الرأسمالية تقوم “بشراء” حصة دول الجنوب من الهكتارات العالمية، في مقابل الفتات الذي تقدمه لهم على شكل مساعدات، بما فيها المساعدات البيئية التي تقدمها المنظمات غير الحكومية.
تعتبر قضايا البيئة مجالاً من المجالات التي تلقى اهتماماً منقطع النظير من المنظمات غير الحكومية، لأنها تساعدها على تحقيق أهدافها (وأهداف مموليها)، وتشير بعض المصطلحات، مثل الاحترار العالمي أو تراجع طبقة الأوزون أو تلوث الهواء، إلى مشكلات بيئية عابرة للحدود الوطنية.
لنأخذ مثلاً نهر النيجر الذي يمر من عدة دول أفريقية: غينيا، مالي، النيجر، بنين، نيجيريا. تعرضت دلتا هذا النهر للتلوث النفطي مرتين عامي 2008 و2009، وأصدرت محكمة هولندية حكماً لمصلحة 4 مزارعين رفعوا دعوى ضد عملاق النفط “شل” بعد تدخل إحدى المنظمات غير الحكومية، علماً أنَّ عدد المتضررين من التسرب النفطي كان 69 ألف مواطن نيجيري.
هذا النصر البيئي “الوهمي” لم يكن نصراً للمزارعين بقدر ما كان نصراً للشركة التي خرجت بخسائر لا تذكر مقارنة بالأرباح التي تحققها من دلتا النيجر.
في السياق نفسه، كشف تقرير لمنظمة الصحة العالمية أن 14 مدينة هندية تقع بين المدن العشرين الأكثر تلوثاً في العالم، وأن القاهرة تحتل المركز الثاني بين هذه المدن، وبيّن أن أكثر من 80% من سكان العالم يتنفسون هواء ملوثاً، وأن 90% من هؤلاء يقطنون في منطقة شرق المتوسط وجنوب شرق آسيا.
في كتاب صدر عام 1996 لفاكير ناجيل وريس بعنوان “وقع أقدامنا على البيئة”، حدد الباحثان وحدة قياس للأثر الإنساني في البيئة هي “الهكتار العالمي”. بحسب هذه الدراسة، فإن القدرة البيئية للكوكب هي 2.1 هكتار عالمي للفرد، لكن في أرض الواقع يبلغ الاستهلاك العالمي 2.7 هكتار عالمي للفرد، أي أن البشرية تستنزف الموارد الطبيعية غير القابلة للتعويض.
إذا علمنا أن الثالوث الرأسمالي (الولايات المتحدة، اليابان، أوروبا) يستهلك 4 أضعاف المتوسط العالمي، فإن من السهل التوصل إلى الاستنتاج بأنهم يقومون بتدمير الكوكب، أو بعبارة أدق يقومون “بإبادة جماعية لشعوب الجنوب بصفتهم سكاناً زائدين على الحاجة أو في أحسن الفروض يتركونهم في حالٍ من الفقر المتزايد”.
ومن السهل الاستنتاج أن الرأسمالية تقوم “بشراء” حصة دول الجنوب من الهكتارات العالمية، في مقابل الفتات الذي تقدمه لهم على شكل مساعدات، بما فيها المساعدات البيئية التي تقدمها المنظمات غير الحكومية.
لقد اعتبرت الكثير من المؤسسات أنَّ الاستثمار في مجال “الديمقراطية” في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يمكن أن يساعد في مجال حل المشاكل البيئية في المنطقة. الاستثمار في الديمقراطية يعني بالمفاهيم العلمانية استبدال الأنظمة القائمة بأخرى أكثر ديمقراطية واستعداداً للقبول بشروط المعاهدات الدولية لحماية البيئة.
إن أكثر دول العالم تسبباً بالتلوث البيئي (الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي) لا تقبل بشروط هذه المعاهدات الدولية، بل إنَّ إدارة ترامب انسحبت من بروتوكول “كيوتو” الذي يعد أهم بروتوكول في مجال حماية البيئة.
تفرض الرأسمالية الغربية على الدول الدائرة في فلكها القبول بشروط هذه المعاهدات، وتقليل حقن الكربون في أجوائها، وتجيير الفارق لمصلحة شركاتها، وذلك بطريقتين:
الطريقة الأولى هي تحويل الدول التي تقع في الفلك الرأسمالي إلى مصانع قذرة لإنتاج البضائع والصناعات التي تؤدي إلى حقن كميات عالية من ثاني أكسيد الكربون في الجو، مثل صناعة الإسمنت والمبيدات والأسمدة. تقدم كارثة مصنع “بوبال” في الهند عام 1984 خير دليل على هذا التوجه الرأسمالي، وهي المجزرة التي ذهب ضحيتها أكثر من 3500 مواطن هندي أو تحويل هذه الدول إلى مكبات نفايات نووية وإلكترونية.
