العين برس:
المؤدى الأهم لتفجيرات السيلين الشماليين، ومحاولة تفجير “السيل التركي”، هو فك ارتباط أوروبا غازياً بروسيا في المدى الطويل، حتى لو افترضنا جدلاً حل مشكلة أوكرانيا بطريقةٍ أو بأخرى بعد حين.
وقع تطوران عظيما الشأن في مسرح حوامل الطاقة عالمياً مؤخراً، أولهما سلسلة تفجيرات أصابت 3 أنابيب تنقل الغاز الروسي عبر بحر البلطيق إلى ألمانيا، في 26 أيلول/سبتمبر الفائت، وهي:
1 – أنبوبا “السيل الشمالي-1″، “واحد-أ”، و”واحد-ب”.
2 – أحد أنبوبي “السيل الشمالي-2″، وهو الأنبوب “أ”.
ADVERTISING
يتألف “السيل الشمالي-2” من أنبوبين أيضاً، “ألف” و”باء”. وقد سَلِم “باء” من التفجيرات، أمّا “السيل الشمالي-2-أ” فتعرّض لانفجارين، أحدهما في المنطقة الاقتصادية البحرية الخاصة بالدنمارك، والآخر في المنطقة الاقتصادية البحرية الخاصة بالسويد.
يُذكر أن “السيل الشمالي – 2” أوقفت ألمانيا، بلد المصب، تشغيله تماماً، في 22 شباط/فبراير، قبل يومين من العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وبعد يومٍ واحدٍ من اعتراف روسيا رسمياً بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك.
وبناءً عليه، فإن “السيل الشمالي-1” ظل لمدةٍ طويلةٍ المنْفَذَ الرئيس، وليس الوحيد، لتمرير الغاز الروسي إلى أوروبا، إذ إن هناك أيضاً خطوط “يامال” و”الصداقة” و”السيل الأزرق” و”السيل التركي”، الذي اتهمت روسيا أوكرانيا بمحاولة تفجيره، الأسبوع الفائت.
تشير مواقع غربية، في معرض تعليقها على تفجيرات السيلين الشماليين، إلى أن روسيا أوقفت ضخ غازها عبر أنبوبي “السيل الشمالي – 1” في نهاية شهر آب/أغسطس، أي قبل تفجيرهما بشهر، في محاولة للإيحاء في أن تفجير الأنابيب هو استمرار لنهج روسي. لكن، حتى لو أخذنا هذه النقطة كبيّنة، فشتّان بين إغلاق صنبور موقتاً، نتيجة أسباب تقنية أو غير تقنية، يمكن إعادة فتحه بيسر في المدى القصير، وبين إحراق السفن نهائياً مع الاتحاد الأوروبي، من خلال تدمير بنية تحتية ثمينة كلفت عشرات مليارات الدولارات، تملك روسيا معظمها، مع العلم بأن التأخر في إصلاح الخطوط المدمرة يكشف بطانتها الداخلية المكونة من مواد عضوية (بوليمرات) على مياه البحر المالحة، الأمر الذي يجعلها تَتَأَكَّل مع الزمن.
وبالتالي، فإن المؤدى الأهم لتفجيرات السيلين الشماليين، ومحاولة تفجير “السيل التركي”، هو فك ارتباط أوروبا غازياً بروسيا في المدى الطويل، حتى لو افترضنا جدلاً حل مشكلة أوكرانيا بطريقةٍ أو بأخرى بعد حين. وابحث دوماً عن المستفيد من الجريمة، كما تنص القاعدة الجنائية: Cui bono؟
قرار “أوبك +” تقليص إنتاج النفط يثير غضب الإدارة الأميركية
أمّا التطور الآخر المهم فهو قرار “أوبك +”، في 5 تشرين الأول/أكتوبر الفائت، تقليص إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يومياً، ابتداءً من شهر تشرين الثاني/نوفمبر، أي قبل أسبوع من الانتخابات النصفية الأميركية، الشهر المقبل.
جاء هذا القرار خطوةً اعتراضيةً، في مسار تقهقر متوسط أسعار برميل النفط من 120 إلى 80 دولاراً، خلال الأشهر الثلاثة التي سبقته، مع انزلاق الاقتصاد العالمي إلى أكناف الركود، وما يتبع ذلك بالضرورة من انخفاض في الطلب الآجل على حوامل الطاقة لأغراض الإنتاج والشحن والتنقل، على الرغم من دخول النصف الشمالي من الكرة الأرضية فصل الخريف، وما يرافق ذلك من ارتفاعٍ في الطلب على حوامل الطاقة لأغراض التدفئة.
