العين برس:
كل المؤشرات تشير إلى استمرار السلطة الفلسطينية في انتهاج طريق الخيار الأوحد، ولا يبدو أنَّ لديها رغبة في تجربة طريق آخر، ولو كخيار موقّت.
في 13 أيلول/سبتمبر 1993، وقعت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة الراحل ياسر عرفات مع “إسرائيل” اتفاقية “أوسلو” برعاية أميركية، منهيةً بذلك نحو 7 سنوات من انتفاضة الشعب الفلسطيني الأولى ضد المحتل الإسرائيلي، والتي سُميت في ذلك الوقت “انتفاضة الحجارة”.
في تلك الفترة، كانت معارضة هذا الاتفاق كبيرة جداً، سواء على المستوى الداخلي أو في أوساط الجماهير العربية والإسلامية على امتداد الوطن العربي الكبير، إذ كيلت الاتهامات حينها لأبي عمار من كل حدب وصوب، ووصلت إلى حد اتهامه بالخيانة والتفريط وبيع الأرض والتنازل عن المقدسات، ولم يشفع له تاريخه النضالي الكبير الممتد منذ عام 1959.
بعد سنوات من ذلك الاتفاق المشؤوم، اكتشف الشهيد أبو عمار، وهو صاحب الخبرة الكبيرة في مجالي الحرب والسياسة، أن ما كان يعتقد أنه حل مرحلي وموقّت قد يُفضي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران/يونيو عام 1967، ما هو إلا مصيدة أُعدّت في ليل لتفتيت وحدة الشعب الفلسطيني، وشِرك أُريد له أن يؤدي إلى مزيد من التشرذم والانقسام، ومدخل لتحويل المستوطنة المسمّاة “إسرائيل” من “دولة” محتلة ومنبوذة من جميع جيرانها إلى كيان طبيعي يمكن التعامل معه وبناء العلاقات الدبلوماسية والثقافية والتجارية والأمنية معه.
حينها، بدأ ياسر عرفات يغيّر تكتيكاته، وإن بشكل غير مباشر ومن خلف الستارة، وحاول الانقلاب على ذلك الاتفاق الظالم والمجحف الذي تنازل بموجبه عن أكثر من 78% من أرض فلسطين التاريخية، ووضع النسبة الباقية تحت بند أراضٍ مُتنازع عليها، فقام بتشجيع ودعم انتفاضة الأقصى عام 2000، التي تفجّرت رداً على اقتحام رئيس وزراء العدو السابق أرئيل شارون المسجد الأقصى المبارك، إذ فتح قنوات اتصال مع معظم فصائل المقاومة، ودعم بعضها بالمال والسلاح، وأصبح عدواً بكل ما للكلمة من معنى لـ”إسرائيل”، ومن ورائها أميركا، فحُوصِر في المقاطعة عسكرياً، وقُوطِع من معظم الدول، بما فيها دول عربية، سياسياً، حتى انتهى الأمر بأن يُصفّى جسدياً في عملية اغتيال جبانة لم يستطع أحد أن يكتشف تفاصيلها حتى الآن، ولكن لماذا نستذكر هذا التاريخ الآن؟ ولماذا نعيد نبش الماضي بعد هذه السنوات الطوال؟ وهل استدعاء التاريخ وتجاربه يفيد في مواجهة المصائب والملمّات التي يعيشها شعبنا وأمتنا في هذه الأوقات؟
في الحقيقة، هذا الاستحضار للتاريخ يرجع إلى أنَّ المرحلة التي يعيشها شعبنا الفلسطيني الآن تشبه إلى حد كبير مرحلة اكتشاف الشهيد أبي عمار فشل مشروع التسوية الذي راهن عليه في وقت ما، فمشروع “أوسلو” الذي حاول محمود عباس وحاشيته إيقاظه من غيبوبته الطويلة سقط، وباءت كل محاولاتهم بالفشل.
وقد أجهزت عليه “إسرائيل” نهائياً من خلال التنكّر لكل ما ورد فيه، وخصوصاً على مستوى التقسيم الإداري لمناطق الضفة الغربية المحتلة؛ تلك المناطق التي تُجتاح مدنها وقراها كلّ يوم، ويمارس العدو فيها كل أنواع القتل والإجرام، وخصوصاً تلك الواقعة في المنطقة “أ”، التي تُعرّف، بحسب اتفاق “أوسلو”، بأنّها مناطق تخضع للسيطرة الإدارية والأمنية الكاملة للسلطة الفلسطينية.
وكما يبدو، فإنَّ الكثيرين من منظّري السلطة والداعمين لمشروعها باتوا متيقّنين بأن كل ما راهنوا عليه خلال السنوات الماضية لم يكن سوى وهم وسراب، فلا دولة مستقلّة قامت، ولا حقوق اللاجئين عادت، ولا أيّ وعد أو عهد وجد طريقه إلى التنفيذ على أرض الواقع، فكل الأوهام تبدّدت، وكل الأقنعة سقطت، وكل ما كان يُعتقد بأنه حقائق وثوابت ذهب أدراج الرياح.
