البعد السياسي الرسالي في شخصية الإمام الخميني (قده)
العين برس / مقالات
حسن محمد صعب
تميّزت شخصية الإمام روح الله الموسوي الخميني (قده)، قائد الثورة الإسلامية في إيران، من ضمن ما تميّزت به من أبعاد، ببعدها السياسي الرسالي، والذي يشمل جانبين رئيسين: إبراز العمق السياسي للإسلام المحمدي الأصيل، وتجسيد الإمام، بشخصيته وبحركته الخارجية، لهذا العمق الرسالي للإسلام.
أوّلاً: إبراز العمق السياسي للإسلام المحمدي الأصيل
ظلّ الإسلام، كنظام سياسي وإداري على وجه الخصوص، بغضّ النظر عن طبيعة هذا الحكم الإسلامي وسياساته وتقلّباته، مُبعداً عن إطار الحكم والسلطة، منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية في العام 1922، مقابل سيطرة الدول الغربية “العلمانية”، والصاعدة بقوّة آنذاك، سواء في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، أم في الدول التي كان الغربيون المستعمرون يحتلّونها ويهيمنون عليها.
ومنذ ذلك الحين، تعرّض الإسلام لأقسى حملات التشويه والتشنيع بهدف ترسيخ مسألة إبعاده نهائياً عن الحكم والسلطة في العالم العربي والإسلامي، على قاعدة فصل الدين عن السياسة (المبتدعة)، وأنّ ما لقيصر لقيصر وما لله لله! وقد استغلّ المستعمرون التجارب الفاشلة التي شهدها العالم الإسلامي في مراحل تاريخية عديدة، وقد بدأت حملات الغرب التشويهية ضدّ الإسلام تلقى صداها، وخاصة لدى العديد من شعوب المنطقة، حيث سادت مقولة فصل الدين عن السياسة كمنهج بديل للتحرّر والتطوّر، ووفق النموذج الغربي تحديدًا.
لكن الثورة الإسلامية في إيران، والتي بزغ فجرها في شباط / فبراير من العام 1979، قدّمت أنموذجاً مختلفاً تماماً، والذي استند إلى الإسلام المحمدي الأصيل، وفق المفهوم الذي أطلقه قادة الثورة، وبما يناقِض كلا الطرحين الغربي العلماني والعثماني الإسلامي، في أبعاد مختلفة، جوهرها أن الدين والسياسة لهما معنى واحد، وهو رفع العوائق كافة أمام كدح الإنسان نحو خالقه، ضمن مسارات ماديّة وروحيّة محدّدة، سامية وهادفة.
في السياق، يرى الإمام روح الله الموسوي الخميني (قده) أن السياسة ليست رؤية أو فكرة مستقلة عن عالم المعنى، وعمّا قرّره القرآن الكريم لتأسيس حكومة العدل في الأرض، وإنما هي ذات معنى إصلاحي في إطار الرؤية الدينية الشاملة للإصلاح في الأرض. وقد قيل في تعريف السياسة إنها تعني القيام على الشيء بما يُصلحه، أو القيام بالأمر بما يُصلحه؛ والمعنى هنا هو أمر الناس في ما يعود إلى شؤونهم الدنيوية والأخروية(1).
فالقيام بالأمر بما يُصلح الحال والمآل، قيام مؤدّاه أن يتحوّل الإنسان من كونه سائساً لنفسه التي هي أقرب الأشياء إليه – بما هي نفس قاعدة للإصلاح – ليكون سائساً عاماً في مجتمع الدولة، بحيث يتجاوز الإنسان البعد الماديّ للسياسة إلى سائر الأبعاد الأخرى في حياته؛ وهذا ما يجعل السياسة فعلاً إصلاحياً. وهنا يكمن جوهر السياسة في فهم وفكر الإمام الراحل، الذي يرى السياسة على أنها فعل إصلاح وليست مجرّد فن لحكم الدولة والمجتمع، كما هو شأن السياسة في المجتمعات الغربية. فلم يقتصر الإمام في تعريفه للسياسة على معناها المجرّد في دائرة التنظيم والتدبير، بل تجاوز ذلك إلى اعتبارها فعلاً إصلاحياً أوّل من قام به الأنبياء والأولياء انطلاقاً من رؤية الدين لحقيقة الإنسان ودوره ووظيفته في الحياة، باعتباره كائناً سياسياً تشكّل وعيه في ضوء فعل النبوّة ومنهجها في التغيير الشامل(2).
