الوجه الآخر للألعاب الأولمبية الفرنسية
العين برس/ مقالات
سارة عليان
في حدث يصنّفه البعض تاريخيًا، انطلقت نهار الجمعة المنصرم فعاليات الألعاب الأولمبية لهذا العام في العاصمة الفرنسية باريس. وقد شهدت الأيام التي سبقت الاحتفال موجات من الحملات الترويجية الضخمة بهدف لفت أنظار العالم إلى “الإبداع” الفرنسي والتفرّد التنظيمي غير المسبوق. الاحتفال الذي حضره ما يقارب الـ 520 ألف متفرّج، اختزن في تفاصيله مشاهد لا تليق بحضارة “الإتيكيت” الفرنسية، ولا بشعارات الحريات الشخصية والدينية والديمقراطية التي أمطرت فرنسا العالم بها، ولا حتّى بالقيم الإنسانية والأخلاقية التي لم ينجح غوستاف لوبون، المؤرخ والطبيب الفرنسي الكبير، عبر كتاباته، بحقن المجتمع الفرنسي بها.
إن انشغال الوسائل الإعلامية العالمية، والعربية ضمنًا، بهذا الحدث “التاريخي” لا يمكن أن يغطّي حقيقةً واقعية واضحة، تخالف تمامًا الصورة “الحضارية” التي نسجتها فرنسا عن نفسها ومجتمعها على امتداد عقود من الزمن. وبأي حال فإن هذا التناقض الصارخ الذي أظهرته الفعاليات الاحتفالية الأخيرة، لم يكن الأول ولن يكون الأخير.
أوجه التناقض والتدني الأخلاقي في الفعاليات الأولمبية الحالية تعدّدت وتشعّبت، بدايتها كانت مع مظاهر الرقص والهرج والعروض الغنائية والموسيقية التي كانت بمعظمها مقزّزة، والتي تحمل دلالة واضحة على الانفتاح الثقافي بالمفهوم “الغربي” حصرًا، بعيدًا عن القيم الأخلاقية للشعوب الأخرى وتجاهلًا لها، ولعلّ الترويج لأفكار كـ”الشذوذ” مثلًا كانت ظاهرة وبشكل علني فيها.
حوادث التجسس والسرقة الرفيعة المستوى كانت حاضرة أيضًا في كواليس الفعاليات، حيث أفيد عن تعرض لاعب المنتخب الأرجنتيني الأولمبي، تياغو ألمادا، لعملية سرقة حين اقتحم اللصوص مكان تدريب المنتخب، وسطوا على ساعة ومجوهرات وفق ما كشفه مدرب “البيسيلستي”، الأرجنتيني خافيير ماسكيرانو. إلى جانب حوادث السرقة، أشارت تقارير عدة إلى وقوع فضيحة تجسس تورط فيها منتخب كندا للكرة النسائية، بعد قيامه بإرسال طائرة مسيّرة لالتقاط صور لتدريبات المنتخب النيوزيلندي.
وقبل الانتقال لما هو أكثر شناعة، ولنزيدكم من الشعر بيتًا، لا بد من التنويه إلى أن تجار المخدرات في باريس استكملوا، هم أيضًا، استعداداتهم لاستقبال الحشود المرتقبة لحضور فعاليات الألعاب الأولمبية، وفق تقرير أعدته وكالة فرانس برس، وذكر التقرير أن “تجار المخدرات وعدوا بتوفير كميات كافية من موادهم”، لكنّهم نبهوا المهتمين إلى أن الأسعار قد ترتفع وأن فترة انتظار التسليم قد تكون طويلة في ظل طلب كثيف ومراقبة أمنية يتولاها عشرات الآلاف من عناصر الشرطة.
الحوادث المخزية امتدت على نحو أكثر سفاهة ووصلت لحد التمييز العنصري والديني، حيث مُنعت العداءة الفرنسية المسلمة سونكامبا سيلا من ارتداء حجابها في حفل افتتاح أولمبياد باريس التزامًا بالقوانين العلمانية في البلاد، ونشرت سيلا على حسابها في “انستغرام” رسالةً من السلطات موجهة إليها جاء فيها: “لقد تم اختيارك للمشاركة في دورة الألعاب الأولمبية التي تنظم في بلدك، لكن لا يمكنك المشاركة في حفل الافتتاح لأنك ترتدين وشاحا على رأسك”. هذه الرسالة تعكس بالطبع سلوك السلطات الفرنسية العنصري، وبأي حال، فهذا الأمر ليس بجديد على الحكومة الفرنسية التي تحمل تاريخًا حافلًا من التمييز العنصري ضدّ المسلمين.
إهانة وعنصرية العلمانية الفرنسية لم تقتصر على الدين الإسلامي وحسب، بل انسحبت، وبصورة بشعة وقذرة جدًا، على الدين المسيحيى وتحديدًا السيد المسيح(ع)، حيث وثّقت كاميرات البث المباشر طاولة يجلس عليها راقصون بعضهم يمثّل فئة الشاذين، وفي الوسط امرأة ترتدي تاجًا على رأسها، ليتبيّن أن العرض كان “إعادة إنشاء لجدارية ليوناردو دافنشي التي تصور السيد يسوع المسيح ورسله الاثني عشر خلال العشاء السريّ،” كما ذكر أحد التقارير. وقد اعتبر العديد من الأساقفة المسيحيين وغيرهم من أتباع الدين المسيحيى أن هذا العرض الساخر جدًا يمس بكرامة المسيحيين في العالم، وفي هذا السياق كتب المؤلف مات والش: “تبدأ الألعاب الأولمبية بالسخرية الشيطانية من الإيمان المسيحي”.
المشاهد المذكورة أعلاه تدل مجتمعةً على أن محاولات فرنسا حكومة ومجتمعًا تزييف الصورة الحقيقية لها لم تنجح، وهي وإن حشدت أكثرية دول العالم في حدثها “التاريخي” إلا أن ذلك لا يعني أبدًا أنها تكنّ أي احترام لقيم شعوب هذه الدول وثقافاتها. وهنا تتّجه البوصلة نحو بلاد الشرق التي تمتلئ بأصدقائها الهائمين بها والمدافعين عن سياساتها، على رأسهم بالطبع القوى السياسية اللبنانية التي تصنّف نفسها في خانة “المتحضرين”، الذين صمتوا عن الإهانة الفرنسية لأكثر من ملياري مسيحيى في العالم.
المصدر: موقع العهد