يحاولُ التحالُفُ حشد أكبر قدر من الدعايات المضلّلة للرأي العام، بمزاعم “عسكرة صنعاء لميناء الحديدة” المحاصر أصلاً منذ سنوات. ويبدو أنّ هذا التوجّـه يأتي ضمن خطّة أميركية بريطانية مرسومة؛ بهَدفِ تأزيم الوضع الإنساني وتشديد الحصار، وَأَيْـضاً ضمن مسارات الضّغط في الملف الإنساني على صنعاء، بعد العجز عن تحقيق اختراق دبلوماسي أَو عسكري ما.
يكشف هذا التوجّـه سيل الدعايات المضلّلة التي ساقها المتحدّث العسكري باسم التحالُف خلال مؤتمره الصحافي الأخير، والذي لجأ فيه إلى سرقة مشهد من فيلم “Sever Clear” الأميركيّ، وزعم أنَّه في ميناء الحديدة، وأنّ الميناء بات “منطلقاً للعمليّات العسكرية للحوثيين”، ومنفذاً لتدفّق السلاح وتخزينه.
وبموازاة هذا الإفلاس، تحوَّل المؤتمر الصحافي إلى أشبه بالمناحة للتباكي، من خلال استعراض مجموعة من السفن زعم التحالف أنَّ صنعاء استهدفتها في عرض البحر. وإن صحَّ ذلك، فإنَّ المالكي والضابط الذي ظهر إلى جواره لأول مرة، كانا يستعرضان خيبات التحالف على مدى السنوات الماضية.
بطبيعة الحال، هذا المؤتمر الدعائيّ يأتي في سياق شيطنة صنعاء وتصويرها أمام المجتمع الدولي بأنها تشكّل تهديداً للملاحة البحرية. ومن ناحية ثانية، يأتي؛ بهَدفِ التوطئة لضربة محتملة للميناء، ولو ضربة جراحية، كما حصل في مطار صنعاء.
هذه الحملة الدعائيّة ليست جديدة، لكنّها جاءت من ناحية التوقيت بعد اقتياد سفينة تجاريّة إماراتيّة تحمل عتاداً ومعدات عسكرية. وقد أثبتت القوات المسلّحة بالوثائق والصور أنَّ سفينة روابي “Rawabi” نقلت معدات عسكرية أكثر من مرة. وكانت هذه الأدلة بمثابة الضربة القاصمة لدعايات العدوان ومحاولاته الحثيثة “لأنسنة” السفينة المعادية، علماً أنَّ ذلك يعدّ جريمة بالتحايل الكاذب من منظور القانون الدولي، ويحقّ لصنعاء أن تتّخذ الإجراء المناسب بحقّها.
خلال الأسبوع الماضي، أُثيرت أسئلة كبيرة وكثيرة بعد اقتياد السّفينة إلى ميناء الصليف: كيف تمكّنت صنعاء من رصدها وتتبّعها ومعرفة مسارها ونقطة انطلاقها ولحظتها في 26 كانون الأول/ديسمبر؟ والأهم من ذلك، كيف عرفت البحرية اليمنية أنّ السفينة “روابي” محملة بعتاد ومعدات عسكرية؟ وما الرسالة التي أرادت قوات صنعاء إيصالها من هذه العملية في مطلع عام جديد، وعلى أعتاب نهاية عام سابع من العدوان؟ وهل باتت بحرية صنعاء جاهزة لخوض معركة البحر كمعادلة جديدة في مواجهة التصعيد واستمرار قرصنة بحرية العدوان لسفن المشتقات النفطية؟
في الحقيقة، هذه العملية شكَّلت تطوراً جديدًا ولافتاً وغير مسبوق في مسار المعركة من الناحية العسكرية، ومن الناحية التقنية والاستخباراتية أَيْـضاً، فالسّفينة كانت تحت الرصد والمتابعة على مدى قرابة أسبوعين، وجرى اصطيادها سليمة بما تحمله من عتاد وطاقم لم يكشف بعد عن جنسيات أفراده حتى اللحظة.
ومن ناحية ثانية، أعطت صورةً واضحةً عن الجرأة في اتِّخاذ القرار السياسي، إذ أصدرت الجهات العليا أوامرها بضبط السفينة في موقع هو الأكثر حساسية لدى العالم، وفي توقيت حسّاس أَيْـضاً، ربطاً بالتطورات العسكرية والميدانية الجارية في مأرب وشبوة، ودخول الإمارات مجدّدًا على خطّ التصعيد، رغم إعلانها الانسحاب الكاذب مرتين منذ العام 2019.
هذه العملية، بما حملته من تطوّر نوعيّ، شكّلت صدمة لمعسكر التحالف، وأحدثت حالة من الإرباك في صفوفه. وقد عكس ذلك تعاطيه السياسي والإعلامي مع العملية، وزعمه أن “السفينة تجارية وتحمل معدات مستشفى ميداني”، وتصوير المسألة بأنها عملية “قرصنة بحرية استهدفت سفينة كانت في مهمة إنسانية”، فجاءت المشاهد التي بثّتها القوات المسلحة اليمنية، ولاحقاً الوثائق والصور، لتنسف كُـلّ دعايات التحالُف، وتشكّل حرجاً كَبيراً له، ما دفعه إلى استجرار دعايته القديمة بأنّ “الحوثيين يستخدمون ميناء الحديدة وميناء الصليف كمرتكز للعمليات العسكرية واستقبال الصواريخ الباليستية”.
