هل خذلت إيران غزة؟

– لا نستطيع أن نصف الذين يقولون إن إيران خذلت غزة ينتمون إلى خيار الدفاع عن غزة والمقاومة، لأنهم ببساطة قالوا عن الخذلان ذاته بالنسبة للبنان ومقاومته التي قدّمت أغلى ما عندها واستشهد الآلاف من مقاوميها ومثلهم من بيئتها الحاضنة والمساندة ودمّرت بيوتهم وقراهم ولم يبخلوا

وبالرغم من أن المقاومة في لبنان لم تكن قد تعهّدت بالدخول على حرب غير الدفاع عن لبنان إلا بشرط تعرّض المسجد الأقصى لمخاطر الهدم والتدمير، وبالرغم من أنها فوجئت بطوفان الأقصى ولم تكن شريكاً في تحديد خطته وتوقيته كجزء من عمل مشترك للحرب، وعلى الرغم من إدراك قيادتها أن فتح جبهة الإسناد سوف يعرّضها لخطر شن حرب كالتي استهدفتها وهي عارية من التغطية الداخلية بسبب انفرادها باستخدام قدرتها في غير الوجهة التي تعهدت بها، وهي الدفاع عن لبنان، ورغم أن الخطر كان قائماً لو لم تفتح جبهة الإسناد إلا أن الانخراط في مواجهة تحت عنوان الدفاع كان سوف يجعل شروط المواجهة مختلفة كلياً وفقاً لتركيبة لبنان وشروط العلاقة المعقدة بين المقاومة والبيئات السياسية اللبنانية المختلفة، قامت المقاومة بما اعتقدت أنه الواجب الأخلاقي والديني والوطني والإنساني، ولم يقم أحد من رموزها بعد كل ما لحقها من أضرار وما قدمت من تضحيات، بالقول ما كان يجب أن ندخل معركة ولم نشترك في قرار فتحها، بينما بقيت أصوات الاتهام بالخذلان تنتهز الفرص والمناسبات للنيل منها، حتى بعد استشهاد قائدها، وانتقلت من مهاجمته قبل استشهاده إلى اتهام من خلفه بخيانة تعهّداته عندما اضطرت المقاومة للانتقال من جبهة الإسناد إلى جبهة الدفاع وقاتلت ببسالة أسطورية على الحافة الأماميّة حتى أجبرت الاحتلال على قبول وقف إطلاق النار، الذي تتحمل الدولة اللبنانية والتقعيدات السياسية اللبنانية مسؤولية التهاون في تطبيقه بصورة منحت الاحتلال القدرة على التلاعب ومواصلة الاحتلال والعدوان.

– هؤلاء أنفسهم يبدو أنّهم يحملون اختصاصاً بانتقاد محور المقاومة، تحت شعار أن الخذلان العربي الرسمي تحصيل حاصل، وأنهم يمثلون الرأي العام العربي، الذي لم يتجرأ أحد فيه ولا من نخبه وقادته على قيادة تحرّكات لها صفة الوزن والديمومة لنصرة غزة إلا بانتقاد محور المقاومة وصولاً إلى إيران، الذين يتمّ التعامل معهم بصفتهم عبيداً مستأجرين بالسخرة لمهمة قتال “إسرائيل” وتقديم التضحيات بما في ذلك استشهاد القادة، الذين لا ينالون إلا الذم عندما يُستشهدون، لأنهم كانوا مستهترين فقتلوا، أو أنّهم فاشلون ونجحت “إسرائيل” باختراق أمنهم، بدلاً من تكريمهم والترحّم عليهم، والباقي مسموح له أن يجلس في مقاعد المتفرّجين، الكل بمن في ذلك الشعوب والنخب والأحزاب والموالاة والمعارضة وأولاً الحكومات، وحتى إن استضافت القواعد الأميركية. فالواجب القومي يفرض إدانة اعتداء إيران على السيادة العربية في الرد على العدوان الأميركي.

– هؤلاء أنفسهم الغيارى على غزة وفلسطين، لا نرى لهم أيّ نشاط ولو بتغريدة انتقادية لتركيا، الدولة الإسلامية العظمى، التي صارت على حدود فلسطين المحتلة مع نجاحها بإيصال حلفائها إلى الحكم في سورية، وإسقاط مَن كان يعتبر صنيعة المحور الإيراني، فكل الأعذار تجترح لتركيا لتبرير التخاذل وتوصيفها بالدولة التي تفرض تعاملاً ندياً مع أميركا وتنجح برفع العقوبات عن سورية، ولو مقابل تعهّد بالتطبيع السوري الإسرائيلي، ومَن لا يمجّد تركيا من هؤلاء لا ينتقدها، ولا يعاملها بالسوية ذاتها لتعامله مع إيران، أما موقف هؤلاء من الذين جاؤوا إلى السياسة تحت شعارات إسلاميّة جوهرها اعتبار أميركا عدو الاسلام والمسلمين، وذاكرتهم مؤسسة على أحداث 11 ايلول وتمجيدها، ومن رحم تنظيم القاعدة وفكرها، وقد تسلّموا الحكم في الشام، فهو التمجيد والتعظيم والتسامح إلى حدود الصمت عن التعاون العلني بين هذا الحكم الجديد وكيان الاحتلال، وغياب فلسطين وغزة عن خطاب هذا الحكم، بل قيامه بالتمهيد للتنازل عن الجولان باعتبار أن سكانه من الدروز، ومَن لا يبرّر لحكم الشام الجديد لا يتحدّث عنه مثلاً بمثل ما يتحدّث عن أي طرف من أطراف المقاومة ومحورها، فهل قرأ أحد مقالاً كتبته شخصيّة وازنة من هؤلاء تقول إن النصرة لم تنصر غزة وخانتها؟ وقد سمعنا خالد مشعل مثلاً يقول مع دخول النصرة إلى الشام إن النصر يبشّر بدخول القدس قريباً، بينما اليمن الذي مجّدوا وقفته ليجعلوه مصدراً للتنمر على لبنان، عندما توقف يومين طرحوا أسئلة التشكيك في موقفه!

