“حماس انتصرت ميدانيًا وسياسيًا وتفاوضيًا، وانتصرت على مستوى الرأي العام العالمي، وإنّ الطريقة التي قاتلت بها”إسرائيل” جعلت من حماس أسطورة، وإنّ حماس لم تهزم”إسرائيل” فقط، بل هزمت الغرب برمته، وإنّ حماس استفادت بشكلٍ مذهل من فهمها للعقلية”الإسرائيلية”، وإنّ الأشهر الستة الأخيرة من المعركة سيحكم التاريخ عليها باعتبارها أكثر إنجازات عبقرية ومذهلة، وهو أمرٌ لا يمكن تصوره”. الكاتب الصهيوني “ألون مزراحي”.
هذا منطق نتحدث به يوميًا، ونقوله وزيادة، لكنه يقع ثقيلًا على بني جلدتنا، إذ ترى القوم سكارى من نشوة السخرية، أو صرعى كأعجاز نخلٍ خاوية، من لمعة سيوف الثقة والأمل في نفوس من يصرّ على الثبات، ويفتشون تحت جفنيك عن دموع الهزيمة، وتدور أعينهم بين عضديك لرؤية الراية البيضاء، ويرغبون باقتلاع أظافرك بحثًا عن حبر الاستسلام.
حتى حين يقرؤون مقالة الصهيوني “مزراحي”، والكثير من أشباهه، سيجدون ألف طريقةٍ للقول إنّها مؤامرة، وإنّ الصهاينة يقولون ما يعمينا عن هزائمنا، لنرتع فيها باعتبارها انتصارات.
لست بوارد التماس الأعذار لمن يعتقد ذلك، ولست هنا في محل تصنيف الآخرين ومنطلقاتهم، ولكن أكتفي بالقول مع سكب الكثير من حُسن الظن، إنّ هذه وجهة نظر، ولكن مع هذا الاعتبار لا يحق لك اعتبار الدماء التي سالت على امتداد جبهات الطوفان وجبهات الإسناد منذ السابع من تشرين/أكتوبر هباءً منثورًا، وأنّها في الزمان الخطأ والمكان الخطأ، ولا يحق لك على الإطلاق الحديث باستخفافٍ عن كل تلك الآلام، لمجرد أن تقول شيئًا.
والوقائع مع دخول اتفاق وقف النار حيز التنفيذ، نستطيع الجزم أنّه لا يوجد جهة”إسرائيلية” أو أمريكية أو غربية، تستطيع إعلان الانتصار، رغم أنّ كل تلك الجهات دخلت الحرب بهدف سحق “حماس” والمقاومة، وبهدف استعادة الأسرى عبر الضغط العسكري، وإنهاء حكم “حماس” في غزة، لكن كل تلك الأطراف بعد 467 يومًا كانت تقف في وضعية انتباه في انتظار ردّ “حماس”، وهذا ما جعل الإعلام العبري يتساءل حسرةً”أين وصلنا؟”.
قد يكون ما تحقق من نتائج أقل جزئيًا مما كان في مخيلة بعض منا، وأنّ الرجاءات كانت بأنّ الطوفان آخر المعارك قبل التحرير الكامل، وهذا الرجاء هو ما شكّل الصدمة التي يعاني منها بعض الأنقياء، وهي مسألةٌ آنية لا تلبث أن تزول شيئًا فشيئًا، أو مع أقرب إنجاز ظاهر، تحصّله جبهة المقاومة مجتمعةً أو فرادى.
كما أنّ طبيعة الصراع مع العدو تقتضي الإصرار والصمود واليقين، فالغرب مجتمعًا حارب دون هوادة، وحارب دون اعتبارٍ لقوانين الحرب أو أخلاق الحرب، بل تجاوز كل ادعاءاته السابقة عن العدالة والمساواة وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير، وهذا يعني أنّه أدرك أنّ مشروعه الاستيطانيّ في قلب الوطن العربي أصبح على حافة الانهيار يوم السابع من أكتوبر.
وهذا الإدراك جعله يلقي بكل ثقله العسكري والدبلوماسي والاستخباري والإعلامي في المعركة، وأدار معركته باعتبارها معركة القرن، وتشدق بها نتنياهو باعتبارها معركة تغيير وجه الشرق الأوسط، ولكن ما لم يدركه الغرب، أنّ”الجيش” الذي ضغطوه ليحارب ورفدوه بالمرتزقة وكل أسباب القتل لا القتال، تم إنهاكه وانتهاكه.
ولنا أن نتخيل هذا الجيش سيحارب مثلاً في ظل حصار خانق، ودون جسورٍ جوية وبرية وبحرية، وهنا نقول تخيّل لا افتراض، لأنّه مجرد خيال، ولكن لندرك أنّ الكيان لم يعد قادرًا على البقاء ذاتيًا، وأنّه بالفعل مات يوم بدء الطوفان، ولا يمكن استدارك هذا الموت، إلّا في عقل من يصرّ أنّ الشمس لن تشرق غدًا.
وعلى كل حال، لا يمكن استعجال نتائج هذه الملحمة، وسنحتاج مزيدًا من الوقت لينقشع الغبار وتنجلي الأبخرة، ويدرك الجميع دون مواربة، أنّ الكيان مهما تلقى من الدعم، حتى مع موجة التطبيع المتوقعة لعهد ترمب، فلن يستطيعوا منحه قبلة الحياة.