أصبحت أشباه الموصلات عصب حياتنا المعاصرة في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. هذه النقطة الجوهرية هي منطلق فهم الصراع على الأسبقية التكنولوجية بين الصين والولايات المتحدة الأميركية في زماننا.
ربما تبدو الجبهة الأوكرانية أكثر صخباً، وتداعياتها الاقتصادية على أوروبا والعالم أبلغ أثراً، وتناولها إعلامياً أشد إثارةً، لكنّ الجبهة الأكثر ضراوةً، هي، في الحقيقة، جبهة مضيق تايوان، وهي الجبهة الأهم، لا من منظور الجغرافيا السياسية بالضرورة، إذ قد تتساوى أهميةً مع الجبهة الأوكرانية، بل من منظور الصراع الصيني-الأميركي الشرس على التكنولوجيا المتقدمة، ولا سيما المعركة المستعرة على جبهة أشباه الموصلات، والتي باتت تايوان المحور العالمي الأهم فيها.
وقع الرئيس الأميركي بايدن يوم الخميس الفائت قراراً تنفيذياً بالمضي قدماً في تطبيق قانون دعم أبحاث أشباه الموصلات وإنتاجها في الولايات المتحدة بقيمة 52.7 مليار دولار. وكان بايدن قد وقع في 9 آب/أغسطس تشريعاً أقره الكونغرس في هذا الصدد، ليصبح بذلك قانوناً رسمياً في الولايات المتحدة الأميركية.
فما المهمّ إلى هذه الدرجة في أشباه الموصلات حتى أصبحت العنوان الأهم للصراع الصيني-الأميركي في اللحظة الراهنة؟ وما صلتها بتايوان؟ وما الذي جعل الهدف المعلن للقانون الأميركي لدعم أبحاث أشباه الموصلات وإنتاجها هو قهر الصين تنافسياً؟
أشباه الموصلات هي، باختصار، ما يشغّل الحاسوب أو الهاتف الذكي، وما يشغّل الإلكترونيات كافةً، مثل ألعاب الفيديو، والصراف الآلي، وأجهزة التحكّم من بعد في التلفاز وغيره، ولوحة العدادات التي يرقبها سائق السيارة. وكلّما ذهبت المنتجات المدنية أو العسكرية، الإنتاجية أو الاستهلاكية، باتجاه أكثر تقدماً، نحو الروبوتات مثلاً أو الذكاء الاصطناعي أو إنترنت الأشياء، فإن أشباه الموصلات الضرورية لتشغيلها تصير أكثر تطوراً وتعقيداً.
لقد أصبحت أشباه الموصلات عصب حياتنا المعاصرة في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. هذه النقطة الجوهرية هي منطلق فهم الصراع على الأسبقية التكنولوجية بين الصين والولايات المتحدة الأميركية في زماننا.
الحبكة الجغرافية-السياسية هنا التي دعت لتشريع قانون أميركي يخصّص نحو 53 مليار دولار لأبحاث أشباه الموصلات وإنتاجها محلياً، هي أنَّ الولايات المتحدة الأميركية، في خضم اندفاعها نحو فرض منظومة العولمة على مستوى كوكب الأرض، تحولت إلى منتِجٍ ثانويٍ لأشباه الموصلات، فيما تحول شرق آسيا، ولا سيما تايوان، ثم كوريا الجنوبية والصين واليابان، إلى مصنع أشباه الموصلات عالمياً، وهذا لم يعد محتملاً أميركياً في ضوء تنامي منظومة قوى مستقلة، مثل روسيا والصين، خارج هيمنة رأس المال المالي الدولي.
ما هي أشباه الموصلات؟ وماذا تفعل؟
أشباه الموصلات أو Semiconductors هي في الواقع صفة فيزيائية تقع في منزلة وسطى بين الموصِلات، كما النحاس والألمنيوم بالنسبة إلى الكهرباء مثلاً، وبين العازلات، كما الزجاج والبلاستيك (ولذلك، تُعزل أسلاك الكهرباء بأغلفة بلاستيكية مثلاً). وأعرف جيداً من تجربتي، كمدرّس ثم ككاتب، أن الحديث عن “صفات فيزيائية” ربما يكهرب المستمع أو المتابع، وما كنت لأدخل في مثل هذا الموضوع لولا صلته الوثيقة بالصراع الجاري في عالمنا المعاصر، وبتايوان، فصبراً.