على سبيل المقارنة، انخفض سعر النفط في قعر أزمة كوفيد 19 إلى نحو 20 دولاراً للبرميل جراء تقلص الطلب عليه مع انكماش الإنتاج والشحن والتنقل.
كانت عنيفةً ردةُ فعل إدارة بايدن والدولة العميقة الأميركية على قرار “أوبك +” خفض إنتاجها، ولاسيما تجاه السعودية وروسيا. وتركّز الخطاب الأميركي إعلامياً وفي الكونغرس على اتهام السعودية بالاصطفاف مع روسيا سياسياً في مواجهتها مع الغرب.
أمّا الهجوم على “أوبك” عموماً فتَرَكَّز تاريخياً في الولايات المتحدة على اتهامها بممارسة التسعير الاحتكاري ككارتيل نفطي، وهذا طريفٌ جداً بالنظر إلى أن مشروع فرض سقف سعري على مشتريات النفط الروسي يتطلب من الغرب تشكيل كارتيل شراء موحد، أو ما يعرف باسم Monopsony.
يُذكَر أن مشروع قانون في الكونغرس الأميركي ضد “أوبك”، بعنوان “NOPEC”، ما برح يراوح، ذهاباً وإياباً منذ عام 2007 كمشروع، ظل سيفاً مُصْلَتاً على رقاب الدول المنتجة للنفط. وفي الأسبوع الفائت، بادر نواب وشيوخ ديمقراطيون وجمهوريون إلى إعادة تفعيل مشروع قانون “NOPEC” مجدداً.
وليكنْ واضحاً أنه لا يوجد خلاف بين الديمقراطيين والجمهوريين (الأقرب إلى اللوبي النفطي الأميركي) بشأن الموقف تجاه “أوبك” أو الأزمة الأوكرانية، وأن الخلاف بينهما يتعلق بمسألة داخلية هي ضغط الجمهوريين لتخفيف القيود البيئوية على زيادة إنتاج النفط أميركياً، ورفضهم أي تقييد لصادرات النفط الأميركي ومشتقاته، ولاسيما على خلفية قرار “أوبك” والمشهد الأوكراني.
حتى بيرني ساندرز، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فيرمونت الأميركية، والذي نافس عامي 2016 و2020 في ترشيح الحزب الديموقراطي للانتخابات الرئاسية، والذي يُعَدّ ممثل “أقصى اليسار” في المشهد البرلماني الأميركي، اتخذ موقفاً متشدداً، ناشراً في حسابه في موقع “تويتر” تغريدة في 6 تشرين الأول/أكتوبر، قال فيها: “إن قرارَ أوبك تقليص الإنتاج محاولةٌ وقحةٌ لزيادة أسعار البنزين على المضخة لا يمكن تقبلها. علينا إنهاء التثبيت غير القانوني للأسعار من طرف أوبك، والتخلص من المساعدة العسكرية الأميركية للسعودية، والتحرك بقوة نحو الطاقة المتجددة”.
في المآل الموضوعي لقرار “أوبك +”
لا شكّ في أن قرار “أوبك +” تقليص إنتاجها، على النقيض من تفجير السيلين الشماليين للغاز الروسي، صبّ موضوعياً في جيب روسيا في صراعها مع الغرب، بغض النظر عن الدوافع المتنوعة لمن اتخذوه.
ولا يعني ما جرى أن السعودية تحولت إلى قوة مناهضة للإمبريالية، كما سيأتي. أمّا سبب تركيز الهجمة الإعلامية أميركياً على السعودية، من دون غيرها في “أوبك”، فلأنها تنافس روسيا في موقع ثاني أكبر منتج للنفط عالمياً عند 10.8 ملايين برميل يومياً عام 2021، بعد الولايات المتحدة الأميركية التي تحتل المركز الأول في إنتاج النفط عند 18.8 مليون برميل يومياً، بحسب الإحصاءات الرسمية الأميركية. وهو ما يعطي التحالف النفطي الروسي – السعودي، عند 22% من الإنتاج العالمي، الوزن النسبي الأكبر في العالم.