ماذا هم فاعلون الآن؟ هل يحذو أبو مازن حذو الشهيد أبي عمار ويقلب الطاولة في وجه الجميع، ولا سيما الأميركي والإسرائيلي؟ وهل يمكن أن يتنصّل من الاتفاقات الأمنية التي كسرت ظهر المقاومة في الضفة الغربية، ويمد يده إلى المخلصين من أبناء شعبه، وما أكثرهم! بشكل جدي وحقيقي، وليس من خلال التصريحات واللقاءات!
هل يوقف مشاركة سلطته في فرض الحصار على قطاع غزة المنكوب، ويبادر إلى تصحيح العلاقة مع باقي مكوّنات الشعب الفلسطيني؟ وهل يُعيد حقوق الموظفين المؤيدين والمعارضين على حدٍّ سواء، ويوقف معاناتهم المستمرة منذ سنوات؟
هل يغيّر أبو مازن قناعاته المعلنة التي أكدها مجدداً في خطابه الأخير في الأمم المتحدة، ويقنع بما بات يعتقده الكثيرون، حتى من أقطاب السلطة، بأن لغة الحوار والمفاوضات لا تجدي مع هذا المحتل، وأن 30 عاماً من تلك العلاقة غير الشرعية بين السلطة والاحتلال تكفي؟ هل آن الأوان لأن يصبح أبو مازن رئيساً لكل الشعب الفلسطيني، على اختلاف انتماءاته وتوجهاته، كما كل رؤساء العالم، وليس لفئة أو حزب أو جماعة؟
هل يفعلها السيد محمود عباس وقد تجاوز الثمانين من عمره، ويختم حياته بعملٍ سيُكتب له في التاريخ، كما نصحه بذلك الدكتور رمضان شلح (رحمه الله) في يوم من الأيام، أو سيبقى على عناده ويضيع هذه الفرصة التي ربما لن تتكرر مرة أخرى؟
بحسب التجربة المريرة التي عاشها شعبنا الفلسطيني في ظل وجود تلك السلطة، وخصوصاً ولاية أبو مازن، لا يبدو أن المستقبل مبشّر، ولا يظهر في الأفق القريب أو حتى المتوسّط بريق أمل بعودة تلك السلطة التي يتحكّم فيها بعض السماسرة والتجّار إلى طريق الرشد والصواب، بل ربما تذهب الأمور إلى تعقيدات جديدة، وخصوصاً في ظل محاولات بعض قادة الأجهزة الأمنية تقديم فروض الطاعة لـ”إسرائيل” وأميركا، لعلّهم يحظون بفرصة لخلافة رئيس السلطة بعد عمر طويل.
أقولها، وللأسف الشديد، إنَّ كل المؤشرات تشير إلى استمرار السلطة في انتهاج طريق الخيار الأوحد، ولا يبدو أنَّ لديها رغبة في تجربة طريق آخر، ولو كخيار موقّت، فالسلطة وأزلامها عقدوا العزم على مواصلة المسير في نفق مظلم لا يلوح في آخره أي ضوء، وأغمضوا أعينهم وصمّوا آذانهم عن كل المقترحات التي لن تكون في أيّ حال من الأحوال أسوأ من خيارهم الذي ثبُت فشله وبانت سوءته.
ولكن حتى لا نكون سوداويين في نظرتنا، يمكن أن نقول إنّ هناك نفقاً آخر غير الذي تسير فيه السلطة وأزلامها. هذا النفق يسير فيه الشعب الفلسطيني الصابر والمرابط، ومعه كل قوى الأمة الحية، وليس لدينا شكّ في أنهم سيصلون في نهاية المشوار إلى مرادهم المنشود.
نحن نعتقد أنَّ الفترة القادمة يمكن أن تشهد مزيداً من المتغيّرات الإيجابية على مستوى الأوضاع في الضفة المحتلة خصوصاً، فالقوى الحيّة والمقاوِمة نهضت من جديد بعد سنوات عِجاف فرضت فيها السلطة، وبدعم إسرائيلي، سيطرتها على مقاليد الأمور بالحديد والنار. وقد أصبحت هذه السيطرة تتراجع وتنكفئ، كما يقول كلّ المتابعين والمهتمين، وبات زمام الأمور بيد القوى الشريفة التي تتخذ قراراتها بناء على مصلحة شعبها، وليس أي شيء آخر.
نحن على ثقة تامة بأنَّ الشعب الفلسطيني الأصيل، مسنوداً بالمخلصين من أبناء أمته العربية والإسلامية، سيُسقط كلّ المكايد التي تستهدف دفعه لرفع الراية البيضاء وتقديم فروض الطاعة لعدوه.
هذا الشعب الذي صمد في وجه أعتى قوة عسكرية في المنطقة، وقهرها وأرغمها على التراجع في أكثر من محطة، قادر بهمة أبنائه وصلابه وعنفوان شبابه على أن يُفشل كلّ المؤامرات، وأن يُلحقها بغيرها من المشاريع والمخططات التي سقطت تحت أقدام هذا الشعب العظيم.
المصدر: الميادين