العين برس / مقالات
إبراهيم محمد الهمداني
حفلت كتب التاريخ على مدار العصور، بتوثيق وقائع الحروب وأحداث المعارك، واستراتيجيات الصراعات العسكرية والسياسية، التي دارت رحاها بين القوى المتصارعة، في مختلف الأزمنة والأمكنة، ومادام المنتصر هو من يكتب، فهو بلا شك سيسعى إلى تجميل إجرامه وتوحشه بمساحيق فعل الضرورة، وبراعة وذكاء التخطيط، ومبررات الحرب خدعة، وتصوير انتصاره على خصومه، بأنه تأييد إلهي ونصر سماوي، صادر عن إرادة الله المدبر لكل أمر، وبذلك يتم تمرير توحش وبربرية وإجرام المنتصر بحق المغلوب، تحت غطاء الإرادة الإلهية، ولا راد لمشيئة الله وقدره، ولو لم يشأ الله ذلك لما حدث أصلا، وبهذا التبرير الساذج والطرح المتهالك، لا يتوقف الأمر عند إقناع المغلوب بتقبل ما حصل بحقه، بوصفه قدراً محتوماً، لا يجوز رفضه أو استنكاره، وإنما تتم في المقابل – أيضاً – تبرأة ساحة المجرم/ المنتصر، من كل جرائمه، كونه مجرد أداة لتنفيذ المشيئة الإلهية، بلا حول منه ولا قوة، في تغيير القدر المحتوم، الأمر الذي أعطى أولئك الطغاة المنتصرون، مساحة تسلطية أكبر زمانياً ومكانياً، ورغم إجماع الأمة على طغيانهم وفجورهم وفسقهم، فقد أوجبت طاعتهم وحسابهم على الله.
تكررت نماذج الإجرام والظلم والطغيان، والمجازر وحروب الإبادة عبر التاريخ، إلَّا أن أيَّاً منها، لم يبلغ – حسب اعتقادي – درجة ظلم وطغيان وفجور تحالف العدوان الإجرامي على الشعب اليمني، الذي تعرض على مدى ثمان سنوات، لأبشع حرب إبادة جماعية، وأقذر تحالف عالمي همجي متوحش، وأحقر مؤامرة اغتيال بتواطئ أممي، غاية في الانحطاط والابتذال، في أخزى عملية انسلاخ وتنصل عن القيم والمبادئ الإنسانية، وتنكر علني فاضح لكل ما زعمت حمايته ورعايته من حقوق الإنسان، والحفاظ على الأمن والسلم العالمي، والعمل على تكريس العدالة والمساواة والحرية والسيادة والاستقلال، والتعايش السلمي بين جميع شعوب العالم.
ثمان سنوات من عمر قوى تحالف العدوان بما حملته من مشاريع الموت والتدمير الممنهج، والحرب الخشنة والناعمة والبيولوجية، والموت بالجملة في مجازر إبادة جماعية، والموت البطيئ بالتقسيط غير المريح، بالحصار الوحشي المطبق براً وبحراً وجواً، والإجهاز على شعب بأكمله، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، على وقع سيمفونية الأطماع الاستعمارية، ويتجرع مرارة التواطؤ الأممي، على وقع أنغام معزوفة المصالح الإمبريالية المشتركة.
ثمان سنوات من الإجرام العالمي، قابلتها ثمانية أعوام من الصمود اليماني والمواجهة، واستراتيجيات الرد والردع، وصولاً إلى امتلاك زمام المبادرة، وفرض قواعد اشتباك جديدة، في سياق حق الدفاع عن النفس، أوصلت قوى تحالف العدوان إلى مرحلة العجز التام، رغم ترسانتها العسكرية المرعبة، وخزينتها المالية الضخمة، واستراتيجياتها العدوانية الواسعة، وتحالفاتها المسنودة بالمواقف السياسية والدبلوماسية، التي تؤيدها وتدعمها بشكل مطلق؛ غير أن سقوط العملاء والأدوات، قد جر خلفه سقوط أركان الطغيان وقادة الاستبداد والإجرام، الذين حاولوا إدارة العدوان على اليمن، من خلف ستار، العملاء، وتحت قناع الأدوات المحلية والإقليمية، أطول وقت ممكن.
