سيتم اللقاء بين الرئيسين بوتين وإردوغان في سوتشي، وهو لا يتعلق بالملف السوري فحسب، إنما يشمل كل الملفات المتشابكة بين البلدين في البحر الأسود وسوريا والقوقاز وليبيا والبحر الأحمر، إضافة إلى دول آسيا الوسطى.
لم تمضِ بضعة أيام على انتهاء قمة طهران الثلاثية، التي ظهر فيها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان على الإعلام متجهّم الوجه، حتى خرج وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو بتصريح لافت لمتابعي تعقيدات الملف السوري بتشابكاته المحلية والإقليمية والدولية، مستبقاً قمة سوتشي التي ستُعقد في 5 آب/أغسطس بين الرئيسين الروسي والتركي، وفيه تأكيد على وضع الملف السوري على طاولة المباحثات بينهما كأولوية، باعتراف جاويش أوغلو بالنظام السياسي في دمشق، عبر استعداده لتقديم المساعدة له في القضاء على التنظيم الإرهابي في شمال شرق سوريا، بحسب زعمه، فأين سوريا من كل ما يجري؟
كان واضحاً أنَّ المرشد الإيراني علي خامنئي وكلاً من الرئيسين فلاديمير بوتين وإبراهيم رئيسي ضغطا كثيراً على الرئيس التركي في قمة طهران الثلاثية التي تركزت على ضرورة إجراء مصالحة بين تركيا وسوريا، في مقابل تنازل إردوغان عن جملة من المكاسب التي حققها بعد احتلاله أكثر من 9% من مساحة سوريا، واحتضانه جيشين من السوريين في الشمال السوري شكَّلهما مع دول التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة بدعم مالي قطري.
وعلى الرغم من تحديد موعد مسبق لاجتماع أستانة الثلاثي قبل نهاية العام الحالي في موسكو، فإن الرئيس بوتين لم ينتظر طويلاً، حتى تم الإعلان عن اجتماع ثنائي في سوتشي مع الرئيس إردوغان، فطبيعة التحوّلات المتسارعة دولياً، بعد عجز الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي عن تحقيق أهداف الحرب في أوكرانيا، وارتدادها السلبي على اقتصاديات الدول الغربية وبقية دول العالم، فرضت على الرئيس التركي أن يعيد حساباته من جديد، وبأسرع وقت، وهو الذي يشهد ضغوطاً اقتصادية داخلية كبيرة وتكتلاً سياسياً معارضاً لاستمراره في السلطة بعد الانتخابات الرئاسية لعام 2023، ويعاني أزمة ثقة كبيرة مع كل دول الجوار المحيطة به.
مع كل هذا، ما كان من إردوغان إلا أن دفع وزير خارجيته جاويش أوغلو إلى الاعتراف بالنظام السياسي في دمشق، ولكن بشروط تعجيزية لا تتلاءم مع توجهات كل من دمشق وطهران وموسكو، فالأولوية لهذه العواصم هي إخراج الولايات المتحدة من سوريا والعراق، بل من كل غرب آسيا، وهذا بطبيعة الحال ينطبق على الأدوات العابرة للحدود ذات الطابع التكفيري، وخصوصاً المجموعات المسلحة في إدلب وبقية الشمال السوري المحتل.
ويأتي اللقاء المُزمع انعقاده في جوّ واضح المعالم للتقدم الروسي على مستوى الصراع مع الغرب سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، ومترافق مع تصعيد صيني واضح في وجه الولايات المتحدة التي تحاول خلق حزمة من الضغوط على الصين في تايوان.
وقد استبق الرئيس بوتين لقاءه المرتقب مع الرئيس إردوغان بإعلان العقيدة العسكرية البحرية الجديدة لروسيا، التي تعتبر منطقة البحر الأسود وبحر آزوف ذات أهمية جيوسياسية عالية وأولوية وطنية روسية، ما سينعكس بطبيعة الحال على الدول المتشاطئة التي تضم رومانيا وبلغاريا وتركيا وجورجيا، والتي تُعتبر امتداداً للغرب وتهديداً لروسيا، وتمثل فيها تركيا الدولة الأهم، بسيطرتها على الحدود الشاطئية الأكبر، وسيطرتها على الممرات البحرية التي تصل بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط. وفي رسالة واضحة المعالم، أُزيح الستار عن نصب تذكاري في مدينة بطرسبورغ، في استعادة لذكرى تدمير الأسطول العثماني على يد الأسطول الروسي عام 1853.
في هذه الأجواء، سيتم اللقاء بين الرئيسين، وهو لا يتعلق بالملف السوري فقط، إنما يشمل الملفات المتشابكة بين البلدين في البحر الأسود وسوريا والقوقاز وليبيا والبحر الأحمر، إضافة إلى دول آسيا الوسطى التي يغلب عليها الطابع الإثني التركي.
من الواضح أنّ هوامش خيارات الرئيس التركي أصبحت ضيقة، ولا يمكن لأحد أن ينقذه من المستقبل السياسي القاتم سوى روسيا وإيران اللتين أنقذتاه من انقلاب 2016، وهما مستعدتان لإنقاذه من جديد، وخصوصاً الرئيس بوتين، الذي سيضع الرئيس إردوغان أمام واقع جديد لن يستطيع أن يتحرك فيه بهوامش كبيرة، فهو يستطيع إنقاذ الاقتصاد التركي، من خلال الانضمام إلى منظمة “بريكس” وتفعيل التبادل التجاري بين البلدين بالعملات الوطنية، بما يخفف الضغوط الكبيرة على الليرة التركية، بوقف استمرار استنزاف العملات الصعبة لشراء حوامل الطاقة بشكل أساسي، إضافة إلى بقاء تركيا عقدة أساسية لمرور الغاز الروسي إلى جنوب أوروبا ووسطها.
من هنا، يأتي الاختبار الأساسي للرئيس إردوغان في سوريا، التي تُعتبر الامتحان الأكبر له في حقيقة تموضعه النهائي وانتهاء هامش المناورة لديه، ما يتطلّب منه التعاطي مع روسيا وإيران في سوريا بواقعية، والتخلي عن الأوراق التي يمتلكها، وأولها التنظيمات الجهادية السورية والأجنبية في إدلب وبقية المناطق الشمالية.
هذا الأمر لا يمكن أن يتم إلا بإعطاء مؤشر أولي بالانسحاب إلى شمال طريق “M4″، تنفيذاً لاتفاق 5 آذار/مارس 2020 بين الرئيسين، والذهاب نحو العودة إلى اتفاق أضنة 1999 بين سوريا وتركيا، في مقابل إزالة هواجس الأمن القومي التركي في الشمال السوري، والاعتراف الرسمي بالواقع السياسي في سوريا، والعودة إلى العلاقة مع دمشق ضمن رؤية إقليمية مختلفة لا وجود فيها للولايات المتحدة الأميركية.
لا شكّ في أنَّ تغيير الموقف التركي تجاه سوريا يُعتبر أمراً شديد التعقيد والصعوبة، لكونه يحمل معنى الهزيمة. من الصعب أن يقبل الرئيس إردوغان بهذا الأمر، لاختلاف أولوياته الداخلية والخارجية، ولن يكون أمامه سوى متابعة المناورة، مع المزيد من الخسائر الداخلية والخارجية التي ستدفع إلى إطاحته في الانتخابات الرئاسية القادمة، وربما استعادة مصير رئيس الوزراء السابق عدنان مندريس. وتبقى سوريا بحالة الانتظار ريثما تتفكّك كامل الأحجية في غرب آسيا وعلى المستوى العالمي.
المصدر: الميادين