فإذا أضفنا الوزن السعودي خليجياً، ولاسيما مع الإمارات والكويت (اللذين يشكلان معاً 7% من الإنتاج العالمي)، وأضفنا إيران والعراق (اللذين يشكلان معاً 8% من الإنتاج العالمي)، وأضفنا الصين والبرازيل في البريكس (9% من الإنتاج العالمي)، فإن التي تتبقّى خارج المعادلة، من الدول العشر الأولى، هي كندا التي أنتجت 6% من النفط عالمياً عام 2021.
هذا يعني، في لوحة ميزان القوى العالمي، أن 26% من إنتاج الكوكب من النفط منبعُه أميركا الشمالية، في مقابل 46% للسعودية وتحالفاتها، وروسيا وتحالفاتها، وإيران وتحالفاتها. ويبقى 28% من الإنتاج النفطي لكل سائر دول العالم مجتمعة، وبينها دولٌ مثل الجزائر التي تنتج 1.5 مليون برميل يومياً، وفنزويلا التي تراودها الولايات المتحدة عن نفطها، الذي بلغ 2.68 مليون برميل يومياً عام 2014 مثلاً، ثم انخفض إلى بضع مئات آلاف البراميل يومياً عام 2021.
حلقة نرويجية في تفجير السيلين الشماليين؟
بلغ إنتاج النرويج، في المقابل، أكثر من مليوني برميل يومياً عام 2021، وهي عضو مؤسس في حلف الناتو طبعاً، ولكنها ولغَت إيلاغاً في جيوب أشقائها الأوروبيين، فلم تأخذها بهم رحمةٌ ولا شفقةٌ بعد ارتفاع أسعار النفط والغاز بعد العقوبات على حوامل الطاقة الروسية، ولعلها من أكبر المستفيدين تجارياً من انقطاع النفط والغاز الروسيين عن الاتحاد الأوروبي.
لكنّ النرويج، التي تقع شمالي شبه الجزيرة الإسكندينافية، لا تشاطئ بحر البلطيق الذي تمر عبره أنابيب السيلين الشماليين، كما تُطِلّ أوكرانيا على البحر الأسود الذي يمر عبره “السيل التركي”، وإن كانت النرويج لا تفتقر إلى منفذٍ بحريٍ إليه. وربما يكون الأسلم البحث عن المستفيد جغرافياً وسياسياً من فصل روسيا عن أوروبا، ويملك قدرات تقنية عالية تمكنه من وضع 4 شحنات تفجيرية متزامنة، تقدر قوة الواحدة منها بـ100 كيلوغرام من مادة TNT، تحت سطح مياه بحر البلطيق.
الغريب أن خط غاز “البلطيق”، الذي يمر من النرويج عبر الدنمارك ثم عبر بحر البلطيق إلى بولندا، جرى تدشينه رسمياً في 27 أيلول/سبتمبر الفائت، بعد يومٍ واحدٍ فقط من تفجيرات السيلين الشماليين الروسيين! وكانت بولندا أبلغت روسيا رسمياً توقفها عن استلام الغاز الروسي عبر خط “يامال” في 23 أيار/مايو. وتوقف الضخ عبر “يامال” تماماً في 21 أيلول/سبتمبر الفائت على خلفية إصرار بولندا على ألّا تدفع ثمن النفط الروسي بالروبل، وبسبب عدائها الشديد والمعلن لروسيا، وانسلاخها عن هويتها السلافية ونزوعها الغربي، وشعورها الوهمي بالتفوق، عرقياً وثقافياً.
يُذكَر أن مرتزقة بولنديين يحاربون إلى جانب نظام زيلينسكي في أوكرانيا. وتمتلك بولندا، بالمناسبة، شواطئ طويلةً مطلة على بحر البلطيق. فهل يرشحها كل هذا كي تصبح منصةً لعملٍ عدائيٍ متقن ومعقد ضد روسيا، يمكن أن يشنه من يمتلك قدرات عسكرية تقنية أكبر كثيراً منها؟
عداء الحزبين الجمهوري والديمقراطي للسيلين الشماليين
نشر موقع معهد “كارنيغي”، في 30 أيلول/سبتمبر، بعد أيام من تفجيرات بحر البلطيق، تقريراً بعنوان “الصدمة والرعب: من فجّر أنابيب السيل الشمالي؟”، يذكر كل شيء عن تلك التفجيرات، ما عدا المصلحة الاستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية في فصل أوروبا غازياً عن روسيا.
