عبد الباري عطوان
من المنطق أن تكون قوّات الاحتلال، وبعد دُخول حرب إبادتها في شمال القطاع المئة يوم الأولى، قد حقّقت كُل أهدافها وسيطرت سيطرةً كاملةً على الأرض، وهجّرت جميع سُكّانها، ولكن ما يحدث على الأرض هو العكس تمامًا، فالخسائر في صُفوف القوّات الإسرائيليّة في تصاعدٍ مُستَمِرٍّ، وتوقّعات حول حالة تمرّد وشيكة في قيادة الجيش الإسرائيلي العُليا لهذا السّبب تتصاعد، وإقدامها على سحب لواءين من القطاع لتقليص الخسائر، وانعكاس لكُل ما تقدّم.
المُجاهد “أبو عبيدة” النّاطق الرسمي باسم “كتائب القسّام” خرج علينا اليوم في بيانٍ جديد يُؤكّد هذه الحقائق، ويزفّ البشائر للأُمّتين العربيّة والإسلاميّة بالنّصر الوشيك ويقول “مُجاهدونا يُكبّدون العدو خسائر فادحة، ويُسدّدون له ضرباتٍ قاسية خلّفت خلال السّاعات الـ 72 الماضية أكثر من 10 قتلى وعشرات الإصابات بعضها خطير جدًّا، كما اعلنت القسام عن عملية مركبة ومقتل وجرح 25 جنديا برفح مساء اليوم الاثنين، والإنجاز الوحيد الذي حقّقه العدو هو الدّمار والخراب، والمجازر بحقّ الأبرياء”.
لماذا يفشل العُدوان الثلاثيّ الإسرائيليّ الأمريكيّ البريطانيّ في تركيع اليمن وينجح في مُعظم الجبَهات العربيّة الأُخرى؟ وكيف ردّ اليمن قيادةً وشعبًا على تهديداتِ نتنياهو؟ وهل ستكون صواريخه الفرط صوتيّة التي ستضرب يافا في أيّ لحظةٍ مُفاجئةً في نوعيّتها ودقّتها وتدمير أهدافها؟
أنْ يستمر اليمن العظيم صامدًا، ومُقاتلًا شرسًا، ووحيدًا في مُواجهة عُدوانٍ ثُلاثيٍّ إسرائيليٍّ أمريكيٍّ بريطانيٍّ، وبعد سُقوط النظام السوري، وتدمير ترسانته العسكريّة، واحتِلال 500 كم من أراضيه، وانسحاب “حزب الله” من “جبهة المُساندة” مُؤقّتًا، أو هكذا نأمل، بعد تطبيق قرار وقف إطلاق النّار بعد حرب إبادة مقصودة استمرّت بضعة أشهر، ودُخوله شهره الثّاني بانتخاب رئيس لبناني جديد بمُواصفاتٍ أمريكيّة، فهذا إنجازٌ بُطوليٌّ “غير مسبوق” يُدخِلُ اليمن وشعبه وشُهدائه وقيادته، التّاريخ من أوسعِ أبواب الكرامة والشّرف والإيمان، وهذا ليس جديدًا، أو مُفاجئًا، لمن يعرف هذا البلد، ومن يعرف أصالة شعبه، وإرثه الثريّ الحافل بالبُطولات والانتِصارات.
فوز الجنرال جوزيف عون برئاسة لبنان اليوم وبعد فراغٍ رئاسيٍّ استمرّ أكثر من عامين، يُؤكّد الوصاية الأمريكيّة المُطلقة على لبنان، ونُفوذ حُلفاء أمريكا العرب، وضخامة حجم تعاون بعض الفاسدين المُرتشين في المؤسّسات السياسيّة اللبنانيّة مع هذه الوصاية وتكريسها، ولي ذراع المُقاومة الإسلاميّة المُمثّلة في “حزب الله” ونزع مُعظم أسنانها ومخالبها، بحيثُ تتخلّى عن إرثها الجهاديّ، والتحوّل إلى حزبٍ سياسيٍّ أُسوَةً بكُلّ الأحزاب اللبنانيّة الأُخرى.
