليين وجرح 2 آخرين) و”عوفرا” (أسفرت عن إصابة 11 مستوطناً أحدهم كانت حالته خطرة)، اللتين نُفذتا (كانون الأول/ديسمبر 2018) بطريقة الكر والفر قرب بلدتي سلواد ويبرود شمال شرقي رام الله والبيرة.
خاتمة: هل يستفيق “الأسد النائم”؟
لا بدّ من عودة إلى بدء، أي الخليل، التي أطلقت شرارة “هبة القدس” (2015-2018) قبل أن تنطفئ، والسبب الأساسي أن المحافظة الملأى بالسلاح كان سلاحها مضبوطاً إلى حد ما بأمر كبار العشائر، وفي أيدي وازنين فيها، لكن سيل السلاح الذي سمحت كل من السلطة و”إسرائيل” بدخوله إلى المحافظة ووصوله إلى أيدٍ غير حريصة خلق فوضى وفلتاناً خلط أولويات سكانها، ولا يزال قائماً حتى اليوم، إضافة إلى مصالح شبكة التجار المعقدة، الأمر الذي نال دراسات وافية حوله، ولا يزال يستحق المتابعة على حدة.
لكن الجمعة 17 حزيران/يونيو 2022 شهد حدثاً لافتاً؛ ففي هذا اليوم الذي استشهد فيه 3 مقاومين من “كتيبة جنين” هم: يوسف صلاح (23 عاماً، شقيق الشهيد سعد)، وبراء لحلوح (24 عاماً)، وليث أبو سرور (24 عاماً، شقيق الشهيد علاء)، صدر بيان باسم “كتيبة الخليل” أعلن تنفيذ عمليتين استهدفت الأولى مرصداً أمنياً قرب مستوطنة “كريات أربع”، والأخرى حاجز “أبو الريش” جنوباً، ثم اختفت وأخبارها.
مهما كانت الحقيقة وراء ما جرى، فإنه وجّه الأعين مجدداً إلى أقصى جنوبي الضفة، حيث المحافظة التي وصفها الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، بأنها “الأسد النائم”، وخصوصاً أن الخليل من أكبر المدن في الضفة، إذ تبلغ مساحتها 997 كلم2، ويقدّر عدد سكانها بأكثر من 800 ألف نسمة، فيما تتغلغل عشرات المستوطنات الإسرائيلية داخلها وتطوّقها كتل أخرى، كما أنها تحمل مركزاً دينياً مهماً هو الحرم الإبراهيمي الذي يمثل شرارة اشتعال، لكنها مطفأة منذ عقدين على الأقل. وربما ما جرى قبل فترة من إشادة فصائل المقاومة بإحراق برج عسكري في الخليل يشي بالتعطش إلى مثل هذا الاشتعال.
بينما تشتهر الخليل بصناعاتها التاريخية وأسواقها القوية، تحكمها تكتلات عشائرية تؤثر كثيراً في اتخاذ القرار. ويتوزع انتماء السكان فيها بين “فتح” أولاً، و”حماس” ثانياً، ثم باقي الفصائل، فيما لا يوجد حضور شعبي لافت لـ”الجهاد الإسلامي”، إذ تتشكل بنية الحركة في المدينة من بعض النخب والشخصيات ذات الكاريزما الاجتماعية أو العلمية العالية، لكن “الجهاد” تمتلك حضوراً جيداً في القرى هناك قياساً بالمدينة، مع أنه ليس حضوراً فعالاً كما شماليّ الضفة، والمشكلة التي تواجه الحركة أن غالبية الفتحاويين في الخليل هم ممن يتبنون خيارات السلطة حالياً.
مع أنّ الخليل تعطي الأفضلية لـ”حماس” في الاستحقاقات الانتخابية، فإن تلك الأفضلية تنعكس في النقابات واستطلاعات الرأي فقط في أحسن الحالات، ولا تعطيها أي هوامش للعمل التنظيمي، إذ تحاصر الأجهزة الأمنية أنصار الراية الخضراء، فيما يشارك الاحتلال في القضاء على أي ظاهرة، مثل العمل الخيري والجماهيري وحملات المساجد. في النتيجة، لم تمتلك “حماس” و”الجهاد” أي غطاء فتحاوي لتتمددا عبره، وخصوصاً أن إجراءات السلطة والاحتلال ضربت أساسات العمل وفكرة بعثه من جديد.
وإلى جانب تلك الضربات الأمنية القوية، وسياسة “الباب الدوار” التي تعتمدها السلطة والاحتلال في اعتقال الكوادر ومنعهم من الراحة، تركت كثرة التجارب السيئة وعياً سلبياً لدى الشباب الذين يمتلكون إرادة الفعل، مفادها بأن نهاية كل محاولة الاعتقالُ عامين إدارياً إذا اشتبه الاحتلال في فعل مقاوم، أو بمحكومية كبيرة إذا ثبت. رغم ما سبق، إذا قُدّر للخليل أن تعود إلى دورها التاريخي والفعال، كما في الانتفاضة الثانية، شرط أن يكون ذلك في الوقت المناسب، فإن هذا سيقلب الموازين بصورة كبيرة في الضفة، وهو أمر رهن السؤال المفتوح.
المصدر: الميادين