والحقيقة أن خط “السيل الشمالي – 1″، الذي دُشن عام 2011، وخط “السيل الشمالي – 2” الذي انتهى العمل به بداية عام 2022، وكان يُفترض به أن يضاعف كميات الغاز الروسي إلى أوروبا إلى 110 ملايين متر مكعب سنوياً، ولم يُدشَن أبداً، تعرّضا لحرب شعواء من طرف الإدارة الأميركية على طول الطريق منذ بدء إنشائهما.
فجورج بوش الابن، الجمهوري، حارب “السيل الشمالي – 1″، وباراك أوباما، “الديمقراطي”، حارب “السيل الشمالي – 2”. ويتميز السيلان بأنهما يمران عبر بحر البلطيق من روسيا إلى ألمانيا مباشرة، من دون المرور بالمحابس البرية التي تمر فيها خطوط الغاز الروسية الأخرى عبر بلدان أوروبا الشرقية المعادية لروسيا.
لم يختلف هذا التوجه المعادي للسيلين الشماليين بين إدارتي ترامب وبايدن بالمناسبة. ففي عام 2018، فرض ترامب عقوبات على صادرات السيارات الألمانية، مطالباً ألمانيا بإيقاف إنشاء “السيل الشمالي – 2” فوراً. وفي عام 2019، فرض ترامب عقوبات على أي شركة تساهم في إنجاز “السيل الشمالي – 2″، بتأييد جمهوري وديموقراطي، معتبراً أن الخط سيجعل من أوروبا رهينةً لروسيا.
وفي 7 شباط/فبراير الفائت، نشرت شبكة قنوات ABC الأميركية مقطعاً للرئيس بايدن يقول فيه: “إذا غزت روسيا أوكرانيا، فلن يبقى السيل الشمالي – 2، إذ إننا سوف ننهيه”. لتسأله المراسلة: “لكن، كيف ستفعل ذلك بالضبط، بما أن المشروع هو تحت سيطرة ألمانيا؟”، ليجيب بايدن بـ”أعدك بأننا سوف نكون قادرين على فعلها”.
الآن، تلك اسمها بيّنة قانونية، هي تهديدٌ تحديداً، من جهة، وقادرة وصاحبة مصلحة في تنفيذه. ورُبّ قائل إن بايدن هدد بشطب “السيل الشمالي – 2” فقط، ولم يذكر “السيل الشمالي – 1″، وإن تهديده ربما يعني الضغط على ألمانيا سياسياً لإيقافه، وربما يكون المعنى في قلب الشاعر، أو أنها زلة لسان كزلاته الكثيرة، والمثل يقول: خذوا الحقيقة من أفواه الخرفانين.
ارتدادات كبيرة لحدثين كبيرين
كان لتدمير خطوط أنابيب السيلين الشماليين في بحر البلطيق، وقرار “أوبك +” تقليص إنتاجها، ارتدادات كبيرة على الصراع بين الاقتصادات الصاعدة ومنظومة الهيمنة الإمبريالية. وفي 8 تشرين الأول/أكتوبر الفائت، بينما كانت شركة “إكزون” النفطية الأميركية Exxon، إحدى أكبر الشركات المتعدية الحدود في العالم، تعلن أنها على وشك بيع حصتها البالغة 30% من حقل “سخالين – 1″، النفطي والغازي في روسيا، لجهة غير معروفة، وقّع الرئيس بوتين مرسوماً يؤمم أصول “إكزون” في ذلك الحقل ويعرضها للبيع. وهو تعويضٌ صغير بالنسبة إلى روسيا التي وضع الغرب يده على 300 مليار دولار من أصولها.
وفي طريق تعزيز العلاقة الهندية – الروسية، تُعَدّ الهند التي تملك 20% من حقل “سخالين – 1” من المرشحين، مع الصين، لشراء حصة “إكزون” فيه. وتملك شركة يابانية 30% أيضاً منه. وانخفض إنتاج ذلك الحقل، الذي تديره “إكزون”، من 220 ألف برميل قبل الأزمة الأوكرانية إلى 10 آلاف برميل يومياً، بذريعة “القوة القاهرة”، وهو درسٌ بليغٌ لكل من يغلّب حساب المصلحة التجارية على حساب الأمن القومي.
وفي 8 تشرين الأول/أكتوبر أيضاً، جرى استهدف جسر “كيرش” الذي يربط شبه جزيرة القرم بالبر الروسي، وهو ما لا يمكن فصله عن استهداف البنية التحتية الروسية عبر البحار.