تأتي أشباه الموصلات على شكل رقاقات chips، فشبه التوصيل هو الوظيفة، والرقاقات هي الشكل. وهناك أنواعٌ عديدةٌ من تلك الرقاقات، فمنها ما هو رقاقات ذاكرة، مثل تلك التي يخزن عليها الهاتف الذكي أو الحاسوب الملفات أو البرامج، ومنها ما هو رقاقات تشغيل، مثل رقاقات المعالِجات الدقيقة microprocessor chips، وهي التي تشغّل الإلكترونيات عموماً، ومنها ما يكون بسيطاً ذا وظيفة واحدة، مثل وظيفة قراءة سعر المنتج الذي تشتريه (الباركود)، ومنها ما يختص بالصور والرسومات، وقد ازدهر في نهاية التسعينيات، ومنها ما هو أشبه بجهاز تشغيل حاسوب كامل، ويتألف من عدة رقاقات متنوعة الوظائف مسبوكة على رقاقة واحدة أو Microcontroller chips، كما في الروبوتات والسيارات والآلات والأدوات الكهربائية الأكثر تطوراً.
وثمة أزمة عرض في الرقاقات عالمياً اليوم، ما يؤثر في الطاقة الإنتاجية وجداول التسليم للكثير من المصانع، من سيارات وأدوات كهربائية وغيرها، وهو ما يعني خسائر في المبيعات والأرباح، وفي القدرة على الإنتاج والتنافس دولياً. ولذلك، بات مالكُ الرقاقات مالكَ الإنتاج، وبالتالي المهيمن على التجارة الدولية ودورة الاقتصاد السلعي، لا مالك القدرة الأكبر على تحويل الاختراعات العسكرية والمدنية المتقدمة إلى منتجات مبتكرة على نطاق كبير محلياً فحسب.
الرقاقات اليوم هي الحلقة المركزية في تطور وسائل الإنتاج، في خضم لحظة الاقتصاد المعرفي التي تمر بها البشرية أو يمر بها بعضها على الأقل، إذ إنّ بعضها الآخر ما فتئ لا يكترث كثيراً إلى الفرق بين الرقاقات الإلكترونية، موضع الصراع العالمي، ورقاقات البطاطا المقلية Potato Chips بنكهاتها المختلفة.
يُذكر أن شركة IBM أعلنت العام الفائت إنتاج رقاقات يبلغ سمك الواحدة منها 2 نانوميتر، والنانوميتر الواحد هو واحد على مليون ملليمتر، مع العلم أنَّ الملليمتر الواحد هو عُشر سنتيمتر واحد، وهي الرقاقات متناهية الصغر التي لا تمكن رؤيتها إلا بالمجهر، كما أنها الرقاقات التي يمكن نظرياً زرعها في أجساد البشر وأدمغتهم لأغراضٍ طبية أو غير طبية، والميدان واسعٌ للتطبيقات الحميدة أو الخبيثة.
مركزية تايوان في إنتاج الرقاقات عالمياً
كان لا بد من التطرق أعلاه إلى أشباه الموصلات كوظيفة، والرقاقات بأنواعها كشكل، ودورها كحامل للإلكترونيات كافةً، من أجل فهم مركزية تايوان في إنتاجها عالمياً، وبالتالي أهميتها في الصراع العالمي على الجبهة التكنولوجية بين الهيمنة الغربية من جهة، ومنظومة الدول المستقلة من جهةٍ أخرى.
ثمة إحصاءات كثيرة عن مدى إسهام تايوان في تصنيع الرقاقات عالمياً. وقد تثير بعض تلك الإحصاءات الحيرة ما لم نحدد عن أي نوع من الرقاقات نتحدث.
بالنسبة إلى الرقاقات الأكثر تقدماً، تصنّع تايوان 92% من الرقاقات عالمياً. وتصنّع، بالنسبة إلى أكثر الرقاقات مبيعاً في العالم، 66% عالمياً، تليها كوريا الجنوبية، بنسبة 17% عالمياً، وتنتج الصين 8%، وبقية بلدان العالم مجتمعة، ومنها اليابان والولايات المتحدة الأميركية وغيرها، 9% من الرقاقات فحسب عالمياً، بحسب إحصاءات موقع statista في نيسان/أبريل 2022.
ومع ذلك، فإن الرقاقات التايوانية هي الأصغر والأسرع مقارنةً بتلك الكورية، وكذلك بنظيرتها الصينية، إذ إن تايوان تصنع رقاقات بسمك 3 نانومتر، فيما تصنع الصين رقاقات بسمك 40 نانومتراً أو أكثر.