كذلك، كان الإمام ينظر إلى الحكومة والدولة من عين الوعي الإسلامي القائم على تشكيل الرسول صلّى الله عليه وآله لأوّل دولة في الإسلام، ومن ثمّ تلازم السلطتين التشريعية والتنفيذية، ودور الفقيه العادل الجامع للشرائط بعد غياب الإمام..
يقول الإمام (قده) في كتابه “الحكومة الإسلامية” في هذا الصدد: “كانوا يُشِيْعون أنّ الإسلام ليس دينًا جامعًا، فهو ليس دين حياة، وليس فيه أنظمة وقوانين للمجتمع، ولم يأت بنظام وقوانين للحكم.. ومن الواضح أنّ هذه الدعايات جزءٌ من مخطّط المستعمرين لإبعاد المسلمين عن السياسة وأساس الحكومة”(3).
وبالرغم من تصريح الإمام في بعض أحاديثه بأنّ الحكومة لم تكن الهدف الأساسي من بعثة الأنبياء، وأنّهم إنّما بُعثوا لتزكية أخلاق الناس وتربية أرواحهم، إلاّ أنّه كان يرى مقولة الإدارة الاجتماعية والنظْم السياسي للمجتمعات البشرية مقولة جدّية وضرورية، لدرجة اعتبر معها القرآن الكريم ــ الذي هو بدوره مجموعة معارف وبرامج معنوية وتربوية للإنسان ــ كتاب حكومة. ويعتقد أن حجم المعارف الاجتماعية في القرآن الكريم، مقارنةً بآياته التي تدعو إلى الجوانب العبادية، كنسبة المائة إلى واحد، بل أكثر.
ويعدّ الإمام الخميني القرآن الكريم كتاب قانون، يحمل بين دفّتيه أصول الحكم وقواعده، ويستبطن مكوّنات دولة في طبيعة تعاليمه؛ ويقول: إنَّ ماهيّة وكيفيّة القوانين الإسلامية وأحكام الشرع تدلّ على أنّها قد شُرِّعت لإنشاء حكومة ولإدارة سياسية واقتصادية وثقافية للمجتمع(4).
ويتابع: هل يمكن العمل بهذه الآيات القرآنية التي تدعو لقتال الكفّار، والمحاربة لأجل استقلال البلاد الإسلامية، وفتح البلاد من دون حكومة وأجهزة دولة؟! إنّ أساس الحكومة الإسلامية مُبتنى على السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية وثروة بيت المال. وقيام الدولة مُبتنى على الجهاد لأجل بسط السلطة والتوسّع، وهو مُبتنى على الدفاع لحفظ استقلال البلاد والدفاع لصدّ هجوم الأجانب؛ هذا كلّه موجود في القرآن والسنّة(5).
ويكفينا الرجوع إلى النصوص الإسلامية الأصيلة حتى نجد نظاماً عظيماً في الحكم والسياسة وبناء الدولة وإقامة العلاقات ودعوة الشعوب إلى السلام وإحياء القابليات العظيمة. وبالرجوع أيضاً إلى تجربة الإسلام الأولى، نشاهد أروع صورة للتسامح الديني والتعامل مع الطوائف الدينية الأخرى على أساس الإنسانية، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: “إمَّا أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”.
وعندما تطرح الأنظمة الفكرية الإلحادية والعلمانية فكرة الفصل، فذلك يعود بالدرجة الأولى إلى فهمها لطبيعة دور النظام السياسي الحاكم الذي يقوم ـ حسب اعتقادها ـ على أساس تنظيم المجتمع وتسييره من الناحية الإدارية لتأمين الرفاه لكلّ أفراده؛ وبمعزل عن المناقشة في نجاح الأنظمة العلمانية في تأمين سعادة الإنسان المادية، فإن هذا يُعدّ إهمالاً لأولويات الإنسانية وأهدافها العميقة. فالنظام الحاكم الذي لا يلحظ الجوانب المعنوية في وجود الإنسان يكون عاملاً في المسار المعاكس لسعادته(6).
ثانياً: تجسيد الإمام للعمق السياسي الرسالي للإسلام
فيما يخص دور علماء الدين تحديدًا، يقول الإمام الراحل إنه عندما رُفِع شعار فصل الدِّين عن السياسة، وأصبح الفقه في منطق الجَهَلة هو الاستغراق في الأحكام الفرديّة والعباديّة، ولم يعد يُسمح للفقيه أن يخرج عن هذا الإطار ويتدخّل في السياسة وشؤون الحكم؛ عند ذاك أصبحت حماقة العالِم في معاشرة الناس فضيلة. وعلى حدّ زعم البعض، يُصبح العلماء موضع احترام وتكريم الناس حتّى تستولي الحماقة على كلّ كيانهم، بينما كان العالِم السياسيّ والعالِم العامل النشيط يُعتبر إنساناً مدسوساً(7).
