اكتمال الترميم القيادي والهيكلي: المقاومة تعود إلى “استراتيجية المفاجآت”
العين برس/ تقرير
لا يمكن الاستمرار في التعامل مع عمليات المقاومة الاسلامية من منظور إخباري محض يحتفي بقدراتها على مواصلة ضرب وايذاء العدو كدليل على عدم التصدع أو الانهيار والبقاء في مربع الإشغال فقط، بل يتعين الارتقاء في تفسير مجموع ما تقوم به المقاومة وقيادتها الى المربع الحقيقي الذي بنت قدراتها البشرية والتسليحية من أجله، وهو القدرة على خوض المعركة الاستراتيحية الكبرى التي تؤدي الى انهاء احتلال فلسطين والقضاء على المشروع الصهيوني وإطلاق عملية فعلية لإخراج النفوذ الغربي من الشرق الاوسط.
وتظهر الوقائع الميدانية والعملياتية للمقاومة أن ما تقوم به منذ ما بعد استشهاد قائدها العسكري الأعلى ليس أعمالاً روتينية لتأكيد البقاء، بل ثبت بالأدلة الحسية المتراكمة على مدى الأيام الماضية انتهاء مفاعيل نظرية “الصدمة والترويع” التي طبقتها “إسرائيل” ضد حزب الله (بنيانه وبيئته) دفعة واحدة في فاصل زمني قصير. وتم تحديد توقيت تنفيذ هذه النظرية بدءً من عمليتي البايجر واللاسلكي وما تبعها من اغتيالات قيادية كبيرة الى التدمير الممنهج والتهجير غير المسبوق لمئات الآلاف من مناصري المقاومة، مرفقة بموجة نارية عنيفة جداً شملت مناطق واسعة في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت ومناطق أخرى بزعم تدمير مقار قيادية ومخازن سلاح، وأيضاً تدمير مقومات الحياة. ونفذت هذه الخطة النارية لتطبيق برنامج عمل سقفه الأعلى هو القضاء على حزب الله وإخراجه من معادلات القوة الشعبية في الشرق الاوسط وتخسير محور المقاومة أحد اهم مكوناته، وإعادة بناء نظام سياسي جديد في لبنان بعيداً عن تأثير ونفوذ الثنائي الشيعي وحلفائه، وسقفه الأدنى هو إخراج حزب الله من جنوب الليطاني وإعادة بناء حزام أمني جديد في الشريط الحدودي. وقد استهدفت الضربات القيادية المتتالية وموجة التدمير والقتل بلا حدود منع التقاط الأنفاس للمباغتة بعملية برية تسمح سريعاً بتطبيق برنامج العمل أعلاه، والذي واكبته الإدارة الأميركية سريعاً أيضاً لتشكيل صيغة سياسية جديدة في لبنان باعتبار أن حزب الله انتهى عملياً وفقاً لما بدأت تصرّح به وتروج له واشنطن.
على أن كل ما تقدم بني على “نظريات غربية في إدارة الحروب” ومنها المتعلقة بـ “الصدمة والترويع” والتي طبقها الأميركيون في العراق وتؤدي إلى انهيار الخصم سريعاً تحت وطأة موجات نارية لا تُحتمل عسكرياً وشعبياً، فيقع الاستسلام والسقوط السريعين، وأيضاً “نظرية قتل القادة” التي تؤدي الى انهيار الهيكل وتداعيه وفقدانه القدرة على العمل. وهي نظرية لم يستطع الغرب أن يغادرها رغم النتائج العكسية التي انتهت إليها عمليات اغتيال القيادات الكبرى في البيئة الإسلامية والحركات الجهادية على مدى العقود السابقة، والتي يؤدي فيها البعد العقائدي الديني دوراً أساسياً في الحفاظ على التماسك ومنع الانهيار، وهو أمر لم يستطع الغربي والإسرائيلي مغادرته مكرران إسقاط مفاهيمه المادية على بيئات يشكل فيها البعد الروحي المكوّن الأساسي. وتجاوز العدو في برنامج ضرباته وتقييماته الصورة التي ساهم بنفسه مع حلفائه الغربيين في تقديمها عن حزب الله، وهو أنه حزب منظم شديد المأسسة ولديه هيكليات إدارية وتشغيلية وبنيوية متماسكة يصعب تفكيكها بسهولة، وصولا الى وصفه بـ “القوة الإقليمية غير النظامية الأكبر في العالم”. لكن العدو تجاوز كل هذه القناعات، وهي حقيقية بالفعل، وبنى هذه المرة تقديره على خطوة عملية مرفقة ذات طابع تكنولوجي مرتبطة بشلّ نظام الاتصالات والتواصل تحت ضغط الانكشاف والتعقب لأجهزة الخلوي وتقنيات التواصل الحديثة وانتهاء الرهان على شبكة الاتصالات اللاسلكية الخاصة بالمقاومة. كل ذلك شكّل قناعة لدى العدو الاسرائيلي – الاميركي- ان استهداف المستوى القيادي سيؤدي الى تضعضع الهيكل الإداري الهرمي سريعاً وفقدانه القدرة على التواصل والتشغيل، مع تدمير مخازن السلاح والمراكز، وأيضاً ضغط البيئة الحاضنة وتهجيرها، مما جعل العدو يطمئن الى نتائج فعاّلة لتطبيق نظرياته والتخلص نهائياً من خطر حزب الله.