لكنّ تصنيع الرقاقات شيء، وتصميمها، وهو ما تحوز الولايات المتحدة الأميركية قصب السبق فيه، شيءٌ آخر. أما جمع مكوناتها وتعبئتها واختبارها، فهو شيءٌ ثالث، وقصب السبق فيه عالمياً للصين. كما أن الصين هي أكبر مستهلك ومشترٍ للرقاقات عالمياً. وبلغت مبيعات رقاقات أشباه الموصلات عالمياً نحو 556 مليار دولار عام 2021، منها 192.5 مليار دولار في الصين، أو نحو 35%، وهو أقل بكثير من حصة إنتاجها من الرقاقات عالمياً طبعاً، وهذا أمرٌ جوهريٌ، فمع أن إنتاج الصين من الرقاقات أكبر بصورةٍ كبيرةٍ من إنتاج الولايات المتحدة منها، فإنها تبقى مكشوفةً لاستيراد الرقاقات من الخارج، ولا سيما من تايوان.
يحدث اختلاط في الأرقام أحياناً، لأن جداول إنتاج الرقاقات عالمياً، بحسب الشركات، ربما تُظهِر أن مبيعات شركة “إنتل” الأميركية من الرقاقات مثلاً، أو حتى “سامسونغ” الكورية، هو الأكبر، ولكن تزول الحيرة إذا علمنا أن كثيراً من الشركات العالمية تتعاقد على إنتاج رقاقاتها في تايوان ليسجل ذلك الإنتاج باسمها.
تكتمل الحبكة إذا علمنا أن روسيا مثلاً تصنع رقاقاتها في تايوان، وأن المهندسين الروس، العسكريين والمدنيين، يصممون الرقاقات، وأن التايوانيين يصنّعونها تجارياً. لذلك، إن وقوف روسيا مع الصين في معركة تايوان لا يأتي بدافع “الواجب إزاء الحليف” فحسب، على الرغم من أهمية ذلك في الصورة الكبيرة.
كل العبرة في مصانع السبك wafers التي تمتلك فيها تايوان ميزة نسبية، أي في تصنيع الشرائح التي تصبح رقاقات؛ فكما سبقت الإشارة، تلك الشرائح التايوانية ليست جاهزة للاستخدام وللتشغيل في الإلكترونيات فور خروجها من باب المصنع التايواني.
وتبرز شركة تايوانية محددة هنا هي الأكبر عالمياً، هي “شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات” TSMC، التي تسيطر وحدها على أكثر من نصف الإنتاج العالمي من الشرائح الإلكترونية الأكثر مبيعاً، تكمّلها مجموعة من الشركات التايوانية الأخرى، لتصل النسبة التايوانية بالمجمل إلى نحو ثلثي إنتاج شرائح الرقاقات عالمياً.
تأسست “شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات” TSMC عام 1987، وبلغت مبيعاتها عام 2021 أكثر من 57 مليار دولار، وبلغ ربحها، بعد كل الحسومات الضريبية وغير الضريبية، أكثر من 21 مليار دولار في العام ذاته. وتمثل تلك الشركة أهم وجه لما تمثله تايوان في الصراع العالمي اليوم.
يُشار إلى أن نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأميركي، التقت رئيس الشركة مارك ليو Mark Liu، خلال زيارتها التي استغرقت يوماً واحداً لتايوان في بداية الشهر الجاري، على الرغم من أن الإعلام ركز على لقائها رئيسة تايوان تساي إنغ وين. ولم تفرض الصين أي عقوبات مباشرة بعدها على “شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات”.
ربما يتندر البعض أن الصين فرضت حظراً على استيراد بعض أنواع السمك والفواكه من تايوان، رداً على زيارة بيلوسي، لكن الرسالة الأهم كانت حظر تصدير الرمال من الصين إلى تايوان، والرمال مكونها الرئيسي من السيليكون؛ المادة الرئيسية التي تصنع منها تايوان أشباه الموصلات… والحديث هنا عن رمال الصحاري والشواطئ، وهي أشبه بـ”قرصة أذن” على كل حال، فليس هدف الصين أن يتوقف إنتاج تايوان من الرقاقات، ولكن في ظل أزمة إنتاج الرقاقات عالمياً، يزيدها الحظر الصيني على تصدير الرمال إلى تايوان حدةً وتكلفةً، والرمال في تايوان تمثل البر الصيني رمزياً.
