في جميع الحالات، وأياً تكن النتائج المحتملة لأحداث السودان، فالجميع يعرف أن أعداء المنطقة في الخارج والداخل لا ولن يتنفسوا الصعداء إلّا بعد تدمير دولها وشعوبها لمصلحة الكيان الصهيوني.
بعد أيام من الزيارة المفاجئة، التي قام بها عمر البشير لدمشق في السادس عشر من كانون الأول/ديسمبر 2018، بصفته أول رئيس عربي يزور سوريا منذ بداية الأحداث في آذار/مارس 2011، بدأت الأحداث هذه المرة في عدد من المدن السودانية، وانتهت بالانقلاب العسكري الذي أطاح البشير في 11 نيسان/أبريل 2019، أي بعد أربعة أشهر من لقائه الرئيس الأسد.
الأحداث الأخيرة في السودان، والصراع بين رئيس مجلس السيادة الانتقالي، عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، ذكّرتني بالعلاقة بين زيارة البشير دمشق وإطاحته بعد هذه الزيارة. ويتذكّر الجميع كيف ألغت واشنطن والعواصم الغربية العقوبات المفروضة على السودان، كما رفعت اسم السودان من لائحة الدول الداعمة للإرهاب بعد إطاحة البشير، ليكون التطبيع مع الكيان الصهيوني الحلقة الأهم في تآمر العسكر في الخرطوم، ليس فقط ضد الشعب السوداني، بل ضد العالم العربي بصورة عامة.
ويتذكر الجميع الدعم السوداني للعدوان السعودي الإماراتي على اليمن، مع المعلومات التي تتحدث منذ أكثر من عام عن تعاون وثيق بين الخرطوم و”تل أبيب” في المجالين العسكري والاستخباري، وهو ما يستغله الكيان الصهيوني في مخططاته ومشاريعه الخاصة بالشمال الأفريقي العربي وأفريقيا بصورة عامة، بسبب ما للسودان من موقع استراتيجي يطل على البحر الأحمر نتيجة أهميته الكبيرة بالنسبة إلى الكيان الصهيوني.
وجاء الحديث عن الدعم الإماراتي لدقلو في مقابل الدعم السعودي للبرهان، وعلاقة المؤسستين العسكرية والاستخبارية السودانيتين بـ”تل أبيب” ليطرح عدداً من التساؤلات بشأن التوقيت الزمني للأحداث الأخيرة في السودان، ويبدو أن لها علاقة بالتطورات الأخيرة في المنطقة، وأهمها المصالحة السعودية الإيرانية بوساطة صينية مدعومة من روسيا، مع التذكير بالاهتمام الكبير الذي أولاه الرئيس إردوغان بعبد الفتاح البرهان، الذي استقبله في أنقرة مرتين، على الرغم من أن البرهان أطاح البشير، وهو صديق إردوغان المقرب. ومن دون أن يتذكر إردوغان أنه هو الذي أقام الدنيا ولم يُقعدها ضد عبد الفتاح السيسي، الذي أطاح صديقه محمد مرسي، مع الإشارة هنا إلى التوقيت الزمني لأحداث السودان، وتصادف مساعي الانفتاح العربي على دمشق، وتسعى “تل أبيب” لعرقلتها، وهو ما تفعله قطر حليفة الرئيس إردوغان الاستراتيجية بالطبع، إذا تجاهلنا أطرافاً عربية أخرى، منها المغرب، وهو حليف “تل أبيب” التقليدي.
ويتوقع، بل يتمنى الكثيرون أن يؤخر تفجير الوضع الأمني في السودان المصالحة السعودية الإيرانية، بانعكاساتها على سوريا والعراق ولبنان واليمن، كما هو سيخدم حسابات الأطراف المتورطة في هذا البلد، بما في ذلك أميركا وفرنسا اللتان لا تخفيان قلقهما وانزعاجهما من الدورين الروسي والصيني، ليس فقط في السودان، بل في القارة السمراء عموماً. كما لا يُخفي هؤلاء قلقهم من بروز الدورين الصيني والروسي معاً في الشرق الأوسط، وهو ما دفع الرئيس ماكرون إلى زيارة بكين فجأة من أجل البحث في مجمل هذه التطورات بهدف ضمان المصالح الفرنسية في الصين وجوارها.