ما تقدم يشكل الرؤية التي بناها العدو لمجموع ما قام به خلال أسبوعين على الأقل لكن ماذا كانت النتيجة؟
تظهر الوقائع أن حزب الله أعاد سريعاً ترميم بنيته القيادية وملء الشغور في كافة المواقع واحتوى الضربة الأقسى المتمثلة باستشهاد الأمين العام وعدد من كبار القيادين، وشكّلت إطلالات نائب الأمين العام سماحة الشيخ نعيم قاسم ترجمة سريعة لهذا الترميم والاحتواء. وبدا واضحاً أن قيادة الحزب انتقلت الى صيغة جديدة من المزج بين كثير من العمل السرّي وقليل من الحضور العلني المحمي بما يحبط محاولات العدو لاستهداف المستوى القيادي الأول والثاني. وكانت هذه المفاجأة الأولى التي يمكن القول انها صعقت العدو نظراً لنتائجها الميدانية السريعة.
وهي مفاجأة تم التعبير عنها اسرائيلياً وغربياً واقليمياً بالإقرار بتعافي حزب الله وعودته أكثر فتكاً وفعاليّة.
المفاجأة الثانية تمثلت باستمرار عمليات المقاومة الاسلامية بمختلف أنواعها التي بدأتها منذ الثامن من اكتوبر ٢٠٢٣، ولم تتراجع وتيرتها من حيث العدد، حتى في أصعب الأيام التي تعرض فيها حزب الله لتلك الضربات القاسية. وتراوح معدل العمليات اليومية عند ١٣ عملية وهي كانت تشكّل الحد الاقصى قبل استشهاد الأمين العام، وبلغت في الأيام القليلة الماضية ٣٨ عملية بارتقاء كمي ونوعي غير مسبوق في الصراع مع العدو. أما الاختبار الأهم فكان في الفشل البري المريع وقدرة الاشتباك من المسافة صفر على الحافة الامامية وبإدارة متنوعة من التكتيكات والأسلحة والسيطرة النارية الأمر الذي أذهل العدو باعترافه، وبالعدد الكبير من القتلى والجرحى في صفوفه. وعلى سبيل المثال أفشل المقاومون أربع محاولات لسحب العدو قتلاه وجرحاه من منطقة اللبونة الحدودية. كل هذا التصدي لمقاتلي حزب الله في قرى الحافة الأمامية حصل تحت إطباق جوي وناري مكثّف جداً يكاد لا يسمح لأي مخلوق صغير أن يتحرك، ومع ذلك حصلت عمليات التحام واشتباك وتصدي أسقطت كل محاولات التقدّم البري لجيش العدو بطريقة ونتيجة لم يكن يتصورها بتاتاً”. وكانت هذه مفاجأة نوعية من الدرجة الأولى مرتبطة بالمفاجأة السابقة حيث أن إدارة الاشتباك هذه تحتاج الى توجيه وتخطيط وتواصل مستمر بين الميدان والقيادة تبين أنه لم ينقطع في أسوأ الظروف، حتى أن معطيات الميدان كانت تصل الى الجمهور تباعاً وسريعاً وبالتفصيل عبر بيانات غرفة عمليات المقاومة الإسلامية، وهي إحدى المؤشرات على استمرار الاتصال والإدارة بين القيادة والمجاهدين في الجبهة الحدودية، وهذا ليس تفصيلاً بسيطاً يمكن للعدو ولمن يهمه الأمر أن يتجاهله. ويمكن القول أن العدو يعاني الآن من صدمة شديدة جرّاء النتائج المخيبة للعملية البرية والتي تسمح له بتشكيل تصوّر حول الكيفية التي ستكون عليها المواجهة إذا تمكن من التوغل والاقتراب اكثر من نهر الليطاني، وحجم الخسائر البشرية والمادية والمعنوية التي تنتظره.