فمن كان يصدق أن رمال الصحراء العربية، التي تبلغ نحو 80% من مساحة الوطن العربي، ستصبح ثمينةً إلى هذا الحد في عصر الرقاقات الإلكترونية؟
ملاحظة أيديولوجية على هامش الرقاقات
عام 1999، صدر كتاب “ما العولمة؟” عن دار الفكر في دمشق، بقلم د. حسن حنفي ود. صادق جلال العظم. وقد ذهب د. العظم وقتها إلى أن كنه العولمة هو عولمة المنشأة الإنتاجية، أي تحول الاستثمار المباشر العابر للحدود من تأسيس مصنع كاملٍ للسيارات مثلاً في بلدٍ آخر إلى تصنيع أجزاء منها في كل بلدٍ على حدة: محرك السيارة في بلد، وهيكلها في آخر، وأثاثها في بلدٍ ثالث، وإطاراتها في بلدٍ رابع… أي أن الصفة الأساسية للعولمة، بالنسبة إلى الدكتور العظم، هي عولمة العملية الإنتاجية جغرافياً.
وعلى الرغم من أن عولمة المنشأة الإنتاجية كانت إحدى الصفات الملازمة للعولمة، فإنها لم تكن صفتها الأساسية، بل غلبت هيمنة رأس المال المضارب والربوي، أي غير المنتج، على رأس المال المنتج، بصورةٍ أنتجت سلسلة فقاعات سعرية انتهت بأزمات مالية شهيرة أبرزها الأزمة المالية الدولية عام 2008.
أما الطابع الرئيسي لتطور علاقات الإنتاج، فكان عولمة ملكية المنشأة الإنتاجية، لا عولمة العملية الإنتاجية ذاتها بالضرورة. وقد شهدت العولمة انتقال مصانع كاملة تلوث البيئة أو تحتاج إلى يد عاملة رخيصة جنوبي الكرة الأرضية. ونشأت، بموازاة ذلك، شرائح من رأس المال المالي الدولي منسلخة عن أي مرجعية وطنية أو قومية بفضل اتساع حركة رأس المال قصير المدى عبر الحدود وتحول أسواق الأسهم تحديداً إلى أسواق دولية. (جرى توثيق ذلك في ورقة بعنوان “تطورات علاقات الإنتاج في التسعينيات وما تلاها”، نُشِرَت نسخة مزيدة ومنقحة منها في مجلة “راديكال”، العدد 38، في 31/10/2013).
ولعل “شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات” أكبرُ مثالٍ على ما ذهبنا إليه أعلاه عن عولمة الملكية، إذ إن تلك الشركة ومصانعها ومهندسيها وإدارتها تايوانية. أما مالكوها، فغير تايوانيين بالأعم الأغلب، بل هم أميركيون أساساً، ثم بريطانيون وكنديون، أو مالكو أسهم من عدة دول، وأبرزهم شركات استثمار مالي أميركية، مثل “ساندرز كابيتل”، و”كابيتل ريسرتش أند مانجمانت”، و”ماساشوستس فايننشال سرفيسز”.
وحتى تاريخ 30 حزيران/يونيو الفائت مثلاً، اشترت “أروستريت” الأميركية و”أغرتون” البريطانية و”غولدمان ساكس” الأميركية مجتمعة 14.4 مليون سهم من “شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات”.
صعود الدول المستقلة ومحاولة الغرب إعادة عقارب ساعة العولمة إلى الوراء
لم تبدأ أزمة المعروض من أشباه الموصلات في الآونة الأخيرة، بل بدأت بسبب أثرين متداخلين: أ – أزمة كوفيد وانقطاع سلاسل الإمداد من الشرق، ب – سعي الإدارة الأميركية، منذ ولاية ترامب، لمحاصرة الصين وإعاقة تطورها على صعيد أشباه الموصلات ونقل إنتاجها إلى الأرض الأميركية.
أدى انقطاع سلاسل الإمداد خلال أزمة كوفيد 19 وتحول منتجي الرقاقات إلى التركيز على الأدوات المنزلية بدلاً من السيارات خلال الحظر إلى تأثير مزدوج رفع أسعار الرقاقات والمنتجات التي تستخدمها، وتفاقم هذا التأثير مع بداية انفراج أزمة كوفيد 19 وتعافي الطلب على شراء السيارات، ما زاد الطلب على الرقاقات، ورفع أسعار السيارات والأدوات الإلكترونية معاً، وهو ما يفسر ارتفاع أسعار السيارات والأدوات القديمة أيضاً بسبب نقص المعروض من جديدها، لأن مصانع السبك في الشرق لم تستطع تلبية الطلب العالمي المتزايد على الرقاقات بأنواعها.
وما إن بدأ الاقتصاد العالمي يخرج من أزمته حتى فرضت إدارة ترامب في كانون الأول/ديسمبر 2020 حظراً على بيع التكنولوجيا اللازمة لتصنيع الرقاقات المتقدمة للشركات الصينية من دون ترخيص، وهو إجراء موجه لمنع تقدم الصين، لأن رقاقاتها متأخرة جيلين أو ثلاثة عن تلك الأميركية أو التايوانية، مع أن مبيعاتها من الرقاقات ارتفعت 30% عام 2020 إلى 40 مليار دولار.