– رغم كل ذلك نناقش الفكرة، وقناعتنا أن الحرب مع كيان الاحتلال ليست فقط إسناداً لغزة بل هي التزام وطني وقومي وإنساني وديني، لأن هذا الكيان عدو الله وأنبيائه وعدو الإنسانية وعدو للهوية القومية والوطنية لكل دول المنطقة، وهي حرب مفتوحة فيها كثير من الهدن وليس فيها سلام، وهي حرب سجال وكرّ وفرّ فيها تقدّم وتراجع، لكن ليس فيها نصر أو هزيمة إلا على قاعدة الفناء والزوال، ووقف الحرب على غزة ليس إلا واحدة من هذه الهدن، ومثلما أدّت حرب لبنان مع الكيان وظائف جوهريّة في هذا الصراع أهمّها تهجير مستوطني الشمال وإبقائهم خارج خيار العودة، وضرب الروح القتاليّة للقوات البريّة في معارك الستين يوماً على حافة الحدود الأماميّة، وإسقاط فكرة حصانة العمق الإسرائيلي بوجه الاستهداف، فإن حرب إيران مع الكيان وهي حرب عدوانية أميركية إسرائيلية لم تبدأ بها إيران ولم تكمل استعداداتها الداخلية السياسية والشعبية والعسكرية للبدء بها، وقد أدّت بنجاح ما لم يتوقعه الكثيرون منها، فأصابت في الصميم أرواح المستوطنين وثقتهم بحصانة عاصمتهم ومدنهم ومنشآتهم، وألحق ضرراً كبيراً بالمنشآت الاستراتيجية للكيان العسكرية والاقتصادية والعلمية والتقنية، وخصوصاً العسكرية، وعندما تصدّت للقيادة الأميركية في قاعدة العديد وأجبرت أميركا على الخروج من الحرب اجبرت “إسرائيل” على الخروج منها أيضاً، وكانت هدنة ثانية تضاف إلى هدنة لبنان بانتظار هدنة ثالثة في غزة.

– كل المعارك مع الكيان مترابطة حتى لو يكن الترابط ظرفياً، خصوصاً معركة إيران، حيث كان قادة الكيان يقدمون حربهم على إيران كمدخل لإسقاط كل الساحات المقاومة وفي مقدّمتها غزة، ويطلبون من حكومات الغرب المحرجة أمام شعوبها بسبب الجرائم الوحشيّة في غزة التحمل حتى الانتهاء من الحرب على إيران، والآن وقد فشلت الحرب على إيران في إسقاطها وتالياً في إسقاط ساحات المقاومة وخصوصاً غزة، التي تشهد على العكس تصاعداً نوعياً، وصارت الهدنة فيها أقرب من أي وقت مضى، لكن الربط الشرطيّ بين حرب إيران وحرب غزة كما بين حرب لبنان وحرب غزة، تجاوز لشرط جوهريّ في الصمود في الحروب وهو تماسك الجبهة الداخليّة التي تضع سقف مشروعيّة الحرب بوعيها الجامع، وهي في لبنان وإيران ليس ضمنها بالتأكيد تحمّل خوض حرب وأكلافها تحت عنوان إسناد غزة حتى وقف الحرب عليها، وانكسار الجبهة الداخلية هو بداية خسارة الحرب قطعاً، كما قالت تجربة الحرب الدفاعية لإيران بوجه النظام العراقي السابق، عدنما رفضت القرار 598 عام 1987 واضطرت لقبوله بعد سنة وقال يومها الإمام الخميني قوله الشهير عن تجرع كأس السم، والسبب أن إيران كانت تأمل مواصلة الحرب حتى تغيير النظام في العراق إسناداً للمعارضة العراقية التي ساندتها في الحرب.

– يكفي الاطلاع على تغريدة لأحد الكتاب الذين يتهمون إيران بالخذلان، كيف ينظر هؤلاء للنظام العربيّ والإسلامي الرسمي وموقفه من غزة، ويبخلون على إيران وقوى المقاومة بالبعض القليل من هذه العقلانية التي يبدونها، تقول التغريدة:
– مقتضى الشرع والعقل أن نستفيد من كل جهد يُمكّن للحق ويخدم قضايا الأمة، ولو كان مدفوعاً بالمصالح.
– حين تتحرك #السعودية أو #قطر أو #الأردن أو #تركيا اليوم في ملفات #غزة و #سوريا و #فلسطين بالعموم، فإن العاقل لا يُطالبهم بالكمال،
بل يُدرك أن السياسة مزيج من المبادئ والمصالح، وأن الخير لا يُرفَض لأن اليد التي تحمله ليست ملائكية…
– قال ابن القيّم :
– “من فقه الرجل أن يُنزل الناس منازلهم، ويعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، ولا يُبطل الخير لأجل الشر”.
– *نحن لا نقدّس الدول، ولا نمنح صكوك الطُهر السياسي لأحد،
– لكننا أيضاً لا نكفر بنعمة أي موقف نافع ولا ندخل بنوايا خلق الله ونبخس الخير فيهم..
– نحن أمة تُحسن الفرز لا الرفض، والبناء لا الهدم، والاستثمار لا التسليم.

ناصر قنديل

صحيفة البناء اللبنانية

 

اشترك وانظم ليصلك آخر الأخبار عبر منصات العين برس على مواقع التواصل الإجتماعي :

واتس أب تيلجرام إكس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *