عندما تنطلق الحكايات من لهيب النضال، يتجلى في الأفق تاريخ طويل من الوجع والأمل. لم يكن “طوفان الأقصى” مجرد عنوان لحملة عسكرية وكفى، بقدر ما يمثل نقطة تحول رئيسية في مسار الصراع مع العدو الإسرائيلي، إذ أعاد التعريف بالقضية الفلسطينية، وأظهر بتفاصيله الحية عمق المعاناة وآمال التحرر.
لطالما كانت أحلام من يسمى برئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، المجرم بنيامين نتنياهو -والتي تعبر عن الصهاينة- قائمة على التغول والاستعلاء، فهيأت الظروف داخل كيان العدو انطباعًا بأنه القادر على كسر إرادة الشعب الفلسطيني من خلال آلة الحرب. مبادرات تلو مبادرات تدعو لوقف العدوان على غزة ورفع الحصار وانسحاب العدو مقابل إطلاق الأسرى الصهاينة لكن طالما كانت تواجه بتعنت قيادة العدو الإسرائيلي.
مؤخرا قبل العدو إيقاف عدوانه ، فما الذي تغير إذاً ؟ للحصول على إجابة شافية عن هذا السؤال، يجب علينا أن نغوص في الأحداث التي جرت خلال الأشهر السبعة الماضية، خصوصاً في الأشهر الثلاثة الأخيرة، وهي فترة العدوان البري الذي أطلقه العدو في شمال غزة مطلع أكتوبر 2024. فبدلاً من أن تُضعف هذه الحملة من عزم المقاومة، حملت معها دروسًا فارقة وسرديات جديدة أكدت على قدرة الفلسطينيين على الدفاع عن حقوقهم، بل واستعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة، لتتحول من فرصة لفرض الأمر الواقع إلى نقطة انطلاق جديدة نحو حرية وكرامة مستدامتين.
الأعداد على الواقع هي الأكثر
المعطيات الميدانية أظهرت عكس ما أراده الكيان، فقد صمدت المقاومة وكبّدت العدو الإسرائيلي آلاف القتلى والجرحى، بحسب اعترافات العدو الإسرائيلي، وجلّ القتلى والجرحى كانوا من قوات بما يسمى بـ”النخبة في لوائَي ناحال وجفعاتي” وبرتب عسكرية عالية، وحسب ما كشفته صحيفة «إسرائيل اليوم» العبرية، فإن 80% من قادة ما يطلق عليه “لواء جفعاتي” قتلوا أو جرحوا في العدوان على قطاع غزة.
وبذلك يصل عدد من تمكنت المقاومة من قتلهم من “جيش” العدو الإسرائيلي منذ بداية الحملة البرية في نهاية أكتوبر 2023 إلى أكثر من 400 قتيل. وهذا عدد كبير بالنسبة إلى المعايير الإسرائيلية وحساسية من يطلق عليهم بـ«المجتمع الإسرائيلي» تجاه القتلى العسكريين، مع الإشارة إلى أن الأعداد على الواقع هي أكثر بكثير مما يـُعلِن عنه إعلام العدو الإسرائيلي بسبب الرقابة. فضلا عما بات يعاني منه “جيش” العدو الصهيوني من نقص في المدرعات والدبابات بسبب الخسائر في غزة ولبنان وحالة الحرب في القطاع والاستنفار في الجبهة الشمالية.
على الجانب الآخر، نجد أن كتائب القسام وباقي فصائل المقاومة في غزة، قد أثبتوا قدرة فائقة على إعادة الترميم وبناء الخلايا والعقد العسكرية عبر عمليات التجنيد المستمرة والمتزايدة للمقاتلين، واستخدام تكتيكات عسكرية عجزت استخبارات كيان العدو عن التنبؤ بها أو التغلّب عليها منها: تفخيخ مئات المنازل، ووضع عشرات الكاميرات لرصد الأهداف والانتقاء بينها وفقاً لأهمية الهدف، وعمليات الكر والفر في جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا، واستخدام الأنفاق، والوصول إلى مواقع تمركز القوات الإسرائيلية.
بالإضافة إلى قدرة المقاومة على إعادة التدوير واستخدام مخلفات الذخائر الإسرائيلية التي لم تنفجر، وقد ظهر ذلك عبر «العبوات البرميلية» الشديدة الانفجار؛ والتي أدت إلى تفجير دبابات ومبانٍ تحصّنت فيها قوات العدو وسقوط عدد كبير من القتلى. كما تجري المقاومة عمليات مناوبة واستبدال لدى خلاياها المقاتلة في الصفوف الأمامية، ما يعطيها القدرة على الاستمرار في حرب استنزاف طويلة مع الاحتلال. ناهيك عن نجاح المقاومة في التدبير وتنفيذ عمليات استدراج الجنود الصهاينة للكمائن المعدة مسبقاً.