بالمقابل، ارتبط العمل السياسي للقادة والزعماء والأحزاب السياسية، وحتى لرجال الدين الذين يمارسون السياسة أو يتدخلون في سياسات دولهم والدول الأخرى، بوصمات فساد أو طغيان أو تجاوز للقِيم والشرائع الأرضية أو السماوية. لكن قيادة الإمام الخميني الراحل تفرّدت جداً عمّن سبقها في هذا المضمار؛ بل هي ابتعدت مسافة أشواط عن القيادات السياسية، التاريخية أو التقليدية، على حدٍ سواء.
كانت أفكار وأعمال الكثير من القادة في العالم، وخاصة القادة الكاريزميين، محصورة ضمن زوايا ضّيقة، من قبيل العِرق والحزب والجماعة والطبقة والإيديولوجيا. وعادةً ما كانوا يُعنَون ويهتمّون بشكلٍ من الأشكال بمنافع أخرى؛ فالتاريخ لم ينسَ بعد كيف أن هتلر وموسيليني كانا يعتبران نفسيهما العِرق الأفضل والحزب الواحد في العالم، وكيف أنهما ساقا العالم إلى بحرٍ من الدماء لتحقيق مطامعهما القومية والعِرقية من خلال إيديولوجية الامبريالية والعِرقية.
وبشهادة التاريخ، كان الإمام الخميني قائداً مصلحاً متميزاً عن بقيّة القادة في العالم، وخاصة القادة الكاريزميين، وأن أفكاره وأعماله كانت ذات طابع عالمي، لا تنحصر ضمن زوايا العرق والإيديولوجيا والحزب والطبقة والمنطقة الضيّقة. والجدير ذكره أن وصّيته السياسية لا تختص بالشعب الإيراني العظيم فحسب، بل هي لجميع الشعوب الإسلامية ومظلومي العالم من كافة المذاهب والملل.
ومن خصائص وخصال شخصية الإمام الخميني السياسية، عدم ارتكازه واتّباعه لحزب سياسي معيّن؛ فلم يكن سماحته تابعاً لأي حزب أو مجموعة تقيّده ضمن منافعها أثناء كفاحه في سبيل انتصار الثورة الإسلامية. فقبيل انتصار الثورة الإسلامية بعدة أشهر، قال سماحته: أذكر أنّني لا أرتبط بأية جبهة أو مجموعة معيّنة؛ وأي شخصٍ أو مجموعةٍ لا تقبل بقضايانا فلن نقبلها(9).
لقد تجلّت قناعات وأفكار الإمام الراحل بعد انتصار الثورة في ممارسته المسؤولة والرشيدة للسلطة، بكلّ تعقيداتها ومثالبها، كما في إبعاد عائلته والمقرّبين منه عن أي منصب سياسي أو رسمي في الدولة الإسلامية الناشئة، مع تجاوزه لمسألة الكفاءة والجدارة لدى بعضهم، حتى يقدّم للشعب وللمسؤولين أنموذجاً حياً في العمل السياسي “النقيّ” من أجل الاقتداء به من قِبل الجميع.
وتكفي مراجعة عامة لمواقف وسياسات الإمام طيلة وجوده على رأس القيادة في إيران، وكيفية مواجهته لأقسى التحديات الداخلية والخارجية، والتي هدّد بعضها بقاء الدولة الإسلامية أو حرْف مسارها الإلهي في عدة محطات تاريخية ومفصلية؛ لكن وعي الإمام الراحل وبصيرته وحكمته وشجاعته وثباته أسقط كل تلك التهديدات وحوّلها إلى فرصٍ واعدة، دفعت بإيران قُدُماً على طريق تحدّي كل محاولات التآمر الداخلي والإقليمي والدولي، وخوض تجربة الدفاع المقدّس والتحرير (من الاحتلال العراقي الصدّامي) والبناء (إقامة الحكومة الإسلامية العادلة)، بموازاة التأسيس المثابر والمنهجي لمواجهة المستكبرين والمستعمرين، من خلال دعم الشعوب المستضعفة والقوى التحرّرية، على مستوى المنطقة والعالم.
وختاماً، فإنّ تجربة الإمام الخميني قدّس سرّه الشريف، وتحديداً في بعدها السياسي الربّاني أو الرسالي، وفي شقّيه العام والخاص معاً، باتت تُعدّ من أرقى التجارب التاريخية التي لم تأخذ حقّها حتى اليوم ، لجهة استيعاب كافة مضامينها ومقاصدها، وأسرار ثباتها ونجاحها واستحواذها على تقدير أو اقتداء شرائح وقطاعات واسعة من الشعوب والنخب المتنوعة المشارب في العالم.
وعليه، ليس من المبالغة في شيء القول إن شخصية الإمام الخميني، الربّانية والسياسية في آنٍ معاً، هي شخصية تاريخية وفريدة واستثنائية؛ وقد لا يماثلها في عصرنا الراهن سوى شخصية السيد القائد علي الخامنئي، والذي وصفه الإمام الراحل ذات مرّة بقوله: أنت ساعد الجمهورية الإسلامية المتين وشمسها المنيرة”.
ملحق
مقتطفات ذات صلة من الوصيّة الإلهية-السياسية للإمام الخميني (قده)، التي نشِرت بعد وفاته في الثالث من حزيران سنة 1989، والتي كتب معظمها في الخامس عشر من شهر شباط من سنة 1983 وأتمّها فيما بعد:
-الإسلام والحكومة الإسلامية ظاهرة إلهية، يؤمّن العمل بها سعادة أبنائها في الدنيا والآخرة بأفضل وجه؛ وباستطاعتها أن تشطب بالقلم الأحمر على كلّ المظالم واللصوصيات والمفاسد والاعتداءات، وتوصل الإنسان إلى كماله المطلوب.
و(الإسلام) مدرسة على خلاف المدارس – غير التوحيدية – حيث يتدخل في جميع الشؤون الفردية والاجتماعية والمادية والمعنوية والثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية ويشرف عليها، ولم يُهمل أية نقطة – ولو كانت صغيرة جداً – ممّا له دخلٌ في تربية الإنسان والمجتمع وتقدّمه المادي والمعنوي؛ وقضى على الموانع والمشكلات التي تعترض طريق التكامل في المجتمع والفرد، وعمل على رفعها…
– من المخطّطات الشيطانية للقوى الاستعمارية والاستغلالية الكبرى، التي يُعمل على تنفيذها منذ سنوات طويلة، وقد بلغت ذروتها في إيران منذ عهد رضا خان، وتواصل العمل لتحقيقها في عهد محمد رضا بأساليب مختلفة: مخطّط محاصرة الروحانية، التي عُمِل لها في زمن رضا خان بالضغوط والتنكيل ومحاربة الزيّ والسجن والإبعاد وهتك الحُرُمات والإعدام وأمثال ذلك… وعُمِل لها في زمن محمد رضا (بهلوي) بأشكال أخرى، ومنها: إيجاد العداوة بين الجامعيين والروحانيين، وقد بُذِلت جهود إعلامية واسعة النطاق في هذا المجال. وللأسف، فقد حقّقت هذه المؤامرة نتيجة ملحوظة بسبب غفلة الطرفين عن هذه المؤامرة الشيطانية للدول المتجبّرة. فمن جهة حرصوا على اختيار المعلّمين والمديرين والأساتذة ورؤساء الجامعات من بين المنبهرين بالغرب أو بالشرق والمنحرفين عن الإسلام وسائر الأديان ، وحدّوا من وجود الملتزمين والمؤمنين، لتتمكّن الشريحة الأقوى من تسلّم الحكم في المستقبل؛ وربّوا الطفل والفتى والشاب بطريقة تجعلهم يشمئزّون من الأديان مطلقاً، ومن الإسلام بالخصوص، ومن أتباع الأديان، وخصوصاً الروحانيين المبلّغين، الذين وصفوهم في ذلك الوقت بأنهم عملاء للإنكليز؛ ووصفوهم بعد ذلك بأنهم متحالفون مع الرأسماليين والإقطاعيين ومؤيّدون للرجعية، ومعارضون للحضارة والرقيّ.
ومن جهة أخرى، زرعوا – عبر دعايات السوء – الخوف في نفوس الروحانيين المبلّغين والمتدينين من الجامعة والجامعيين، حتى أصبح هؤلاء يتّهمون جميع أولئك باللادين والتحلّل، ومعارضة شعائر الإسلام والأديان . والنتيجة أن يصبح رجال الدولة من المعارضين للأديان والإسلام والروحانيين والمتدينين، وتصبح جماهير الشعب التي تحب الدين والروحاني معارضة للدولة والحكومة وكل ما يرتبط بها. ويفتح هذا الاختلاف بين الحكومة والشعب، والجامعي والروحاني، الطريق رحباً أمام الناهبين، بحيث تصبح جميع مقدّرات البلد في قبضتهم.
حسن محمد صعب – باحث لبناني