شهود من سكان كندا الأصليين الذين يشملون شعوب الأمم الأولى، والإنويت، والميتي، أعادوا ملف اضطهاد الحكومة الكندية لهم إلى الواجهة، بعودتهم إلى الذاكرة واسترجاع أقسى الذكريات، من حرمانهم من ذويهم، ومدارسهم الداخلية القاسية، والقبور الجماعية المهولة التي جمعت أجسادهم دون اسم على شواهدها، بل كانوا مجرد أرقام.
جيمي باباتي (57 عاماً) عادت به الذاكرة إلى اليوم الذي فقد فيه ذويه بالإجبار، قائلاً أنه في سن الخامسة أرغم على مغادرة غابات كندا حيث أسرته ومضى نحو مدرسة داخلية في كيبيك، فصعد في حافلة ومعه أبناء جيله من السكان الأصليين، وهنا بدأت رحلته الشاقة.
وبأمر من الحكومة الكندية، تغيرت حياة جيمي ومعه أطفال كثر، فقد روى قصصاً مؤلمة عن قص شعره، والاستحمام بفرشاة قاسية لتنظيف جسده الذي وصفه القائمون على المدرسة الداخلية بالجسد “القذر”، إلى التخلي عن ملابسه التقليدية وارتداء لباس موحد، وإرغامه على تعلم اللغة الفرنسية وحظر التحدث باللغة الأم، ليختتم أنه في نهاية هذا اليوم الطويل تجرد من اسمه وأصبح رقماً فقط.
فعند بدء كل موسم دراسي، كان مسؤول يقوم برفقة عناصر من الشرطة بجولة على جماعات السكان الأصليين لاصطحاب الصغار، ومنذ العام 1920 وتعديل قانون حول السكان الأصليين لم تعد موافقة الأهل ضرورية، وكان الهدف من هذه المؤسسات توفير الدراسة للأطفال و”تبشيرهم واستيعابهم”.
وفي غالب الأحيان كان الأطفال يتعرضون للعنف وحتى لانتهاكات، وقد قضى آلاف منهم جراء سوء التغذية والأمراض وسوء المعاملة.
ودعم فريد كيستابيش (77 عاما) رواية جيمي حول اضطهاد المدارس الداخلية قائلاً إنه أصبح بلا اسم بل أصبح الرقم 70 في المدرسة، مضيفاً أنه أصبح شخصاً ثانياً في هذا المكان، وأكثر ما كان يؤلمه هو رؤيته لشقيقاته دون أن يسمح له بالتكلم معهم.
أما آليس موات فقد كانت شاهداً أيضاً على ما جرى في الماضي، مشيرةً إلى أنها دونت كل شيء في دفتر مذكراتها كي لا تنسى شيئاً.
الأطفال تعرضوا للضرب
في المدارس الداخلية هذه نسي الكثير من الأطفال لغتهم فيما لزم بعضهم الصمت مدة أشهر، فالنطق بلغة غير الفرنسية أو الانكليزية كانت نتيجته العقاب، وكان الأطفال يتعرضون للضرب بالمسطرة والحزام أو يعاقبون باحتجازهم في خزانة مدة أيام مع صابونة في فمهم.
وتوضح دون هيل (72 عاماً) أن القصاص كان يأتي لأن الأطفال كانوا يتكلمون عندما لم يكن ذلك مسموحاً، أو لأنهم لم يرتبوا الأغراض بالسرعة المطلوبة، قائلةً: “كانت لديهم 50 مليون ذريعة لضربنا”.
واللافت اليوم هو العثور على أكثر من ألف قبر لا تعرف هويات الأشخاص الذين دفنوا فيها، منذ أيار/مايو في مواقع سابقة لمدارس داخلية، وتجري أبحاث كثيرة في كل أرجاء البلاد، إذ ان أربعة إلى ستة آلاف تلميذ فقدوا بحسب السلطات.
وقدم آلاف الناجين إفادات حول الفظاعات المرتكبة في هذه المؤسسات التي كان الهدف منها قتل مبدأ السكان الأصليين “في قلب الطفل”، أمام لجنة الحقيقة والمصالحة التي شكلت عام 2008، من بين هؤلاء آليس موات التي روت حينها للمرة الأولى الاعتداءات الجنسية التي تعرضت لها.
وبعد تحقيق استمر سبع سنوات وآلاف جلسات الاستماع ألقت هذه اللجنة الضوء على هذه المرحلة التي يجهلها الكثير من الكنديين وخلصت إلى حصول “إبادة ثقافية”.
وجاء في التقرير الواقع في أكثر من 500 صفحة أنه قد يصعب أحياناً القبول بأن ما قالوه حصل فعلاً في بلد مثل كندا الذي يعتد بأنه “معقل للديمقراطية والسلام واللطف أينما كان في العالم”، فقد تعرض أطفال لإساءات جسدية وجنسية وقضوا في هذه المدارس بأعداد ما كان ليُسمح بها في أي نظام تعليمي آخر في البلاد أو في العالم.
صدمة أصابت المجتمع الكندي
وتوضح عالمة الانتروبولوجيا في جامعة مونتريال ماري-بيار بوسكيه أن هذه المدارس الداخلية والنظام برمته خلفت الكثير من الصدمات في صفوف السكان الأصليين تم تناقلها من جيل إلى آخر.
كما تشير إلى صدمة حقيقية أصابت المجتمع الكندي حين علموا أن تاريخهم الوطني يستند إلى هذا الاضطهاد كله، حيث قالت: “حتى الآن كانوا يعتبرون أنفسهم ديموقراطية واسعة متعددة الثقافات مع ماض مجيد ومساحات شاسعة ولا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم بلد قائم على الإبادة”.
وفي الإجمال سجلت اللجنة أكثر من 38 ألف اتهام بحدوث اعتداءات جنسية وجسدية خطرة، ولم يصدر القضاء الكندي إلا حوالى خمسين إدانة.
ومع اكتشاف مقابر أطفال مجهولة الهوية قبل فترة قصيرة، تعرفت كندا على ما يبدو على تاريخها أيضاً وباتت كلمة “مصالحة” على كل شفة ولسان، وهي حركة موجودة في مناطق أخرى في العالم للاعتراف بقمع الشعوب خصوصاً من قبل المستعمرين الأوروبيين، ففي النروج وفنلندا والسويد أنشئت قبل فترة قصيرة لجان حقيقة حول الاضطهادات التي تعرض لها شعب “سامي” الأصلي في هذه المنطقة.
وفي الكثير من الدول، تدعو حركة واسعة مدفوعة خصوصاً بجيل الشباب إلى إدراك أخطاء الماضي لفهم التنوع الراهن بشكل أفضل.
وحتى الآن يعيش الكثير من السكان الأصليين في البؤس فيما تتواصل العنصرية على ما يفيد خبراء وتقارير عدة، حيث لم يحصل سكان كندا الأصليون على حق التصويت إلا في العام 1960، وفي بعض المقاطعات مثل كيبيك لم يتحقق ذلك إلا في 1969.
وفي عام 2020، نددت الأمم المتحدة بالعنف المتعدد الأشكال الذي يطال شعوب السكان الأصليين من الحصول على مياه الشرب والتمييز حيال الأطفال الذين يقيمون في المحميات، وأعدادهم الكبيرة في السجون.