الطريقة الثانية هي إيقاف عجلة الاقتصاد في الدول النامية التي ترفض الانضمام إلى النادي الرأسمالي، وهو ما حدث في “الربيع العربي”، إذ انخفضت نسبة النيتروجين الناجم عن الصناعة في أجواء مصر والعراق وسوريا بنسبة تتراوح ما بين 20– 50% ما بين عامي 2010-2015، ما يشير إلى توقف عجلة الإنتاج الصناعي بسبب الحرب.
لقد تشكلت البيئة عبر العصور من 4 عناصر: الهواء والماء والأرض والنار، لكنها لم تعد كذلك في الزمن الرأسمالي. لقد أُضيف عنصر خامس هو المال، بحسب جوزيف برودسكي، وهو عنصر يحتل موقعاً جوهرياً في عالم اليوم: “إلى جانب الهواء والأرض والماء والنار، فالمال هو القوة الطبيعية الخامسة التي يجب على الإنسان أخذها بعين الاعتبار في الكثير من الأحيان”.
في تنزانيا، أدى تأجير أراضٍ زراعية لشركة خاصة بشكل غير قانوني إلى تلويث مصادر مياه الشرب التي يستعملها 45 ألف مواطن. في ملاوي، جميع نقاط مياه الشرب التي أقيمت ما بين عامي 1988 – 2002 كانت في أحياء الأثرياء التي تتوفر فيها هذه الخدمة أصلاً، وذلك بسبب الفساد والمحسوبية. أما في كينيا، فيدفع الفقراء 10 أضعاف ما يدفعه الأغنياء للحصول على مياه الشرب. يخلص تقرير لمنظمة الشفافية الدولية إلى أن 30% مما يدفعه سكان العالم الثالث ثمناً للمياه يذهب إلى جيوب الفاسدين.
عام 2002، اعتمدت لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافيـة التابعة للأمم المتحدة تعليقها العام رقم 15 بشأن الحق في المياه، الذي تعرّفه بأنه حق كل فرد في “الحصول على كمية من الماء تكون كافية ومأمونة ومقبولة، ويمكن الحصول عليها ماديـاً وميسورة مالياً لاستخدامها في الأغراض الشخصية والمنزلية”.
لكنّ منظّمات تابعة للأمم المتحدة، مثل منظمة الأغذية والزراعة FAO، تشجع على خصخصة قطاع مياه الشرب والصرف الصحي، رغم تحذيرات منظمات حقوق الإنسان من أن ذلك يشكل خطراً داهماً على حق أساسي من حقوق الإنسان.
من الأخطار البيئية الحديثة والمرتبطة بالمال، تبرز عملية تعدين العملات الرقمية. تقوم هذه العملية على حل مجموعة من الخوارزميات والمعادلات الرياضية المعقدة بواسطة من يسمون “عمال المناجم”. تحفظ البيانات وعمليات التداول في سلاسل محاسبية تسمى كل منها “سلسلة الكتل”. تُجرى هذه العمليات من خلال عدد كبير من أجهزة الكمبيوتر ذات الكفاءة والفعالية العالية والمنتشرة حول العالم. تستغرق عملية تعدين بيتكوين واحد نحو 10 دقائق وتحتاج إلى استخدام كمية كبيرة من الطاقة الكهربائية.
يشير تقرير أعدته جامعة كامبريدج إلى أن تعدين البيتكوين يستهلك أكثر من 120 تيراواطاً في الساعة سنوياً، وهو ما يعادل الاستهلاك السنوي للكهرباء في دول مثل السويد وماليزيا والأرجنتين، وأنَّ إنتاج عملة البيتكوين يستهلك حالياً 0.6% من إنتاج الكهرباء العالمي، أي ما يكفي لتشغيل جميع غلايات الماء في بريطانيا لمدة 33 عاماً.
تبدو حرب البيئة وسط الأزمات التي تعيشها بلادنا حرباً مؤجلة، لكن الوقائع تشير إلى أنَّ هذه الحرب لا تقل ضراوة عن الحروب العسكرية، بل إنَّ آثارها يمكن أن تمتد لأجيال. هذه الحرب لا يعلنها العدو، بل تتسلل عبر الحدود ومع المياه وفي الهواء، وتتطلب وعياً وصموداً لا يقل عن المطلوب في المعارك العسكرية.
المصدر: الميادين