ازدواجية المعايير في المحكمة الجنائية الدولية.. أيُّ عدالةِ تُنتظر ؟
العين برس/ تقرير
الوقت- أكثر من ثلاث أشهر من العدوان الاسرائيلي البربري على غزة كان كفيلاً بأن يكشف ازدواجية المعايير لدى الغرب ومؤسساته و على رأسها المحكمة الجنائية الدولية إلى جانب مئات جرائم الحرب التي ارتكبت دون حسيب أو محاسبة في كثير من بقاع العالم حتى من الدول الكبرى التي تتغنى بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في العراق وأفغانستان وغيرها الكثير، وإضافة إلى حمايتها لـ”إسرائيل” في جرائمها التي ترتكبها كل يوم في فلسطين من قتل واحتلال واستيطان احتلالي على الأرض المحتلة وما يجري في غزة من حرب إبادة جماعية، كل ذلك يضع علامات استفهام على دور هذه المحكمة التي ما زالت تماطل حتى في النظر إلى الجرائم الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني، الجرائم التي يمكن أن ينظر فيها خلال هذا الجيل أو الجيل القادم بينما تستمر الجرائم ويفلت المجرمون من الحساب والعقاب.
وفي الوقت ذاته نرى هذه المحكمة تمارس صلاحيتها بكل سرعة عندما يكون ذلك في مصلحة بعض الدول كما حصل مع الرئيس الروسي بوتين وإصدارها أمر اعتقال بحقه خلال عام واحد فقط، ازدواجية معايير المحكمة الجنائية الدولية الواضحة في هذه القضية كشعاع الشمس فجريمة الحرب هي جريمة ضد الإنسانية أينما كانت في هذا العالم سواء أكانت في أوكرانيا أم في العراق أم في فلسطين يجب أن يحاسب عليها من يرتكبها بينما لم يصدر أي مذكرة توقيف بحق رؤساء الوزراء في كيان الاحتلال وغيرهم من المسؤولين الإسرائيليين سياسيين كانوا أم عسكريين، الذين تلطخت أياديهم بدماء أطفال الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال منذ أكثر من سبعين عاما.
المحكمة الجنائية الدولية وطبيعة عملها
اعتُمد “نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية” يوم 17 يوليو/تموز 1998 بالعاصمة الإيطالية روما، ليتوج جهودا استمرت طويلا بهدف إقامة كيان دولي مستمر يتولى مهمة المحاسبة على ما تشهده الحروب والنزاعات المختلفة من انتهاكات واضحة للحقوق الأساسية التي كفلها القانون الدولي للإنسان، وقامت المحكمة الجنائية الدولية التي هي أكبر مؤسسة قضائية دولية والتي أنشئت لتكون مدافعة عن الحق والحقيقة وحقوق الإنسان والحريات لتحاسب المجرمين ممن ارتكبوا جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والتي هي مفترض أن تكون مستقلة وصاحبة اختصاص وبعيدة كل البعد عن السياسة وعن تسييس عملها لا دمية بيد الغرب.
فيما تحولت المحكمة الجنائية الدولية لآلة ضغط بيد دول الغرب، وفي طليعتها الولايات المتحدة، تستخدمها للضعط على الخصوم السياسيين، وما قامت به هذه المحكمة من إصدار “مذكّرة اعتقال” بحقّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على نحوٍ يؤّكد ويكرّس في الوقت نفسه سياسة المعايير المزدوجة التي باتت سمة واضحة في القانون الدولي المعاصر.
التعامل مع القضية الفلسطينية
بينما ترزح غزّة تحت نير العدوان الإسرائيلي المستعر وسط خذلان العرب والعالم، يكاد القانون الدولي والإنساني يئنّ تحت وطأة الخذلان المستمر من المنظمات الدولية المعنية بحمايته وتطبيق مبادئه، وعلى رأسها المحكمة الجنائية الدولية، التي تعطي حتى الآن مثالًا فاضحًا لازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا الإنسانية الداخلة في اختصاصها الأصيل، لناحية التحقيق والفصل في القضايا المتعلّقة بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.
فعلى الرغم من الاعترافات العلنية من زعماء “إسرائيل” السياسيين والعسكريين، من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى وزير الأمن القومي إيتمار بنغفير، بالنية الأكيدة لجعل غزّة غير قابلة للحياة، وعلى الرغم من مشاهد المجازر والتدمير الممنهج والتهجير القسري للمدنيين واستهداف المستشفيات والأطفال والنساء على مرأى من العالم بأسره، زار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان “إسرائيل” مؤخرًا – أثناء زيارته للأراضي الفلسطينية المحتلة – والتقى بعدد من أهالي الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين، ووصفهم بـ”الناجين من أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول”، متماهيًا مع الخطاب الرسمي الصهيوني الذي يحاول تشبيه “طوفان الأقصى” بـ”الهولوكوست”.