لا تقولوا لنا إنّها كانت انتخابات ديمقراطيّة، فكيف تكون ديمقراطيّة صحيحة، وليس هُناك إلّا مُرشّح واحد، هو قائد الجيش، فالعُنصر الأهم في الديمقراطيّة هو المُنافسة الحُرّة وعدم الرّضوخ للإملاءات الخارجيّة، وكيف تتحدّثون عن السّيادة والسّفيرة الأمريكيّة التي كانت تجلس في مُقدّمة الضّيوف اليوم أثناء التّصويت في البرلمان باعتبارها صاحبة العُرس، وكانت، وما زالت، الحاكِم الفِعلي في لبنان.
بعد هدوء غبار عملية التغيير في قمة النظام في سورية جزئيا، وتولي قوات المعارضة “الأصولية” المدعومة أمريكيا وتركيا السلطة فيها، فإن الأنظار تتجه حاليا ليس على كيفية ترتيب البيت السوري من الداخل فقط، وانما على الخطط المستقبلية لكل من ايران وروسيا الدولتين اللتين ممكن تصنيفهما بأنهما الأكثر خسارة استراتيجيا وإقليميا من جراء هذا التغيير المفاجئ والصادم لهما وللكثيرين في المنطقة وخارجها.
فإذا كانت روسيا قد ضمنت التوصل الى ترتيبات تُبقي، ولو مؤقتا، قاعدتها الجوية في حميميم، والبحرية في طرطوس، من خلال التفاهم مع النظام الجديد، فإن الوجود السياسي والعسكري الإيراني في سورية قد انتهيا كليا، واحتمالات الصدام بين الجانبين على الأراضي السورية باتت كبيرة جدا، وأسرع مما يتوقعه الكثيرون، ونحن من بينهم، فالقيادة الإيرانية توصلت الى قناعة بأن سياسة “المهادنة” التي حاولت اتباعها في التعاطي مع النظام الجديد في دمشق أعطت نتائج عكسية سلبية، لأن الورقة الأقوى في يد حكام دمشق الجدد هي فك الارتباط نهائيا مع طهران، بل والوقوف بقوة في الخندق المعادي لها، سواء الخندق الأمريكي الأوروبي، او الخندق الإقليمي العربي ومعظم دول الخليج تحديدا.
احتفالات بنيامين نتنياهو ورهطه من الصّهاينة سواءً في حُكومته أو حاضنتها الشعبيّة الدمويّة، بالانتِصارين الكبيرين، اللذين حقّقهما في كُل من سورية ولبنان بالتّخطيط المُسبق، مع حليفيه في تركيا والولايات المتحدة الأمريكيّة لم ولن تُعمّر طويلًا، فها هي المُقاومة الفِلسطينيّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزة تُفسد عليه هذه الاحتِفالات وتُعِدّ استقبالًا حارًّا لترامب القادم خلال أيّام وصفقة قرنه، وأسرع ممّا توقّعوا، من خلال العمليّات الفدائيّة البُطوليّة التي يُنفّذها رجالها وتُحدِث خسائر كبيرة بشريّة وماديّة ونفسيّة في العُمُق الفِلسطيني المُحتل.
السُّؤال الذي يتردّد هذه الأيّام بكثرة، سواءً في أوساط المُواطنين اللبنانيين العاديين، أو في الأوساط السياسيّة والحزبيّة، في الحُكم، وخارجه، هو: ما هو مصير وقف اتّفاق إطلاق النّار الذي جرى توقيعه وتنفيذه في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وينتهي بعد 60 يومًا، فهل سيتم تجديده، أو تمديده، أم سيُواجه الانهيار وعودة الحرب بالتّالي، بالصّورة التي كانت عليها قبله بين دولة الاحتلال الإسرائيلي والمُقاومة الإسلاميّة بزعامة “حزب الله”.
