لا يمكن إغفال الدوافع الإسرائيلية السياسية الداخلية من وراء الحرب على حركة الجهاد الإسلامي، وتأثيرات ذلك على المشهد السياسي والحزبي في “إسرائيل”.
أعلنت “إسرائيل” الحرب على حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، في واقعة غير مسبوقة في حروب “إسرائيل” ضد غزة، حيث وضعت “إسرائيل” وجيشها حركة الجهاد الإسلامي هدفاً وحيداً في تلك الحرب التي استمرت 56 ساعة من القتال الشرس، خارجة عن استراتيجيتها المألوفة، التي تحمّل حركة حماس المسؤولية عن كل ما يحدث في غزة، بل كرّر المسؤولون الإسرائيليون طوال فترة الحرب أن هدف الحرب الوحيد تدمير قوة حركة الجهاد الإسلامي بالكامل، الأمر الذي يطرح تساؤلاً وهو: لماذا شنّت “إسرائيل” الحرب على حركة الجهاد الإسلامي؟ وفي هذا التوقيت بالذات؟ وما هي الدوافع الخفيّة إسرائيلياً من وراء ذلك؟
أولاً، يعتبر تكريس وحدة الساحات الفلسطينية أهم منجز لمعركة “سيف القدس”، وخاصة بعد أن استطاعت حركة الجهاد تغيير معادلات المواجهة في الضفة الغربية، من خلال تأسيس كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس الذراع العسكرية للجهاد، وسرعان ما اتسعت رقعة الكتائب العسكرية على طول محافظات شمال الضفة الغربية بكاملها، ما وضع “إسرائيل” أمام معضلة استراتيجية من العيار الثقيل متمثّلة في:
– استراتيجية الجهاد الإسلامي على المدى البعيد تهدم نواة المشروع الصهيوني السياسي المطروح دولياً وإقليمياً، وخاصة بعد “اتفاقات أبراهام”، المبني على تمزيق الساحات الفلسطينية، من خلال تحويل الضفة الغربية إلى يهودا والسامرة، وتحويل الوجود الفلسطيني فيها إلى كانتونات سكانية تحت سيادة الاستيطان والتهويد الإسرائيليّين. أما على صعيد قطاع غزة، فالاستراتيجية الإسرائيلية مبنيّة على استراتيجية “الاقتصاد مقابل الأمن”، ومحاولة إبعاد غزة عن مواجهة المخطط الإسرائيلي القائم في الضفة الغربية وتهويد القدس والمسجد الأقصى، وبالتالي إنهاء المشروع الوطني الفلسطيني، لكون المخطط الإسرائيلي في حال نجاحه، يحوّل الشعب الفلسطيني إلى مجرد أشخاص باحثين عن مصالحهم الجهوية والفئوية بحسب الظرفين المكاني والسياسي اللذَين هم موجدون فيهما، بعيداً عن وحدة الحال الجامعة كشعب فلسطيني واحد تحت الاحتلال الإسرائيلي يسعى إلى تحرير وطنه فلسطين.
– عودة الضفة الغربية إلى خط المواجهة العسكرية ضد الاحتلال، وفرض معادلات جديدة، من قبل كتائب سرايا القدس وشهداء الأقصى، وخاصة في جنين ونابلس، الأمر الذي بات يهدّد حرية عمل الجيش الإسرائيلي في مدن الضفة وقراها ومخيماتها، والأهم إشعال الصراع الفلسطيني ضد الاحتلال في الساحة الأساسية للمشروع الصهيوني، الأمر الذي يتطلب من الجيش الإسرائيلي محاولة كسر شوكة الجهاد الإسلامي، الراعية الأساسية للمقاومة العسكرية في الضفة الغربية. لذلك كانت تصريحات رئيس الأركان الإسرائيلي أفيف كوخافي تصبّ في اتجاه ملاحقة الجهاد الإسلامي في كل الجبهات، ومحاولة القضاء عليها كلياً.
ثانياً، لا يمكن إغفال الدوافع الإسرائيلية السياسية الداخلية من وراء الحرب على حركة الجهاد الإسلامي، وتأثيرات ذلك على المشهد السياسي والحزبي في “إسرائيل”. وفي هذا السياق، من الجدير بالذكر توضيح المصالح لثلاثيّ صنع القرار الحالي في “إسرائيل”:
أولاً، يائير لابيد، رئيس الوزراء في الحكومة الانتقالية، ذلك الشخص الفاقد لأي سيرة ذاتية عسكرية أو أمنية، الأمر الذي يضعف من حظوظه في الانتخابات الإسرائيلية في مطلع شهر تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، وبالتالي اعتقد لابيد أن حرباً مقتصرة على تنظيم يعتبر الثاني في القوة العسكرية في الساحة الفلسطينية، يمكن أن تحقق الانتصار المفقود للجيش الإسرائيلي، الأمر الذي سيتحول إلى نقاط قوة له في صراعه مع كل من وزير حربه بني غانتس، وبنيامين نتنياهو، على كرسيّ رئاسة الحكومة في الانتخابات المقبلة.