المفاجأة الثالثة كانت في الحفاظ على المخزون الصاروخي والمسير الاستراتيجي وإدارة حمايته في ظروف معقدة قبل وأثناء طوفان الاقصى، وبعد الضربات النوعية. وكانت صدمة العدو في اكتشافه سريعاً أن كل تقديراته بنتائج غاراته الجوية غير المسبوقة على هذا المخزون لم تكن فقط مخيبة، بل أظهرت فشلاً استخبارياً مهولاً لمسه العدو في الميدان باستمرار القصف اليومي لمستوطنات ومدن والقواعد والثكنات والتجمعات العسكرية ومنشآته الاستخبارية من أول نقطة عسكرية للعدو على الحافة الأمامية، إلى قلب تل ابيب وجنوبها بالصواريخ والمسيرات المتعددة الأنواع والطرازات، وبوتيرة يومية أظهرت توافر مخزون كبير من هذه الصواريخ والمسيرات، وقد عبّرت عنه المقاومة الإسلامية بإدارة نارية تصاعدية ما كانت لتقوم بها لولا يقينها بكمية ونوع ما لا يزال متوافراً سمحت للمقاومة بالإعلان عن سلسلة عمليات خيبر (حتى الان) والبدء بتثبيت معادلتي “حيفا وما قبلها مقابل الضاحية الجنوبية والجنوب والبقاع”، و”ما بعد حيفا الى تل ابيب مقابل بيروت وبقية المناطق اللبنانية” بما فيها الجنوب والبقاع والضاحية. وقرأ العدو في إدارة النيران نحو العمق الإسرائيلي هذه استعادة سريعة لزمام القيادة والسيطرة التي تسمح بإعادة بناء وثبيت المعادلات الاستراتيجية. على أن الأهم هو إعادة تنظيم هذه العمليات ضمن رؤية استراتيجية لمجمل المعركة الكبرى الحالية، وليس فقط تعبيراً عن الاستمرار في القدرة على تحريك هذا المخزون واستخدامه يومياً لأجل إفهام العدو أن بنية المقاومة البشرية والتسليحية والقيادية لم تتضرر بالقدر الذي أراده العدو، بل أن إدارة النيران هذه أظهرت تخطيطاً مستمراً وانتقاءً للأهداف وتكييفا للأسلحة التي تحتاجها واستخدام تكتيكات تؤكّد كلها أن قيادة المقاومة السياسية والعسكرية تعمل بتكامل وبكامل قوتها ووفق خطة الحرب التي أعدها الأمين العام والفريق الجهادي السابق ومن بقي منهم، وأن ما يدور الآن من مواجهات برية وعمليات قصف تدفع نحو تحقيق أهداف استراتيجية كبرى للحرب، تماماً كما هو العدو يدير مع الأميركيين تحقيق أهدافه المعلنة لهذا العدوان.
أما المفاجأة الرابعة فتتعلق برد فعل البيئة الحاضنة على حجم القتل والتدمير الذي أصابها والذي هدف العدو من خلاله إلى محاصرة المقاومة من جمهورها ومن الجمهور الآخر. لكن النتائج لم تكن فقط عكسيّة بل صادمة للعدو، بحيث أن وعي مناصري المقاومة الذين تصرّفوا بأعلى درجة من التضحية والصمود بما لا تقوى أفضل الدول والمجتمعات تماسكاً على احتواءه، لا بل تسييله دفعاً قوياً نحو التمسّك بخيار المواجهة ومنع العدو من تحقيق أهدافه الميدانية والسياسية. ولا يوجد تفسير مادّي لهذا التماسك الاجتماعي سوى في فهم الخلفية الروحية الدينية العقائدية والوطنية، فضلاً عن الأثر الذي لم يحسبه العدو جيداً وهو استرخاص هذه البيئة لأي تضحية أو صمود أمام الدماء الزكية للأمين العام الشهيد وكبار القادة الجهاديين الذين بقوا في قلب الضاحية وقدّموا أنفسهم في الميدان وهم يديرون هذه المعركة حتى الرمق الأخير، فكان لذلك أثر مهول جداً على المحبين والمؤيدين والمتعاطفين الذين ازادادو قناعة وإيماناً بخياراتهم وهم يشاهدون قائدهم الأعلى والأسمى والأغلى يرتقي شهيداً.
يستنتج مما تقدم أن المقاومة الإسلامية باتت الآن تدير “برنامج مفاجآت نوعية” سيظهر منها المزيد في سياق تحقيق برنامج تجاوز تثبيت فكرة وحقيقة البقاء الى تثبيت فكرة وحقيقة النصر المبين الذي لا لبس فيه. ولعل أدق وصف للوضعية الراهنة ما لخصته بعض وسائل إعلام العدو بقولها:
لقد عتادت إسرائيل في حروبها أن تعاني من زخم عدوّها في الأيام الأولى ثم يتراجع الزخم تدريجياً مع مرور الوقت، إسرائيل تتعامل هذه المرة مع حالة معاكسة، عمليات حزب الله بعد عام كامل لا تحافظ على مستواها فقط بل تتصاعد مع مرور الوقت.
المصدر: موقع الخنادق