لا يمر يوم في واشنطن من دون التطرّق إلى الضربات الجوية على اليمن. تشارك في النقاش إضافة إلى صناع القرار، المراكز البحثية ومعاهد الدراسات والنشرات المتخصّصة في شؤون الدفاع والأسلحة وعالم البحار وخبراء وأكاديميون في كل المجالات الإستراتيجية وأمن الممرات المائية وغيرهم. فقد فرض صمود اليمن أمام الأسطول الأميركي نفسه في «البنتاغون» واللجان المتخصّصة في الأمن والتسلّح التابعة للكونغرس.
ويتعدّى النقاش أمن السفن الحربية العاملة في البحر الأحمر إلى مستقبل الإستراتيجية البحرية الأميركية، التي تواجه لأول مرة اختباراً مفتوحاً أمام خصم لا يملك أسطولاً، ولكنه يعرف كيف يستنزف أكبر أسطول بحري في العالم من دون أن يجد الأخير حيلة في التعامل مع التهديد الناشئ.
أدى نجاح اليمن في الاستمرار في استهداف الأصول الأميركية في البحر الأحمر، إلى قلب الموازين الإستراتيجية والتكتيكية الأميركية القائمة منذ الحرب العالمية الثانية في وقت حسّاس جداً داخل الولايات المتحدة، التي تخوض صراع وجود مع الصين، وذلك بواسطة سلاح غير تقليدي، سهْل الاستخدام وقليل التكلفة، بالاعتماد على الطائرات من دون طيار والصواريخ الموجّهة التي أظهرت للعالم قوة غير مأهولة بإرادة تصارع من أجل قضية عادلة ومحقّة هي القضية الفلسطينية، ليكشف التكتيك اليمني المذكور عقم الإستراتيجية الأميركية المتفوّقة بالنيران ولكن العاجزة عن تحقيق الأهداف، رغم مرور سنة ونصف سنة على بدء العدوان على البلد.
وكما قالت مجلة «ناشيونال انترست» الأميركية، فإن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، سيفشل مثل سلفه، جو بايدن، في استعادة الردع الأميركي ضد الحوثيين إذا لم يجد طريقة لحل المشكلات التي أعاقت العمليات في عهد الأخير. وقد فعل ترامب ما يمكن فعله، بأن عزّز ترسانته العسكرية بأحدث الوسائل والمعدّات بشكل غير مسبوق. ويرسل تهديداته عبر الوسطاء كما فعل الثلاثاء حين وجه تحذيره مجدداً إلى اليمن عبر الاتصال الذي أجراه مع سلطان عمان، هيثم بن طارق، فيما أركان إدارته يوجّهون اللوم إلى أوروبا التي لم تُقدّم سوى استجابة متواضعة لأزمة البحر الأحمر، ومع ذلك فهي تعتمد على هذا الممر البحري للحصول على موارد حيوية و40% من تجارتها مع آسيا.
وبالمثل، في رأي هؤلاء المسؤولين يجب أن تكون القوى العربية المحلية، مثل مصر، التي تعتمد على قناة السويس لضمان بقائها، أكثر رغبة في التحرّك خشية استمرار خسارة التحويلات المالية نتيجة انخفاض حركة المرور، مع تحذير لهذه الدول بأن واشنطن لن تلعب بعد الآن الدور القيادي في المنطقة، وهو ما كان باهظ التكلفة للولايات المتحدة.
وأكثر ما يزعج الأميركيين بشكل مُجمَع عليه هو التكلفة الباهظة للحرب، حيث كشفت «ناشيونال إنترست» أن حجم الإنفاق بلغ نحو 4.86 مليارات دولار من دون احتساب فقدان طائرات من دون طيار متطورة مثل «MQ-9 Reaper» في مواجهة صواريخ وطائرات مسيّرة منخفضة التكلفة، ما جعل النزاع البحري يتحوّل تدريجياً إلى حرب استنزاف اقتصادية.