مع بداية العام الثامن، تغير ميزان القوى، وتغيرت معادلة الصراع، لصالح الجيش اليمني، الذي استطاع بفضل حكمة قيادته الثورية ومثابرة قيادته السياسية، فرض معادلة السيادة على الأرض اليمنية، وحماية الثروات النفطية من عمليات النهب والسرقة المنظمة، التي تقوم بها قوى تحالف العدوان، بدعم وحماية القوى الإمبريالية، ذات الطابع التسلطي والعقلية اللصوصية المحضة، ومن خلال عمليتي ميناء الضبة وميناء قنا النفطيين، قام الجيش اليمن بدوره في حماية ثروات الشعب، من النهب والعبث والفساد، وقطع أيدي وأطماع القوى الاستعمارية، التي جن جنونها، وسارعت إلى إدانة واستنكار ذلك الفعل، واصفة فرض سيادة الجيش اليمني، على ثرواته ومنع نهبها وسرقتها، بأنه عمل إرهابي يهدد أمن الملاحة العالمية، غير عابئة بتساقط أقنعتها الحضارية المزعومة، وظهور حقيقتها اللصوصية الإجرامية، ودورها الاستعماري التسلطي، الذي كانت عليه بالأمس، خاصة وقد تزامن فرض السيادة اليمنية على الثروات الوطنية، مع أزمة الطاقة العالمية، وتطورات الحرب الروسية الأوكرانية، وتداعيات ذلك على الاقتصاد العالمي، ومعادلات الصراع العالمي، والتحالفات السياسية الجديدة، التي بدأت تتشكل، مؤذنة بسقوط وانهيار وتفكك القوى الكبرى واتحاداتها وتحالفاتها، التي بلغت مرحلة الشيخوخة، كالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها.
بعد وصول قوى تحالف العدوان إلى مرحلة العجز، مقابل تنامي استراتيجيات الجيش اليمني في الرد والردع، سارعت الأمم المتحدة لإنقاذ نصفها الإجرامي الآخر، والتوسط بفرض هدنة إنسانية في اليمن، تكون مقدمة لحل شامل، لكنها كانت هدنة صفرية، لأنها بلغت نهاية عمرها، ولم تحرك ساكناً أو تحرز تقدماً، وكان الاقتراح الأممي مجدداً بتمديدها ثلاثة أشهر أخرى، ولكنها مضت كسابقتها، وقبل انتهائها بأيام، أقبل المبعوث الأممي، بمقترح جديد لتمديد الهدنة ستة أشهر، لكن حكومة صنعاء رفضت ذلك، لأن الهدنة منذ البداية، كانت مشروطة – من قِبَل حكومة صنعاء – بصرف المرتبات، وفتح ميناء الحديدة ومطار صنعاء، وإيقاف العدوان ورفع الحصار، لكي تدخل الهدنة حيز التفعيل الحقيقي، والخطوات الجادة نحو حل شامل، لكن الأمم المتحدة – كعادتها – لم تفِ بما التزمت به ووافقت عليه مسبقا، وظلت تراوح بين المماطلة والتسويف، إلى أن انتهت مدة الهدنة الأولى، فسارعت بإرسال مبعوثها إلى اليمن، للبحث عن تمديد ثانٍ للهدنة، مطلقا الوعود والتأكيدات بتحقيق مطالب الشعب اليمني كاملة، دون انتقاص أو تجزئة، على طريق الحل الشامل، وإنهاء العدوان والحصار وآثارهما نهائيا، ولكن تلك الوعود السرابية، كانت خدعة استعمارية لكسب مزيد من الوقت، وإبقاء الشعب اليمني في المنطقة الرمادية، بين اللاسلم واللاحرب، ليفقد ما تبقى من عزمه وحماسة، ويموت ببطء في ظل استمرار الحصار الخانق، واستمرار كل مظاهر الحرب والتحشيد، والخروفات المتواصلة من الطرف الآخر.
قبل انتهاء مدة الهدنة الثانية بأيام، أقبل المبعوث الأممي إلى اليمن، حاملا أحلام جديدة، وأوهام أممية في هيئة وعود كاذبة أخرى، في سبيل الحصول على هدنة ثالثة، أو تمديد ثالث للهدنة، لكن القيادتين الثورية والسياسية، رفضتا تلك المهزلة الأممية الاستعمارية، التي تسعى إلى قتل الشعب اليمني بأكمله، من خلال اللعب على عامل الوقت، والإيهام بهدنة صفرية معطلة سلفا، وقد رجع المندوب الأممي خائباً، ليقول في إحاطته في مجلس الأمن، إن مطالب حكومة صنعاء – تسليم مرتبات جميع موظفي الدولة، من إيرادات النفط والغاز، وفتح الميناء والمطار، وإيقاف العدوان وإنهاء الحصار – مطالب تعجيزية ومستحيلة، لتتوالى بعده بيانات البيت الأبيض، والاتحاد الأوروبي، وغيرها من الكيانات في ذات الفلك الإمبريالي، المنددة بمطالب الشعب اليمني المحقة، في تماهٍ مخزٍ مع النوايا والأطماع الاستعمارية.