كريم خان تناسى أنّ تصريحات نتنياهو وقيادات جيشه وحكومته تندرج حرفيًا تحت التعريفات المذكورة نصًا لجرائم الإبادة الجماعية والعدوان والجرائم ضد الإنسانية في نظام روما الأساسي للمحكمة الذي دخل حيّز التنفيذ عام 2002 ولم تنضم إليه “إسرائيل” حتى الآن، ومن ضمن تعريفات تلك الجرائم التي يُفترض أن تختص المحكمة الجنائية بمحاكمة المسؤولين عنها: قتل أفراد جماعة محددة وإلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بهم، وإخضاع الجماعة عمدًا لأحوال معيشية يُقصد بها إهلاكها الفعلي كليًا أو جزئيًا، والقتل العمد، والإبادة، وإبعاد السكان ونقلهم قسرًا، والاضطهاد لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو دينية، والأفعال اللاإنسانية التي تتسبّب عمدًا في معاناة شديدة أو أذى خطير، والانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف، وإلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات أو الاستيلاء عليها دون أن تكون هناك ضرورة عسكرية تبرّر ذلك، وتعمّد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين.. وغيرها مما لا يتسع المقام لذكره.
التعامل مع قضايا العالم
إذا كانت جرائم الحرب وفقاً لأحكام القانون الدولي تشمل على سبيل المثال استهداف المدنيين، وكذلك الهجمات التي تطال المشافي، والمراكز الطبية، والمعالم التاريخية والأثرية، وغير ذلك من المواقع المدنية، فضلاً عن قصف المدن والقرى والمساكن ما لا يشكّل أهدافاً عسكرية، فإنه يحقّ لنا التساؤل عن تقاعس المحكمة الجنائية الدولية عن إصدار مذكّرات مماثلة بحق قادة من دول الغرب إزاء أحداث وقعت بعد نشوء هذه المحكمة بتاريخ 1/ 7/ 2002، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر غزو العراق من قبل الولايات المتحدة بذريعة البحث عن أسلحة دمار شامل، وهي كذبة ما لبثت أن انكشفت وانكشفت معها المقاصد الخفية للولايات المتحدة وبريطانيا الرامية إلى تدمير العراق، هذا ما حدث فعلاً فقد تم تدمير دولة، وملاحقة قادتها وإسقاط دستورها وقتل علمائها وتدمير مدنها وتشريد وقتل الآلاف من سكانها جلّهم من النساء والأطفال والشيوخ.. ومع ذلك لم يفكر أحد في إصدار مذكرات توقيف بحقّ أي من قادة هذا الغزو البربري.
وفي سياق متصل قامت (إسرائيل) بالهجوم على لبنان عام 2006 ما أسهم في نزوح آلاف المدنيين، وما زالت (إسرائيل) تمارس أعمالها العدوانية بقصف مواقع مدنية في سورية ذهب ضحيتها أعداد كبيرة من المدنيين، فأين المحكمة الجنائية من الدولية من ذلك؟
كما عملت الولايات المتحدة ومنذ عام 2011 على انتهاج سياسية عدوانية في سورية، فدعمت العصابات الإرهابية المسلحة، وعلى رأسها تنظيم “داعش” الإرهابي، وقصفت المدن السورية مثل الرقة والميادين بالفوسفور الأبيض المحرم دولياً، وكانت السبب في نزوح مئات الآلاف من السوريين خارج مدنهم وقراهم، ولا تزال الولايات المتحدة تحتل جزءاً من الأراضي السورية بالقوة، وتدعم القوى الإرهابية والانفصالية ومنها تنظيم “قسد” الإرهابي، ولكن لم تلتفت المحكمة الجنائية الدولية إلى أي شيء من ذلك، ولم يخطر ببال قضاتها مجرّد إدانة مثل هذه الأفعال.
كل ذلك يثبت أن قرار المحكمة المكورة بحق الرئيس “بوتين” ليس إلا تسييس لقرارات المحكمة التي تكيل القضايا بمعايير مزدوجة، وربما كان الدافع لإصدار هذا القرار أن الغرب وبعد فشله الذريع في أوكرانيا يريد تحقيق انتصار يحفظ لقادته “ماء الوجه” حتى ولو كان هذا الانتصار شكلياً أو رمزيا.
كريم خان عراب الازدواجية
انتخب كريم خان في حزيران/يونيو 2021 مدعيا عاما ثالثا للمحكمة، وهو يحمل الجنسية البريطانية واشتهر بدفاعه عن مجرمي الحرب من أمثال شارلز تايلور، رئيس ليبيريا الأسبق، والذي حكم عليه من قبل المحكمة بالسجن لمدة 50 سنة.
ظهر الرجل على حقيقته معاديا للقضية عندما دفن رأسه في الرمال، على عكس كل المسؤولين الدوليين، عندما تعلق الأمر بجريمة اغتيال الصحفية الشهيرة، شيرين أبو عاقلة، وهي الجريمة الواضحة المعالم والموثقة بالصوت والصورة، والتي تدخل ضمن اختصاصه، كما ظل صامتا صمت القبور على ما ارتكب من جرائم في مواجهات أيار/مايو 2021.