هذه الدعاية أطلقها سابقًا التحالُف في العام 2018 بالتزامن مع معارك الحديدة، والهدف منها هو استهداف ميناء الحديدة وتعطيله، تماماً كما حصل مع مطار صنعاء؛ مِن أجلِ تشديد الحصار على اليمنيين وإجبارهم على الاستسلام والخضوع والقبول بالحلول المعلَّبة أميركياً وسعودياً، لكن هذه العملية جاءت لتعيد الأمور إلى نصابها، وتوجّـه رسالة ورداً عملانياً، بأنَّ “أي تحَرّك عدائي سنواجهه بالطريقة المناسبة والمتناسبة في الزمان الذي نريد”، وفق مصادر عليا في وزارة الدفاع.
وفي هذا السّياق، تؤكّـد المصادر أنَّ “عملية اقتياد السفينة الإماراتية جاءت رداً عملانياً على الممارسات العدائية، وأنَّ للجمهورية اليمنية الحقّ في اتِّخاذ الإجراءات المناسبة تجاه أي نشاط عدائي في المياه الإقليمية اليمنية، وبات لدى القوات البحرية قدرة تمكّنها من تنفيذ أي عملية دفاعية، مع الحرص على أمن الملاحة البحرية وخطوط التجارة العالمية وسلامتها”.
وهنا، لا بدَّ من أن نذكّر بأن القوات البحرية نفَّذت على مدى 7 أعوام ما يزيد على 50 عملية بحرية، من بينها تدمير سفينة “سويفت” (سفينة شحن عسكرية استأجرتها الإمارات من الولايات المتحدة، ثم باعتها كخردة في اليونان)، وَأَيْـضاً فرقاطتا المدينة والدمام السعوديتان، وذلك بين العامين 2016 و2018.
ربما يفسّر ذلك لجوء الإمارات تحديداً إلى استخدام سفن مدنية لأغراض عسكرية، بنقل الأسلحة والمعدات من جزيرة عصب الإريترية إلى ميناء المخا، مثل سفينة “B STAR 1″، إحدى السفن التجارية الإماراتية، رغم أنَّ هذه الخطوة تعدّ جريمة حرب، كما أسلفنا.
اللجوء إلى هذا الخيار يعبر عن مدى خشية دول التحالُف الأميركي السعودي الإماراتي من القوات البحرية اليمنية منذ العام 2016 وُصُـولاً إلى اليوم. وخلال هذه الفترة (5 سنوات)، لا شكّ في أنَّ القوات البحرية تطورت أكثر على مستوى التسليح والخبرة، شأنها شأن القوة الصاروخية وسلاح الجو المسيّر.
وقد كشف السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي في أحد خطاباته في العام 2017 أنَّ “القوة البحرية في اليمن هي قوة دفاعية، وتستطيع ضرب القطع الحربية والعتاد الحربي القادم من دول العدوان بمختلف أشكاله وأنواعه… وأنَّ القوات البحرية قادرة على الوصول إلى أي نقطة على امتداد الساحل اليمني، وُصُـولاً إلى الساحل السعودي والقرن الأفريقي… على أمل الوصول إلى الموانئ الفلسطينية المحتلّة لمناصرة الشعب الفلسطيني”.
كما كشف في إحدى المقابلات التلفزيونية مع قناة “المسيرة” اليمنية أنَّ “هناك إنتاجاً لأسلحة مهمّة وفعالة ووسائل فعالة ومؤثرة وجاهزة للاستخدام عند الحاجة… وأن بعض التفاصيل لا تزال سرية”. ومن المفيد أَيْـضاً التذكير بما كشفته القوات المسلَّحة من صواريخ “مندب” والألغام البحرية في أكثر من معرض.
انطلاقاً من هذه المعلومات والمعطيات، يستطيع أي مراقب تصوّر أَو تخمين أَو تقدير المستوى الَّذي وصلت إليه القوات البحرية اليمنيَّة خلال 5 أعوام والمعادلات التي يمكن فرضها.
طبعاً، في تقديرنا، تولي صنعاء اهتماماً كَبيراً وحرصاً كَبيراً على سلامة الملاحة البحرية وأمن طرق التجارة الدولية، ولا تزال تحيّد البحر عن معادلاتها، وربما تؤجّل هذه المعركة كواحد من الخيارات و”مراحل الوجع الكبير” التي تكرّرت سابقًا على ألسن كثير من القيادات السياسية والعسكرية في صنعاء، على أن تقتصر هذه المراحل على بحرية التحالُف، كنوع من عمليات الرد والدفاع المشروع ومعادلات الردع حيال الاستفزازات والممارسات العدائية المتكرّرة، ومنها استمرار عمليات القرصنة البحرية لسفن الوقود والغذاء والدواء، وربما يكون أي استهداف لميناء الحديدة فاتحة لمرحلة جديدة من المواجهة البحرية، والله أعلم.
* الميادين نت| علي ظافر