وفي ظل عدم تجديد الهدنة، والدخول في الحالة الصفرية، من اللاسلم واللاحرب، بما تنطوي عليه من خطورة هائلة، تحركت في الجانب الآخر الوساطات العمانية وغيرها، ما أدى إلى تجميد الوضع في تلك المنطقة الرمادية، في ظل حراك دبلوماسي واسع، وتحذيرات من قادة الجيش اليمني، لدول العدوان، بأن الوضع لن يستمر كما هو، وأن اللعب على عامل الوقت، من أجل إخماد روح المواجهة والتضحية، وإشعال الغضب الشعبي وتفجير الوضع داخلياً، لن ينجح هذه المرة، لأن الجيش اليمني في كامل الجهوزية وأتم الاستعداد، ولم يعد الشعب اليمني ذلك المغفل، الذي تنطلي عليه خدع أبواق العدوان وعملائه، الساعية إلى تأجيج غضب الشارع، تحت مسميات زائفة وقضايا تافهة، وقد بات الغضب الشعبي بأكمله متجهاً نحو قوى تحالف العدوان وعملائه ومرتزقته.
إن استمرار الحصار في حالتي الهدنة واللاهدنة، في ظل المطالبة الأممية بتمديد تلك الهدنة الهشة، هو دليل كاف على النوايا المبيتة، الرافضة لأي حلول سلمية، من قبل قوى العدوان، التي تسعى إلى استثمار الوقت في إعادة ترتيب أوراقها وخططها الإجرامية، وتوسيع قاعدة تحالفاتها التآمرية، وعلاوة على تعنتها ورفضها حقوق الشعب اليمني المشروعة، ووصفها بالتعجيزية والمستحيلة، فإن الحصار لا يعدو كونه الوجه الآخر للعدوان، ولا معنى للهدنة المصحوبة بالحصار، ومادام الأمر كذلك، فإن الواجب الديني والوطني، يفرض على الجيش اليمني، المضي في تنفيذ المزيد من عمليات الردع، والحسم الميداني وتحرير كل التراب اليمني، وتوجيه أقسى الضربات الموجعة والمؤلمة لعمق دول تحالف العدوان، وشل قدراتها العسكرية والاقتصادية، وإفشال المخطط الإسرائيلي الأمريكي، الذي يهدف إلى الزج بالجيش المصري وحلفائه في مواجهة مفتوحة مع الجيش اليمني،
لأن نتائج تلك المواجهة ستكون كارثية على الطرف الآخر، وسيتجنى الجيش المصري على شعبه كثيرا، ويتوجب عليه أن يكون أكثر وعيا، بحقيقة ما يحاك ضده، وأن يقف – كعادته – موقفا مشرفا، ويربأ بنفسه أن يكون حطبا في مواقد التدفئة الإمبريالية، ويرفض دور الضحية المجانية، الذي فرضته الإدارة الأمريكية عليه، وليس له في ذلك لا ناقة ولا جمل.
إن الخروج الشعبي المليوني، الذي غصت به ساحات المحافظات الحرة، ليس إلا تفويضا مطلقا، للقيادة الثورية والجيش اليمني، باتخاذ كل الخيارات الممكنة، اللازمة للخروج من الحالة الصفرية المفرغة، التي تريد قوى تحالف العدوان والأمم المتحدة، فرضها على الشعب اليمني بالتوازي مع استمرار استراتيجية الحصار القاتل، والكرة الآن في ملعب قوى تحالف العدوان، وفي حال استمرت في طغيانها وإجرامها، بحق الشعب اليمني، فإن الأيام القادمة كفيلة برواية رد القيادة الثورية، المفوضة مطلقا من الشعب، وللجيش اليمني بصواريخه ومسيراته كلمته الفاصلة، فهل تجازف الأمم المتحدة وأمريكا، بالاستمرار في المراوغة والتحايل، أم أننا سنشهد انفراجا جزئيا، لتفادي حصول الأسوأ، وما لا تُحمد عقباه إقليميا وعالميا، وتأجيل المعركة البحرية العالمية الحاسمة، إلى أجل مسمى، كونها حدثا مفصليا ومحتوما، لا مناص عنه ولا مفر منه.