الأمر المُؤكّد أنّ “إسرائيل” كانت، وما زالت المُستفيد الأكبر من هذا الاتّفاق، فقد سارعت اللّجوء إلى حليفتها الأمريكيّة ومبعوثها عاموس هوكشتاين لـ”سلق” هذا الاتّفاق بأسرعِ وقتٍ مُمكن بعد وصول مئات الصّواريخ الدّقيقة في يوم “الأحد العظيم” إلى تل أبيب وقصف غُرفة العمليّات العسكريّة، وقاعدة “غليلوت” مقر الاستخبارات والوحدة 8200، وقواعد عسكريّة وجويّة في حيفا وصفد، ونهاريا، وأسدود، ولجوء أكثر من 4 ملايين مُستوطن يهودي إلى الملاجئ، وإغلاق مطار اللّد (بن غوريون) عدّة مرّات في ذلك اليوم.
بعد تدمير الجيشين العراقي والسوري، واسقاط النظام البعثي في دمشق بعد حله في بغداد من قبل، يبدو ان المخطط الثلاثي الأمريكي التركي الاسرائيلي يستعد لتدمير الجيش المصري، ونقل السيناريو السوري الأخير الى قاهرة المعز، وأول حلقاته توريط هذا الجيش في حرب اليمن تحت “ذريعة” الاضرار الجسيمة التي الحقتها حركة “انصار الله” الحوثية بالاقتصاد والأمن المصريين من جراء هجماتها على السفن التجارية والحربية الإسرائيلية والغربية في البحر الأحمر وباب المندب.
باتَ بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي يتباهى بتحقيق النّصر في لبنان وسورية وقطاع غزة، يعيش في غُرفٍ مُحصّنةٍ تحت الأرض مُنذ أشهر خوفًا ورُعبًا من صواريخ حركة “أنصار الله” الباليستيّة فرط صوت الدّقيقة، جنبًا إلى جنب مع صواريخ المُقاومة الفِلسطينيّة التي انطلقت من شِمال قطاع غزة وضربت القدس المُحتلّة لأوّل مرّة مُنذ “طُوفان الأقصى”.
وكشفت بيانات رسميّة أنّ نتنياهو الذي خضع لعمليّة جراحيّة لاستِئصال البروستاتا المُلتهبة لوجود ورم سرطاني أمس الأحد، اشترط أن تتم العمليّة في غُرفة عمليّات مُعزّزة في قاع مُستشفى هداسا في القدس المُحتلّة خوفًا من الصّواريخ اليمنيّة والفِلسطينيّة.
من “فواجِع” الصُّدَف أنه في الوقت الذي تُقدم فيه قوّات حرب الإبادة في قطاع غزة على حرق، وتدمير، مُستشفى الشّهيد كمال عدوان شماليّ قطاع غزة، آخِر مُنشأة صحيّة في المنطقة، تُواصل قوّات السّلطة هُجومها الدمويّ على مخيّم جنين في الضفّة الغربيّة تنفيذًا لأوامرٍ إسرائيليّة، ونيابةً عن جيش نتنياهو، وتقليصًا لخسائره البشريّة، وتعويضًا لفشله في السّيطرة على هذا المخيّم العنيد في مُقاومته للاحتلال ورفضه الاستِسلام، رُغم أكثر من 15 اجتياحًا والسّيطرة عليه من قِبَل وحَدات النّخبة في الجيش الإسرائيلي ودبّاباتها وجرّافاتها على مدى الأشهر، بل والسّنوات الماضية.
وصلتني اليوم رسالة إلكترونيّة من شخصيّة مسيحيّة بارزة وقيّمة في سورية تقول “عندما جرى إحراق شجرة عيد الميلاد في السقيلبية وقبلها شجرة ميلاد في حلب، ثمّ بعد ذلك إحراق مقام الإمام الخصيبي أحد أبرز الشخصيّات الدينيّة للطائفة العلويّة، وتصاعد الهجمات على الأقليّات على أيدي المُتشدّدين الإسلاميين، وإهانة واغتيال بعض عناصرها، والقول إنّ المُقدمين على هذه التّجاوزات “غير سوريين”، نفضًا لليد من المسؤوليّة، فهذا يعني وللوهلة الأولى، أنّ مُستقبل “سورية الجديدة” ليس بخير..