مسألة الموقف السعودي في “أوبك +”
بعد انسحاب الإدارة الأميركية العشوائي من أفغانستان في 31 آب/أغسطس 2021، وانسحابها غير المكتمل من العراق في نهاية عام 2021، بات جلياً أن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد تقوى على ممارسة الاحتلالات. وكان من الواضح قبلها أن الولايات المتحدة تميل إلى التدخل غير المباشر عبر أدواتها، وإلى الضربات السريعة الجوية أو الاستخبارية، وإلى اعتماد أدوات حروب الجيل الرابع، ومنها الحروب الإعلامية والثقافية والاقتصادية، بدلاً من الحروب التقليدية المباشرة والاحتلالات المطولة.
هذه النزعة التي تبلورت، أكثر ما تبلورت، بعد حربي أفغانستان والعراق، أرسلت رسالةً إلى العدو والصديق، مفادها أن خطر الحرب التقليدية والتدخل العسكري الأميركي المباشر والمطول بات أقل مثولاً. ودفع هذا حلفاء الولايات المتحدة إلى القلق من أنهم لم يعودوا يتمتعون بالحماية الأميركية كما سبق، وجاء مثال أوكرانيا ليثبت هذه النقطة.
دفع هذا الانكشاف بعض القوى الإقليمية التابعة للأميركيين، مثل بعض الأنظمة الخليجية، إلى التفكير في ملاذات أخرى، صديقة أو معادية للولايات المتحدة، من الكيان الصهيوني إلى الصين، كما أنه دفع بعض القوى الإقليمية الطامحة إلى التحول إلى أقطاب دولية، مثل الكيان العثماني، إلى التجاوز على الناتو، وهو يجلس في حضنه، ولم يكن شراء منظومة الدفاع الجوي S-400 من روسيا ممكناً من قبلُ لو كانت الولايات المتحدة الأميركية تعيش قمة عنفوانها.
يمر عالمنا المعاصر في مرحلة تحول بين الأحادية والتعددية القطبية إذاً، فلا هي هذا ولا ذاك. وفي مرحلة غياب المرجعيات القطبية الكبرى، على عكس ما كانت عليه الحال في زمن الحرب الباردة أو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تبدأ مختلف القوى المحلية والإقليمية اللعب على الحبال، وتنشط لديها نزعات التحلل من القيود المركزية.
وهو أمر نلاحظه، في كل حال، عبر تاريخنا العربي، عندما كانت تضعف الدول المركزية القوية، كما نلاحظه في كل قطر عربي تضعف فيه الدولة المركزية، لتنشأ قوى ومرجعيات محلية في أماكن قصية لم يكن يسمع بها أحد من قبل. فهذا قانون في علم السياسة: كلما ضعفت المراكز، تنمّرت الأطراف، سواء دار الحديث عن قطر واحد أو أمة أو كوكب الأرض، من لبنان إلى سوريا إلى العراق إلى الصومال إلى ليبيا إلى الأمة العربية ككل، إلى ميدان الصراع العالمي.
باختصار، سارت السعودية مع الولايات المتحدة في إغراق السوق بالنفط عام 2014 عقاباً لروسيا، فدفعت الثمن غالياً كما تدفعه أوروبا اليوم. وبعد أوكرانيا وجدت السعودية أنها لن تتمتع بحماية أميركية على الرغم من كل الأثمان التي دفعتها. وبعد ذلك كان عليها أن تسمع التقريع من الديمقراطيين على قصة حقوق الإنسان وحربها في اليمن. لذلك، قررت أن تستخدم النفط رافعةً سياسية. باختصار، لقد ضاقت ذرعاً بدفع الثمن من دون مقابل.
ومن يفكر، بمنطق الحرب الباردة والأحادية القطبية البائدتين، فلن يتمكن من استيعاب الحالة السائلة لتناقضات عالمنا المعاصر وتحالفاته، في القرن الـ21. وأخطر المراحل هي المراحل الانتقالية كتلك التي نمر فيها. فهناك تقاطعات واختلافات حتى ضمن المعسكر المناهض للهيمنة الغربية. هل لاحظتم مثلاً كيف امتنعت فنزويلا وإيران عن التصويت على القرارات الموجهة ضد روسيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة حرصاً على عدم تصعيد التناقضات مع الغرب، أملاً في رفع حظر تصدير النفط عنهما؟ إنهما النفط والغاز كرافعة سياسية.
المصدر: الميادين