لكن الرجل خرج عن أطواره وتدخل شخصيا في مسألة التحقيق في الحرب الأوكرانية وبدا كأنه مندوب للرئيس الأمريكي بايدن وليس مدعيا عاما دوليا يقف على مسافة واحدة من كل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية سواء ارتكبت في أفغانستان أو ميانمار أو أوكرانيا أو فلسطين أو العراق أو الكونغو أو ليبيا.
بعد انطلاق الحرب بأسبوع واحد أعلن أنه سيفتح ملفا للتحقيق في الحرب على أوكرانيا، وقام شخصيا بزيارة لبلدة بوتشا يوم 13 نيسان/أبريل بعد انتشار صور وفيديوهات، شككت روسيا في صدقيتها، حول مجازر ومقابر جماعية عثر عليها في البلدة.
فيما جاء تركيز خان على عشرات الأسرى الإسرائيليين وإهماله آلاف الضحايا الفلسطينيين، من بينهم أطفال ونساء ومرضى وشيوخ، يدلّ على أنه يميّز عنصرياً ضد الفلسطينيين من جهة، ويعلن للعالم أن المحكمة التي يعمل فيها أُسّست للدفاع عن الإسرائيليين قبل غيرهم من البشر، ولا عجب في ذلك، فقبل تعيينه مدعياً عامّاً دولياً خلفاً لفاتو بن سودا، كان كريم خان المرشّح «المثالي» بالنسبة إلى «إسرائيل»، كما أعلنت صحيفة «ذا تايمز أوف إسرائيل» (13 شباط 2021)، وها هو يثبت للإسرائيليين أنه مثاليٌّ في تضليل الحقائق، وفي الانحياز لطرف على حساب آخر كما تدلّ تصريحاته مقارنةً بتصريحاتٍ أدلى بها قبل أسابيع إثر زيارته لمعبر رفح، اعتبر فيها أن الحصار ومنع إدخال المساعدات الغذائية والأدوية والطواقم الطبية إلى غزّة «قد يشكّلان تجاوزاً للقانون الدولي الإنساني»، وهو في رفح تحدّث عن احتمالات، أما في الكيبوتس الإسرائيلي، فقد سمح لنفسه بإصدار إدانات استباقاً لنتائج التحقيق.
ودعا خان أثناء زيارته لفلسطين المحتلة إلى «الإفراج الفوري عن الرهائن الإسرائيليين الذين تمكّنت حركة حماس من اختطافهم في 7 تشرين الأول الفائت»، وأضاف: «لا يمكن أن يكون هناك أيّ مبرّر لاحتجاز أي رهائن، ولا سيما الانتهاك الصارخ للمبادئ الأساسية للإنسانية عبر أخذ الأطفال والاستمرار في احتجازهم»، وشدّد على أنه «لا يمكن معاملة الرهائن كدروع بشرية أو أوراق مساومة.
في الطرف المقابل ومن خلال تعليقاته أمام الصحفيين قرب المعبر لم يذكر خان شيئا عن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة واحتلاله منذ عام 1967 وأن الآلاف من الضحايا الفلسطينيين فقدوا حياتهم نتيجة الجرائم المرتكبة بحقهم من قبل سلطات الاحتلال في الحروب السابقة على قطاع غزة بعد عام 2015 حيث أصبحت الولاية القضائية نافذة للمحكمة في فلسطين، لكنه صرح دون تدقيق أو تحقيق رسمي بصحة الفيديوهات والصور المفبركة التي تم تداولها ومصدرها الإعلام الإسرائيلي.
ألا يستدعي توحيد المعايير دعوةَ كريم خان سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى الإفراج الفوريّ عن آلاف المعتقَلين الفلسطينيين في سجون التعذيب الإسرائيلية؟ علماً أنّ من بين المعتقلين الفلسطينيين أطفالاً ونساء وأطباء ومسعفين اعتُقلوا تعسّفياً واحتُجزوا إدارياً لمدد غير محدّدة.
ادّعى خان أنه لم يستطع زيارة قطاع غزّة من دون أن يشرح الأسباب الحقيقية لذلك، هل منعه الجيش الإسرائيلي؟ ألا يستدعي ذلك، في الحد الأدنى، بيان استنكارٍ يصدر عن المحكمة الجنائية الدولية؟ أم إنّ خان لم يُمنع من زيارة غزّة بل فضّل الاستعاضة عن الزيارة بإطلاق تصريحات استعراضية فارغةٍ أمام معبر رفح؟
خلاصة القول إن ما تقوم به المحكمة الجنائية الدولية يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنها أداة طيّعة بيد بعض الدول التي استثمرتها بطريقة سيئة لتحقيق أهداف سياسية بحتة، كما يثبت سياسة المعايير المزدوجة التي ينتهجها المجتمع الدولي في مختلف أنحاء العالم.
المصدر: الوقت التحليلي