ولن يكون التدخل الأميركي، ومعه الإسرائيلي المحتمل في تطورات السودان، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، هو السلاح الوحيد الذي تستخدمه الأطراف المذكورة لمنع مسار الانفراج، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، في المنطقة عبر المصالحة الإيرانية – السعودية، المدعومة من مصر جارة السودان، وهي الحال بالنسبة إلى ليبيا التي تشهد صراعاً عسكرياً وسياسياً بين مصر، المدعومة من الإمارات والسعودية، وبين تركيا، المدعومة من قطر. وجاءت زيارة وزير الخارجية الأميركي بلينكن المفاجئة للسودان، ولقاؤه دقلو والبرهان، ليُثبتا للجميع مدى الأهمية التي توليها واشنطن وحليفاتها لهذا البلد الاستراتيجي. وبات واضحاً أنه سيبقى في مهب الرياح الإقليمية والدولية بغياب الاستقرار السياسي، الناتج من تدخل العسكر المباشر وغير المباشر في مجريات الأحداث، منذ استقلال هذا البلد عام 1956. وكان هذا التدخل، في ظل الأجواء الاستبدادية التي خيمت على البلاد، هو السبب الأهم في الحروب الأهلية، وتقسيم السودان إلى شمال وجنوب في عام 2011، في بدايات ما يسمى “الربيع العربي”، الذي دمّر المنطقة، وما زلنا نعيش جميعاً تبعاته الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية، وحتى الأخلاقية.
ومن دون أن تكتفي العواصم الغربية وحليفاتها في المنطقة بكل ذلك، فهي تتناوب فيما بينها على الاستمرار في التآمر، ومنع تحقيق أي تقدم على طريق ضمان الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة. وآخر مثال على ذلك ليس فقط ما يحدث في السودان، بل أيضاً مساعي الكيان الصهيوني لتحريض أذربيجان ضد إيران من مبرّرات عرقية وطائفية تريد لها “تل أبيب” أن تفجر الوضع الأمني بين الدولتين المسلمتين، من أجل عرقلة مسار المصالحة السعودية – الإيرانية.
فالجميع يعرف أن “تل أبيب” حققت الكثير من المكاسب من علاقاتها بباكو، التي سمحت للكيان الصهيوني بإقامة قواعد عسكرية واستخبارية في الأراضي الأذربيجانية، قرب الحدود مع إيران، بهدف تحريض الأقلية الأذرية هناك. كما تقوم باكو بتغطية احتياجات الكيان الصهيوني من البترول، عبر أنبوب النفط الأذربيجاني، الذي يمر عبر أراضي تركيا، التي يريد لها الكيان الصهيوني أن تكون طرفاً في أي توتر بين إيران وأذربيجان، التي يوجد فيها قواعد عسكرية تركية، تمت إقامتها خلال الحرب في كاراباخ وبعدها، بحيث دعمت “تل أبيب” وأنقرة أذربيجان ضد أرمينيا.
ويعرف الجميع أيضاً أن “إسرائيل” تولي أهمية بالغة لاحتمالات التوتر والمواجهة الساخنة بين كل من إيران وأذربيجان، المدعومة من تركيا، التي لها حسابات قومية ومذهبية واستراتيجية في منطقة القوقاز القريبة من البحر الأسود، وهي بوابتها للوصول إلى آسيا الوسطى، حيث الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي، والتي ما زالت روسيا ترى فيها حديقتها الخلفية، وهي قريبة أيضاً من الصين، التي تنسق وتتعاون مع روسيا، ليس فقط في الشرق الأوسط، بل في عدد من المناطق، وأخيراً في أوكرانيا.
وفي جميع الحالات، وأياً تكن النتائج المحتملة لأحداث السودان، فالجميع يعرف أن أعداء المنطقة في الخارج والداخل لا ولن يتنفسوا الصعداء إلّا بعد تدمير دولها وشعوبها لمصلحة الكيان الصهيوني. ولهذا، هم كانوا، وما زالوا، وسيبقون ضد شعوب المنطقة، التي تتمنى أن تحقق المصالحة الإيرانية – السعودية أهدافها، وأهمها تحقيق الأمن والاستقرار في سوريا والعراق واليمن والصومال ولبنان، والآن في السودان، بسبب ما لهذا البلد من أهمية استراتيجية بالنسبة إلى الجميع، وخصوصاً الكيان الصهيوني، الذي أولى أفريقيا أهمية خاصة، منذ قيامه في أرض فلسطين، وهي العنوان الرئيس لكل أحداث المنطقة، منذ آلاف الأعوام، وستبقى هكذا إلى أن تعود إلى أصحابها الحقيقيين.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً
موقع قناة الميادين
حسن محلي
باحث علاقات دولية ومختصص بالشأن التركي