كان هذا قبل أن توضع “الشركة الدولية لتصنيع أشباه الموصلات”، أهم شركة صينية في هذا القطاع، في القائمة السوداء الأميركية، مع عشرات الشركات الصينية الأخرى.
دفعت العقوباتُ الأميركيةُ الشركاتِ الصينيةَ للتحوط باكتناز رقاقاتها والتقليل من بيعها، ما فاقم أزمة الرقاقات عالمياً، فيما ازداد الطلب عليها مع دخول عصر إنترنت الأشياء والـ5G والإنتاج الكبير للسيارات الكهربائية والآيفون الأكثر تطوراً.
بدأت الدولة العميقة الأميركية في الآن عينه العمل على استعادة عمليات تصنيع الرقاقات إلى الولايات المتحدة، وإلى الدول الحليفة، بعيداً من الصين. وتعهّدت “شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات” إياها استثمار 12 مليار دولار في بناء فرعٍ لها في أريزونا، وتعهدت منافستها التايوانية GlobalWafers استثمار 5 مليار دولار في تصنيع الشرائح في تكساس. واتحدت شركة “سوني” اليابانية مع “شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات” لبناء مصنع شرائح في اليابان، بتشجيعٍ من الحكومة اليابانية.
وتعهدت كوريا الجنوبية إنفاق 450 مليار دولار لفرض وجودها في عالم أشباه الموصلات. وشرع الاتحاد الأوروبي بمشروع قيمته 43 مليار يورو لتعزيز صناعة الرقاقات أوروبياً. وأخيراً، جاء القانون الأميركي بقيمة تزيد على 52 مليار دولار لتعزيز صناعة الرقاقات أميركياً.
هكذا صار حساب الأمن القومي أعلى شأناً من الحساب الاقتصادي الصرف، ليصبح البرنامج الأميركي هو توطين تصنيع الرقاقات وتهجير تصنيع الرقاقات من تايوان إلى الولايات المتحدة واليابان وألمانيا في ما يفترض أنه زمن العولمة!
لعبة حربية أميركية عنوانها تايوان
نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” في 22/1/2022، أي قبل العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، تقريراً بعنوان “كيف يمكن أن يثير نقص رقاقات الحاسوب نزاعاً أميركياً مع الصين؟”. تحدث ذلك التقرير عن لعبة حربية أجريت في أحد مراكز الأبحاث الأميركية. بدأت اللعبة بتوقف 3 مصانع شرائح حاسوب متقدمة فجأة عن العمل في تايوان، ما أثار الشك في أن ذلك كان بفعل هجوم سيبراني صيني، ليتوالى الخبراء المشاركون في اللعبة في وضع سيناريوهات محتملة لتطور الأحداث وتفاقمها وكيفية مواجهتها أميركياً.
وكانت إحدى مخرجات اللعبة، بحسب تقرير “نيويورك تايمز”، ضرورة إقناع تايوان بنقل صناعة الشرائح المتقدمة خارجها، وضرورة إقناع الصين بأن الولايات المتحدة ربما تتدخل عسكرياً بصورةٍ مباشرة دفاعاً عن تايوان. وكلمة “ربما” لم تلقَ عبثاً هنا، إذ إن الغموض الاستراتيجي هو عنوان اللعبة الأميركية عملياً، مع التأكيد أميركياً على التزام أمن تايوان.
وهناك من تحدث عن إمكانية تعطيل مصانع الشرائح المتقدمة في تايوان إذا شرعت الصين باسترجاع الجزيرة. وكان من بين المشاركين في اللعبة خبراء رأوا أن الرقاقات ليست أولوية الصين الأولى في تايوان، بل مسألة السيادة، فحذارِ من اللعب في المياه العكرة للمضيق!
جرت اللعبة في بداية العام الجاري في أحد مراكز الأبحاث الأميركية. ويبدو أنّ التخطيط للتأزيم مع الصين سارٍ على قدمٍ وساق بموازاة التخطيط للأزمة الأوكرانية، وكان مدخلها العبث أميركياً بمسألة السيادة الصينية على تايوان، واستراتيجية “اللعب” وشراء الوقت أميركياً بالتهديد العسكري ريثما يجري نقل صناعة الشرائح المتقدمة من تايوان. أما الهدف الاستراتيجي، فيبقى محاولة منع الصين من وضع يدها على تكنولوجيا أكثر الرقاقات تقدماً، حفاظاً على الهيمنة الإمبريالية على الاقتصاد العالمي.
المصدر: الميادين