«البنتاغون» قلق من السرعة التي يحرق بها الجيش الأميركي الذخائر في اليمن
وبدأ القادة العسكريون الأميركيون يدقّون ناقوس الخطر من أن يؤدي استنزاف الأسلحة إلى فقدان الردع مقابل الصين، لا سيما أن الاستمرار في الحرب قد يحتاج إلى اللجوء إلى المخزونات في آسيا لتجديد الإمدادات العسكرية في الشرق الأوسط. وأفاد مسؤول في البنتاغون «نيويورك تايمز» بأنه أبلغ مساعدين في الكونغرس بالقلق من السرعة التي يحرق بها الجيش الأميركي الذخائر في اليمن.
ويحاول مساعدو ترامب، بما في ذلك وزير الدفاع، بيت هيغسيث، تهدئة المستويين السياسي والعسكري بالقول إن خطط الولايات المتحدة تعطي الأولوية لتعزيز قواتها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ لردع الصين، التي تعمل بسرعة على بناء جيشها وترسانتها النووية.
ويحاول هؤلاء المسؤولون إلقاء المسؤولية على الإدارات السابقة التي حوّلت الدعم العسكري الأميركي لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، وعقود من الحملات العسكرية في الشرق الأوسط وأفغانستان. ويطمئن صقور الحرب في واشنطن وتل أبيب إلى أنه إذا هاجمت إسرائيل مواقع التخصيب النووي الإيرانية في الأشهر المقبلة وأشعلت حرباً أوسع في الشرق الأوسط، فمن شبه المؤكد أن إدارة ترامب ستخصّص المزيد من الموارد العسكرية الأميركية للمنطقة.
هكذا غيّر اليمن أولويات اللجان المتخصّصة في الكونغرس، فبينما واشنطن غارقة في اليمن، تمضي بكين بخطى ثابتة في توسيع قدراتها البحرية وتطوير حاملات متطوّرة قد تُغيّر قواعد اللعبة.
وتبدو حاملات الطائرات الأميركية، وكأنها تواجه اختباراً وجودياً أمام تصاعد نفوذ الصين ومخاطر التكنولوجيا العسكرية الحديثة. ويرى مسؤولون أميركيون أن بلادهم كانت مشغولة بمحاكاة الماضي وتدريب أساطيلها على طرق قتالية باتت طي النسيان، وهي مجبرة اليوم على إعادة تقييم موقعها العسكري، متأخّرة عن ركب التغيير الذي لم ينتظرها.
في هذا السياق، قال موقع «آسيا تايمز» إن التأخير في إنتاج حاملات الطائرات الأميركية من فئة «فورد»، وتزايد التهديدات البحرية، وتراجع أعداد السفن، كلها عوامل تقوّض العقيدة البحرية للولايات المتحدة وتضع هيمنتها التقليدية في البحر على المحك، في الوقت الذي تواصل فيه الصين توسيع أسطولها البحري بسرعة.
وقد سرّبت وسائل الإعلام منذ أيام أن البحرية الأميركية أقرت، خلال جلسة استماع أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ هذا الشهر، بوجود تأخيرات في الجدول الزمني لحاملتي طائرات من فئة «فورد» قيد الإنشاء. وأبرز هذه السفن هي حاملة الطائرات «جون كينيدي»، التي اكتمل بناؤها بنسبة 95%، ولكنها تواجه ضغوطاً شديدة للوفاء بموعد تسليمها المقرر في تموز المقبل، بسبب مشكلات في مصاعد الأسلحة المتقدّمة ومعدات إطلاق واستعادة الطائرات، فضلاً عن أن بناء حاملة الطائرات «إنتربرايز»، التي تم إنجاز 44% منها حتى الآن، يتأخّر أيضاً نتيجة تأخر في تسليم المواد الحرجة، ما قد يؤدي إلى تأخير كبير في موعد التسليم النهائي.
الاخبار اللبنانية: لقمان عبدالله