ثانياً، بني غانتس وزير الحرب الإسرائيلي، الذي فشل في إدارة حرب 2014 على غزة كرئيس أركان، وذاق مرارة الهزيمة كوزير للحرب في معركة سيف القدس، والمنافس الشرس على منصب رئيس الوزراء في الانتخابات المقبلة، لذلك شاهدنا صراعاً خفياً بينه وبين يائير لابيد على الظهور بصورة القائد العسكري الذي يدير المعركة من داخل غرفة العمليات العسكرية.
ثالثاً، أفيف كوخافي رئيس الأركان الحالي، وفي اعتقادنا أنه كان العنصر الأكثر دفعاً باتجاه الحرب، والعقل المدبّر لها، لكون كوخافي لا يريد أن ينهي مسيرته العسكرية في نهاية هذا العام من دون أن يطبّق خطته المتعددة السنوات (تنوفا)، التي كلفت موازنة الجيش مليارات الدولارات، حتى ولو على نطاق ضيّق، بحجم استهداف حركة الجهاد الإسلامي.
وهنا يبرز بعض الملاحظات حول قدرة الجيش الإسرائيلي على تنفيذ خطة (تنوفا) ضدّ الجهاد الإسلامي:
1- رغم نجاح الجيش الإسرائيلي في استخدام عنصر المباغتة، وأخذ زمام المبادرة في عملية الاغتيال لقائد المنطقة الشمالية لسرايا القدس تيسير الجعبري، وقصف مراصد الجهاد الإسلامي ومواقعها، فيما سُمّي إسرائيلياً ضربة 170 ثانية، لم تحقق هذه الضربة المراد منها، حيث مع أول رشقة صاروخية لسرايا القدس على منطقة “غوش دان” أثبتت سرايا القدس قدرتها على احتواء الضربة الأولى الإسرائيلية، التي كانت تهدف إلى تدمير منظومة القيادة والسيطرة لسرايا القدس، وإنهاء قدرتها على إدارة المعركة، بل سجّلت سرايا القدس إطلاق 1170 صاروخاً على “إسرائيل” خلال 56 ساعة فقط من القتال.
2- انتهاج سرايا القدس استراتيجية الضغط على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، من خلال إدخال أكبر عدد ممكن من الإسرائيليين إلى الملاجئ على طول شعاع 100 كلم وصولاً إلى مدينتَي نتانيا والقدس، مروراً بمطار بن غوريون وقلب تل أبيب ومدينة بئر السبع، مع التركيز على سياسة تحويل مستوطنات غلاف غزة إلى منطقة محروقة بفعل كثافة صواريخ سرايا القدس وقذائفها على طول شعاع يصل إلى 20 كلم، أفشلا أهم مرتكز في خطة (تنوفا)، وهي الحرب الخاطفة السريعة والقصيرة.
3- رغم نجاح “إسرائيل” في اغتيال قائد المنطقة الجنوبية في سرايا القدس خالد منصور، لم يتحقق الهدف من الاغتيال، وتحوّل الحزن والغضب إزاء اغتيال قائد بحجم خالد منصور إلى زيادة غير مسبوقة في كثافة النيران في المعركة من قبل سرايا القدس، ولمديات أوسع.
وكما كتب المحلل العسكري لصحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، عاموس هرئييل: “صحيح أن إسرائيل فاجأت الجهاد الإسلامي بضربة استباقية فقصفت مقارّها واغتالت عدداً من قياداتها… لكنها لم تنجح في تعطيلها تماماً. وبناءً على ذلك، فإن نتائج المعركة التي قاتل فيها جيش مجهّز بأفضل السلاح الجوي والبحري والبري والإلكتروني والبشري ضد تنظيم (زائل)، كما وصفته المؤسسة العسكرية، هي نتائج مخيّبة للأمل”.
في المحصّلة، نعتقد أن الثلاثي لابيد وغانتس وكوخافي، مع أول عملية فدائية تخرج من الضفة الغربية أو القدس أو مناطق الـ48، سيدركون مدى فشل رهاناتهم السياسية الداخلية على تحويل حربهم على الجهاد الإسلامي إلى أوراق انتخابية في بازار الانتخابات الإسرائيلية، فهذه الحرب لم تنتج وضعاً جديداً غير الذي كان قبل اندلاعها، فهي لم تُحرز تغييرات عميقة في الواقع أو الوعي لدى حركة الجهاد الإسلامي، والدليل الأهم على ذلك شروط اتفاق وقف إطلاق النار التي وضعت كلاً من قضية الأسير المُضرب عن الطعام خليل عواودة والأسير الشيخ بسام السعدي القائد الوطني الكبير، كرمزَين لتكريس مبدأ وحدة الساحات بين الضفة الغربية وغزة، العنوان الذي أطلقته حركة الجهاد على اسم المعركة منذ لحظة اندلاعها، بمعنى تحقيق الجهاد الاسلامي لهدفها السياسي الاستراتيجي، وفشل “إسرائيل” في حربها على الجهاد الإسلامي.
المصدر: الميادين