ولا ننسى الإشارة إلى حالة الإنهاك العسكري التي وصل إليها “جيش” العدو الإسرائيلي، والذي بات يحتاج إلى تجنيد أكثر من 12 ألف إسرائيلي لسد النقص في الموارد البشرية الإسرائيلية، في ظل فشل تجنيد “الحريديم”، وخصوصاً مع عزوف المئات من “قوات الاحتياط” عن إعادة الالتحاق بوحداتهم، بسبب حالة الإحباط وعدم وضوح الرؤية الاستراتيجية للحرب وجدواها وطول مدتها مع عدم تحديد وقت انتهائها.
أشبه بالحرب الأمريكية في فيتنام
ووفقاً لمعطيات العدو، فقد نقلت القناة 13 العبرية عن مسؤولين كبار في “جيش” العدو، قولهم إن «العملية البرية استنفدت نفسها. في غياب صفقة، سنعود إلى الأماكن نفسها». وأكدت القناة أن القادة أوضحوا أن العودة إلى المواقع التي سبق أن عملت فيها القوات في القطاع ستكلف أثماناً باهظة، وستؤدي إلى سقوط المزيد من الجنود. مشيرة إلى تنبيه نقلته عن الجنرال الإسرائيلي في الاحتياط، يسرائيل زيف، إلى أن “الحرب على غزة قد تحولت إلى أشبه بالحرب الأميركية في فيتنام”.
وأضافت القناة أن “جيش” الاحتلال يعاني نقصاً في المدرعات والدبابات بسبب الخسائر في غزة ولبنان، وحالة الحرب في القطاع والاستنفار في الجبهة الشمالية مع لبنان، وهناك عجز لدى “جيش” الكيان في إمداد قواته العاملة في الضفة الغربية بالدبابات، كما يعاني العدو من صعوبة الحصول على الأسلحة والذخائر (بسبب حظر بيع الأسلحة لإسرائيل)، لتعويض ما تم استهلاكه في حربه على جبهات عدة. وفي هذا الإطار، وقّعت ما تسمى وزارة الأمن في 6/1/2025، على صفقتين كبيرتين مع شركة «ألبيت» للصناعات العسكرية الإسرائيلية، لإنتاج آلاف الذخائر الجوية الثقيلة وإنشاء مصنع إسرائيلي للمواد الخام.
على صعيد ردود فعل شارع الصهاينة، تؤكد وسائل اعلام عبرية أن الإجماع الإسرائيلي تراجع على الرغبة في استمرار الحرب والاندفاع أكثر نحو تأييد عقد صفقة مع غزة (88%، استطلاع الرأي أجراه معهد «لازار»، وخصوصاً مع عدم قدرة الاحتلال على تحقيق أي من أهدافه المعلنة، باستثناء التدمير الممنهج للأحياء السكنية والبنية التحتية في قطاع غزة (إبادة المكان)، والإمعان في الإبادة الجماعية للسكان.
السبيل الأوحد لاستعادة الحق المغتصب
على أرض الواقع، ومن تحت الأنقاض، حيث لا تتطابق الأرقام المرعبة للخسائر البشرية والتي تجاوزت أكثر من 47 ألف شهيد وما يزيد على 110 ألف مصاب، مع روح المقاومة التي تأبى الانكسار. وفي مشهد مأساوي يخالطه الأمل، يتبدى وضع قطاع غزة بعد الدمار الهائل الذي لحق به، فبينما يتناثر حطام البنى التحتية وتظهر معالم الموت، تفتح المقاومة الفلسطينية أبواب الأمل عبر انتصارات تجاوزت النتائج العسكرية إلى إبراز الشهادات، التي توثق عبر تاريخ طويل من جولات الجهاد الفلسطيني، نجاحات صمود الشعب الفلسطيني بصلابة وقوة إرادة لا تنثني.
مع بزوغ فجر السابع من أكتوبر، ارتفعت أصوات الأمل في قلوب الفلسطينيين، حيث أعادت المقاومة تأكيد وجودها في وجه آلة الحرب الإسرائيلية. فقد كان هذا اليوم نقطة تحول، نقلت الشعب الفلسطيني من مجرد لاعب على طاولة لعبة المفاوضات إلى فاعل رئيس قادر على رسم مجريات الأحداث. أكدت حركة حماس ومن حولها من فصائل وسرايا وحركة الجهاد أن خيار المقاومة هو السبيل الأوحد لاستعادة الحق المغتصب، ما أدى إلى اضطرار العدو الإسرائيلي للموافقة على وقف إطلاق النار.
