هناك يومان للاحتفاء بالقدس؛ يوم يحتفي به الصهاينة للتذكير بيوم اغتصابها، ويوم يحتفي به الأحرار للتذكير بأحقية استعادتها وتحريرها وتحرير كافة الأراضي المغتصبة. وبينما شكل اليوم الصهيوني ذروة أوهام الصهاينة والاستعمار في سقوط الحقوق العربية والإسلامية، شكل يوم القدس العالمي الذي دشنته الثورة الاسلامية ويحتفي به الأحرار كل عام، ذروة الأمل ووقود المقاومة والصمود وتدشين المسار الاستراتيجي التصاعدي للتحرير.
وكي ندرك الفارق بين اليومين وكيف شكل يوم القدس العالمي تدشينًا لمسار استراتيجي متعاظم، ينبغي قراءة السياقات الحاكمة والمحطات التي أوصلتنا لطوفان الاقصى وهذه المرحلة المفصلية في الصراع الوجودي مع الصهاينة والاستعمار.
أولًا – يوم القدس الصهيوني:
يقول معجم الكنيست الصهيوني عن يوم القدس الذي يحتفي به الصهاينة، أنه بعد انتصار جيش الحرب الإسرائيلي في حرب الأيام الستة، وفي يوم الثلاثاء الموافق 27 حزيران / يونيو 1967، صادقت الكنيست على ثلاثة اقتراحات قوانين قدمتها الحكومة. وأقرت القوانين التي صادقت عليها “الكنيست” عمليًا توحيد القدس ومنح “شرعية للقانون الإسرائيلي” في كل مسطح المدينة الموحدة، وغيرت الحدود البلدية لمدينة القدس، وتضاعفت مساحة المدينة الموحدة ثلاث مرات من 38100 دونم إلى 110000 دونم. ومنح الكيان سكان شرق القدس مكانة مقيمين دائمين وسمحت لهم بالتصويت في الانتخابات البلدية ولكن ليس لانتخابات “الكنيست”.
وفي قرار الحكومة من 12 أيار / مايو 1968 تقرر يوم 28 أيار حسب “التقويم العبري” كيوم عيد للقدس، والذي يمثل العلاقة التاريخية الخاصة بين “الشعب اليهودي” ومدينة القدس.
وفي سنة 1980 بعد انقضاء 13 سنة على توحيد القدس، سنّ “الكنيست” قانون أساس: القدس عاصمة “إسرائيل”، والذي أقر أن القدس هي عاصمة “دولة إسرائيل” ومقر مؤسسات الحكم.
وفي 23 آذار/مارس 1998 صادق “الكنيست” على قانون يوم القدس لسنة 1998 والذي أقر يوم 28 أيار حسب “التقويم العبري”، اليوم الذي “حررت” فيه مدينة القدس بعد حرب الأيام الستة، كيوم وطني.
وبقراءة سريعة لهذا التناول الصهيوني للقدس والاحتفاء بيوم اغتصابها كيوم وطني نجد أننا أمام دلالات متعددة أهمها:
1- تشكل القدس درة تاج المشروع الصهيوني وعموده الفقري لأنها تخدم الذريعة الدينية لاحتلال فلسطين وبالتالي جعل احتلالها يومًا وطنيًّا هو بمثابة إقرار بأن المشروع الصهيوني لا يعني شيئًا دون القدس، وأن القدس هي المشروع الصهيوني والدولة المزعومة بدلالة اختيارها كعاصمة من جانب الصهاينة.
2- هذه الخطوة التي تجرأ الصهاينة على اتخاذها تزامنت مع قراءة صهيونية بأن المقاومة العربية قد انتهت بعد النكسة في العام 1967، وأن المنطقة أصبحت خالية ومهيأة لتنفيذ الحلم الصهيوني بالعلو والتمدد، وأن اغتصاب الكيان للقدس سيفرغ القضية الفلسطينية من مضمونها باعتبار مكانة القدس المركزية في القضية، وأن ذلك سيزرع اليأس في قلوب العرب والمسلمين وسيتيح للصهاينة ابتلاع القضية باعتبار أنه بسقوط اكبر بقعة مقدسة في الأراضي الفلسطينية، ستسقط معها بقية الاراضي والتي لا تتمتع بهذه القدسية.
3- رغم أن اجراءات الضم والابتلاع لأراضي القدس تعاظمت بعد النكسة، إلا أن القانون الرئيسي بإعلانها عاصمة للكيان لم يصدر إلا بعد اتفاقيات كامب ديفيد والاطمئنان لخروج مصر الرسمية من الصراع.
4- تمت المصادقة على قانون “الكنيست” واعتبار يوم اغتصاب القدس يومًا وطنيًّا في أواخر التسعينيات بعد اتفاقات أوسلو وما تبعها وما بدا أنه اطمئنان صهيوني لغياب المشروع الفلسطيني المقاوم، ورغم أن منظمة التحرير اعترفت بالكيان ولم تعترف باغتصابه للقدس، إلا أن إشارة غياب المقاومة كانت كفيلة باطمئنان الكيان والتبجح باغتصابه العلني واعتباره يومًا وطنيًا!
