يبدو ان غزة لم تفضح فقط الانظمة والجهات والشخصيات والفضائيات والصحف ووسائل الاعلام ، التي كانت قبل الان تدعي الوطنية والانسانية والحياد والموضوعية، بل فضحت ايضا الحضارة والثقافة والشعارات الطنانة التي كان يرفعها الغرب ومنها حقوق الانسان والديمقراطية وحرية التعبير.
غزة، اصابت “قيم الحضارة الغربية” في مقتل، بعد ان عرّتها وكشفت زيفها، فالعالم كله شاهد كيف تعاملت قوات الامن والشرطة في الغرب، مع ما يمكن ان نسميه بـ”ثورة الجامعات”، والاحتجاجات والتجمعات والندوات، التي شهدها الغرب دعما لغزة، واحتجاجا للابادة الجماعية التي ينفذها الكيان الاسرائيلي بدعم غربي اعمى.
في امريكا، راى العالم، كيف تعاملت قوات الامن والشرطة، بشكل امني وعنيف مع الاحتجاج السلمي الذي قادته جامعات النخبة مثل هارفارد وكولومبيا وييل ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا، حيث تم الاعتداء على الاساتذة والطلاب بشكل بشع، واعتقالهم بعد ان طروحهم ارضا وقيدوهم، بذريعة “معاداتهم للسامية”، رغم ان الدستور الامريكي يمنحهم الحق المطلق بحرية التعبير وحرية التجمع السلمي.
اما في اوروبا، فلم يكن حال المحتجين بافضل من حال نظرائهم الامريكيين، فقد تم قمع الأصوات المؤيدة للقضية الفلسطينية، وملاحقة مفكرين ونشطاء، حاولوا تنظيم احتجاجات ضد المجازر في غزة، في العديد من الدول مثل فرنسا والنمسا والمانيا و..، ففي هولندا وحدها تم اتخاذ اجراءات قمعية ضد اكثر من 300 فعالية احتجاجية، تراوحت بين إجراءات قضائية ومضايقات وإلغاء فعاليات، بذريعة ” معاداة السامية”.
هذا التعامل الغربي مع “مقولة حرية التعبير”، التي تفقد كل معناها عندما يتعلق الامر بإنتقاد “اسرائيل” ودعم ضحاياها في غزة، أثار بعض الاسئلة في الوجدان العام الغربي، حول مصداقية هذه المقولة، وهل هي حقا “مقدسة وثابتة”، ام انها “وسيلة تستخدم لغايات محددة”؟.
الحضارة الغربية، التي تتبجح على باقي الحضارات، بانها تدافع عن حقوق الحيوان وكذلك عن حقوق الشاذين ، وتسن القوانين التي تتعارض مع الطبيعة الانسانية، بل حتى تدافع عن حقوق الشاذين الذين يقيمون علاقات مع الحيوانات، ويعتبرون هذا الشذوذ، هو ممارسة طبيعة فرضتها جينات في داخل هؤلاء الاشخاص ، بل ووصلت الامور حدا في الغرب، انه لم يعد هناك اي مبرر لان نطلق على الوليد بانه ذكر او انثى ، حين الولادة، لانه هو الذي يجب ان يحدد في المستقبل جنسه، . هذا الغرب نراه يصاب بالشلل الرباعي والعمى والخرس والطرش، ازاء كل من يحاول استخدام “حقوقه وحرية التعبير” لدعوة حكومته بالكف عن تقديم الدعم العسكري لعصابة نتنياهو في الكيان الاسرائيلي، لمنعها من مواصلة الابادة الجماعية في غزة. لانه عندها سيواجه بتهمة “معاداة السامية”، وسيكون السجن والاعتقال والطرد والضرب والاهانة والتسقيط، نصيبه.
الانسان الغربي بامكانه ان يعلن إلحاده، ويكفر بجميع الاديان، بل ليس هذا فحسب، بل بامكانه ان يسخر من الاديان والانبياء والكتب السماوية، ويستهزىء ويهين المعتقدات الدينية لمليار او ملياري انسان، بطريقة سوقية مقززة ومستهترة، لانه ببساطة يتمتع بـ”حرية التعبير”، ولكن هذه “الحرية” تفقد كل “قدسيتها” و “سحرها” ، عندما ينتقد مفكر ما وبشكل علمي واكاديمي رصين، الدعم الاعمى الغربي للكيان الاسرائيلي، وهو دعم يقدم مصلحة الكيان الغاصب على مصالح الدول الغربية، او عندما ينتقد الممارسات العنصرية والارهابية للكيان الاسرائيلي، فإنه عندها سيفتح على نفسه ابواب جهنم، لانه سيُتهم حينها بـ”معاداة السامية”، التي يتبخر امامها كل شعارات الحضارات الغربية وفي مقدمتها “حقوق الانسان وحرية التعبير”، فلا حرية ولا تعبير، في الغرب، لكل من ينتقد “اسرائيل” !!.
اللافت في هذا الامر ان مظلومية غزة، افقدت تهمة “معاداة السامية” ،”سحرها وتأثيرها”، لكتم الأصوات المنتقدة للارهاب الاسرائيلي، لا سيما أن بعض المنتقدين لهذا الارهاب هم من اليهود، وان الطلاب والاساتذة والنخب العلمية في الجامعات الامريكية والغربية، صدموا، بالذريعة التي استخدمتها قوات الشرطة والحرس الوطني، لقمعهم، وهي ذريعة “معاداة السامية”، فهؤلاء النخب والطلبة، لم يدر في خلدهم حتى للحظة واحدة، ان احتجاجاتهم، هي موجهة ضد الديانة اليهودية، او اي ديانة اخرى، بل هي ضد جرائم يرتكبها كيان عنصري يتسلح بالصهيونية السياسية، وهي بعيدة كل البعد عن تعاليم الديانة اليهودية.
لذلك وعندما اتهم المأزوم نتنياهو، “ثورة الجامعات” الامريكية ضد ارهابه وارهاب رفيقه في الاجرام بايدن، بانها “معادية للسامية”، رد السيناتور الديمقراطي بيرني ساندرز، عليه قائلا: “لا يا سيد نتنياهو، ليس من قبيل معاداة السامية أو تأييد حماس أن نشير إلى أنه في غضون ما يزيد قليلا على 6 أشهر قتلت حكومتكم المتطرفة 34 ألف فلسطيني، وجرحت أكثر من 77 ألفا آخرين، منهم 70% من النساء والأطفال، لن تصرفوا انتباهنا عن هذه الحرب غير الأخلاقية”.
بعد غزة، لم تعد شعارات مثل “حق إسرائيل في الوجود”، و”ضرب الإرهابيين”، و”معاداة السامية”، هي الطاغية والمسيطرة على المشهد الأميركي، وباتت تزاحمها الآن شعارات مثل “الأبارتايد”، و”الإبادة الجماعية”، و”التطهير العرقي”، خاصة بين أوساط الشباب الأميركي.
أحمد محمد