على مسار تنامي العضد المقاوم، ازدادت أعداد المقاتلين الذين يتوجهون للانضمام إلى صفوف المقاومة، وظهرت الأحاديث عن انضمام الآلاف من الشباب إلى الكتائب المسلحة. هذه الزيادة لم تضف الأرقام وحسب، وإنما مثلت تجديدا لروح المقاومة في نفوس أبناء الشعب الفلسطيني، الذين خرجوا من معاناتهم بإرادة لا تلين.
كما أن الأحداث التي تلت السابع من أكتوبر لم تتوقف عند حد إلهام الشباب الفلسطيني بروح المقاومة فحسب، بل أيضا فتحت الأبواب نحو إمكانية استعادة الوحدة الوطنية بعد سنوات من الانقسام. وقد شكلت الاجتماعات التي عُقدت في القاهرة بين الفصائل الفلسطينية صورة جديدة لآمال الوحدة، حيث تمثل بداية لرؤية مشتركة تعكس تنوع الفصائل المؤمل أن تتجه نحو التوحد على هدف واحد: حرية فلسطين.
على الساحة الدولية، تمكنت المقاومة من استعادة القضية الفلسطينية من ذاكرة الإهمال إلى الواجهة، وسط محاولات للتقليل من أهميتها عبر مبادرات مثل “صفقة القرن” و”اتفاقيات ابراهام”، وما إلى ذلك من محاولات طمس القضية الفلسطينية.
استطاعت المقاومة الفلسطينية تحقيق إنجازات مهمة على الصعيد الدولي، أهمها الاعتراف المتزايد بفلسطين بكونها دولة ذات سيادة من قبل عدة دول مثل إسبانيا وإيرلندا والنرويج. هذه الاعترافات تعكس أثر المقاومة في توجيه أنظار العالم نحو عدالة القضية الفلسطينية.
أما على المستوى العسكري، فقد تمكنت المقاومة من كسر واحدة من ركائز الكيان الأساسية، وهي سياسة الردع، حيث كان الكيان الاسرائيلي يعتمد دائمًا على سياسة الترويع عبر ارتكاب المجازر لردع السكان وإجبارهم على الهروب من أراضيهم، وأثبتت غزة بالفعل المقاوم أن هذه السياسة لم تعد تجدي نفعًا؛ إذ أظهرت المقاومة قدرتها على استهداف أراضي 1948 بالصواريخ حتى الأيام الأخيرة من الحرب، ما أفشل قدرة الكيان على تحقيق ما يدعيه من “سياسة الردع”.
إضافة لذلك، كشفت المقاومة فشل منظومات الدفاع الإسرائيلية مثل “القبة الحديدية” و”مقلاع داوود” أمام العالم والتي روجت لها “إسرائيل” بشكل مكثف، إلا أنه ثبت عدم قدرتها على صد جميع الصواريخ والطائرات المسيرة التي تطلق من القطاع، ومن محاور المقاومة المساندة لغزة من لبنان واليمن والعراق وإيران، إضافة إلى الخسائر الكبيرة من المدرعات والقوات الإسرائيلية من جنود وضباط.
بيان الانتصار: “نحن هنا، وسنستمر”
من الضرورة الإشارة إلى أن صمود المقاومة في قطاع غزة وصمود الشعب الفلسطيني هناك، كما في الضفة الغربية، أفشل مخططات “إسرائيل” التهجيرية، وكتب الشعب الفلسطيني فصلاً جديداً من فصول الصمود والمقاومة؛ رغم التضحيات الكبيرة والخسائر في الأرواح والممتلكات والإبادة الجماعية السكانية والمكانية.
لقد انتزع الشعب الفلسطيني الحق في المطالبة بإحقاق العدالة، غير آبه بالممارسات الوحشية التي طالما واجهها منذ نشأة الكيان. ففي الوقت نفسه، كشفت المقاومة الفلسطينية زيف الأسطورة الإسرائيلية عن قدرتها على حماية مستوطنيها. فعندما كانت صواريخ المقاومة تضرب الأراضي المحتلة في 1948، ظهر عجز المنظومات الدفاعية مثل “القبة الحديدية”، وشهد العالم انهيار أسطورة الردع الإسرائيلية.
رغم الدم والدمار، تجددت قصص الأمل والإرادة في قلب قطاع غزة، حيث تُعلن المقاومة بوضوح: “نحن هنا، وسنستمر”. فقد نجحت الأحداث الأخيرة في إعادة تعريف معادلة الصراع، حيث تبلورت حكاية الشعب الفلسطيني بكونها رمزا للثبات والصمود في وجه أقوى التحديات.