ثانيًا – يوم القدس العالمي:
اقترح يوم القدس العالمي من قبل الإمام الخميني قدس سره الشريف، في آب/أغسطس من العام 1979، بعد شهور قليلة من انتصار الثورة الإسلامية، والتي أعلنت منذ أيامها الأولى احتضان القضية الفلسطينية وعدم اعترافها بالكيان الصهيوني ومحاربة الاستعمار والاستكبار العالمي.
وفي دعوة الإمام الخميني بتدشين هذا اليوم كلمات لافتة تؤشر على البعد الاستراتيجي لهذه الخطوة حيث جاء في الدعوة نصًا: “وإنني أدعو المسلمين في جميع أنحاء العالم لتكريس يوم الجمعة الأخيرة من هذا الشهر الفضيل من شهر رمضان المبارك ليكون يوم القدس، وإعلان التضامن الدولي من المسلمين في دعم الحقوق المشروعة للشعب المسلم في فلسطين. لسنوات عديدة، قمت بتحذير المسلمين من الخطر الذي تشكله “إسرائيل” الغاصبة والتي تكثف اليوم هجماتها الوحشية ضد الإخوة والأخوات الفلسطينيين، والتي هي، في جنوب لبنان على وجه الخصوص، مستمرة في قصف منازل الفلسطينيين على أمل سحق النضال الفلسطيني. وأطلب من جميع المسلمين في العالم والحكومات الإسلامية العمل معًا لقطع يد هذه الغاصبة ومؤيديها. وإنني أدعو جميع المسلمين في العالم لتحديد واختيار يوم القدس العالمي في الجمعة الأخيرة في شهر رمضان الكريم – الذي هو في حد ذاته فترة محددة يمكن أيضاً أن يكون العامل المحدد لمصير الشعب الفلسطيني – وخلال حفل يدل على تضامن المسلمين في جميع أنحاء العالم، تعلن تأييدها للحقوق المشروعة للشعب المسلم. أسأل الله العلي القدير أن ينصر المسلمين على الكافرين”.
وهنا يأتي تدشين المسار الاستراتيجي الصاعد للتحرير عبر قراءة هذه الدلالات:
1- دخول قوة اقليمية كبيرة مثل الجمهورية الاسلامية الى الصراع مع العدو الاسرائيلي وراعيه الأمريكي عوضًا عن غياب قوة اقليمية كبيرة مثل مصر، وبالتالي افساد شعور الكيان بالغطرسة والاطمئنان الى غياب القوى الكبرى في مواجهته.
2- إعادة التذكير بالقضية الفلسطينية ومركزيتها في العالم العربي والإسلامي وبحضورها وبحضور القدس كعنوان لها، وهو استهداف مباشر للعمود الفقري للمشروع الصهيوني.
3- الإشارة الى المقاومة والنضال الفلسطيني باعتبارها هي التي تحفظ القضية، حيث وصفت كلمات دعوة الامام الخميني (قدس سره) طبيعة التحركات الصهيونية بأنها سحق للنضال، وشكلت دعوة الامام لقطع اليد الصهيونية الغاصبة دعوة مباشرة للمقاومة.
ومن بركات هذه الدعوة ليوم القدس العالمي، انتشرت خلال السنوات الأخيرة هذه المناسبة بين المسلمين والبلدان غير الإسلامية حتى في الولايات المتحدة، ولم تعد المشاركة قاصرة على العرب أو المسلمين، ولكن البعض من غير المسلمين أيضًا يشاركون فيها بما في ذلك اليهود الأرثوذكس المعادون للصهيونية مثل حركة “ناطوري كارتا”.
ومنذ الدعوة لهذا اليوم، شكلت الجمهورية الاسلامية ظهيرًا وسندًا لكل حركات المقاومة، وفور انتهاء الحرب التي استنزف الغرب بها الجمهورية الصاعدة مع نظام صدام حسين، شكلت الجمهورية فيلق القدس والذي قام بأدوار كبرى دعمت حركات المقاومة.
وتعاظمت قوى المقاومة الفلسطينية بدعم مباشر من إيران وباحتضان من سوريا وصولًا إلى طوفان الأقصى الذي شكل تهديدًا وجوديًا للكيان.
وسيتم إحياء يوم القدس العالمي هذا العام تحت شعار “من طوفان الأقصى إلى طوفان الأحرار”، وهو شعار استراتيجي يؤكد المسار الاستراتيجي الذي دشنه يوم القدس العالمي، حيث يفتح الدعوة لجميع الأحرار بالمشاركة بالصراع لأنه صراع بين معسكر الظلام والاستعمار والقتل والاستعباد ومعسكر الاحرار وهو إضفاء للصفة الحقيقية للصراع والذي يتجاوز حدود فلسطين المحتلة ليصبح صراعًا كونيًّا بين الحق والباطل.
من بركات هذا اليوم تشكلت المقاومة في غزة والضفة، وتشكلت وحدة الساحات التي تساند غزة وتحاصر العدو وتقف صامدة في هذه الحرب المفصلية الوجودية.
العهد الاخباري: إيهاب شوقي