حرب عسكرية وأخرى إعلامية لتفكيك وحدة جبهة المقاومة
العين برس/ مقالات
علي عبادي
ثمة معايير مقلوبة لدى بعض الجهات في مقاربة التحدي القائم اليوم بين الكيان الصهيوني وداعميه من جهة، وجبهة المقاومة من جهة أخرى. ومن جملة هذه المعايير مطالبة هؤلاء لجبهة المقاومة بتقديم جردة حساب عن دعمها لقضية فلسطين ومقاومتها الباسلة. وتأتي هذه المطالبة من طرف “القاعدين” عن الجهاد الذين لم يتشرّفوا بعد بحمل السلاح للوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني في محنته الحالية، بل ويتفرغون لتوجيه سهامهم إلى من عرّضوا وجودهم وقدّموا أرواحهم لمساندة قضية الشعب الفلسطيني.
ويترجم هذا الفريق الذي يلهث وراء التطبيع مع كيان الاحتلال، سلوكه بحملة تشويش واسعة مستخدماً فيها كل الأدوات، بما فيها الكذب والتزييف والاجتزاء وحتى الإثارة المذهبية، بغرض التشكيك بما قدّمته جبهة المقاومة قبل طوفان الأقصى وخلاله، والتقليل من هذه التضحيات، وتبرير المواقف المتخاذلة للجهات التي تقف خلف هذه الحملة.
ولا تستثني هذه الحملة الجمهورية الإسلامية في إيران ولا حزب الله ولا بقية أطراف جبهة المقاومة. وبعد استشهاد الأمين العام لحزب الله وكوكبة من القادة في الآونة الأخيرة والهجوم الصهيوني الواسع على لبنان، انتقلت الحملة في مرحلتها الثانية إلى التركيز على إيران وإطلاق ادعاءات وأقاويل حول موقفها من كل ما يحصل منذ بداية “طوفان الأقصى” إلى اليوم. حتى إذا ردّت الجمهورية الإسلامية بقصف قواعد جوية رئيسة للعدو في أكبر هجوم باليستيّ تتعرّض له “إسرائيل” منذ قيامها، على ما قال نتنياهو نفسه، سقط في يد القائمين على حملة التشويش، فعمدوا إلى التهوين مما جرى، خلافاً لكل تقييم غربي وحتى “إسرائيلي”، ما يدل على حجم الانفصال عن الواقع والتمترس وراء أحكام غير موضوعية.
وتتكامل الحملة المضادة مع هدف صهيوني مركزي حدّده العدو لهذه الحرب، وهو فصل جبهة لبنان عن غزة، وفصل المقاومة في لبنان عن إيران. ومن هنا، ينبغي النظر الى ما يجري على أنه جزء من مشروع أوسع مدى لتفتيت المنطقة وإدخالها في ما يراه العدو “شرق أوسط جديداً” تحكمه “إسرائيل” وتمثل عقدته الأساسية ومفصله المحوري.
إيران وفلسطين: ارتباط عقائدي
من المفيد التذكير بأن دعم الجمهورية الإسلامية لفلسطين وقضيتها العادلة ينطلق من محدِّدات أساسية:
– الاستناد إلى البعد الإسلامي في النظرة إلى الصراع. فما يربط الثورة الإسلامية في إيران بفلسطين منذ ما قبل انتصار الثورة هو الارتباط العقائدي بكون هذه القضية تهمّ المسلمين جميعاً، ما يوجب عليهم التصدي للخطر الصهيوني من دون تأخير.
– يتّسم موقف الجمهورية الإسلامية الإيرانية حيال فلسطين بأنه إستراتيجي وثابت، لم يتبدّل أو يتحوّل. فلم يُعرف عنها أنها انخرطت في مبادرات أو أبدت الاستعداد للاعتراف بكيان الاحتلال الواقع على أرض فلسطين، وكان يمكن أن يوفر لها ذلك – لو حصل- باباً للخروج من دائرة الحصار الأميركي الاقتصادي والسياسي. ولقد دفعت إيران أثماناً باهظة بسبب وقوفها إلى جانب مقاومة الشعبين الفلسطيني واللبناني ضد الكيان الصهيوني، وفي المقاييس المادية والسياسية الدولية، يبدو هذا الموقف أقرب إلى الخسارة منه إلى الربح، لولا البعد المبدئي والإيمان بعدالة القضية والمسؤولية التاريخية. وحاولت الإدارة الأميركية مراراً التطرق إلى هذا الدعم على أمل “إقناع” إيران بالتخلي عن هذا الموقف، لكن إيران رفضت ربط مسار المفاوضات النووية بأية قضايا أخرى.
– الدعم الكبير الذي قدّمته إيران للمقاومة الفلسطينية وللشعب الفلسطيني في مجالات عدة هو التزام غير مشروط، ولا يوجد في مقابله أي التزام خاص من الجانب الفلسطيني تجاه إيران. وهذا ما أقرّ به قادة الفصائل الفلسطينية في تصريحات عدة وفي أوقات مختلفة. واستمر هذا الدعم حتى مع وجود تباينات أحياناً في شأن قضايا أخرى مثل الحرب في سورية. كما أن هذا الدعم يحترم خصوصيات الساحة الفلسطينية.
– على رغم الظروف الاقتصادية الناجمة عن الحصار الأميركي لإيران، كان الدعم الإيراني للمقاومة الفلسطينية عالي السقف على المستويين السياسي والمادي ولا يجاريه أي دعم من جهة أخرى. ولقد تحدث عنه نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الشهيد صالح العاروري وقائد حركة حماس في قطاع غزة يحيى السنوار غير مرة.
ولطالما أثار الإعلام الموالي للغرب في السنوات الماضية فكرة أن فصائل المقاومة تتّبع ما يُملى عليها من إيران، مستخدِماً كمّاً من المفردات المضلِّلة مثل “وكلاء” و”أذرع” و”أدوات” إيران، وأثبتت التجربة أن فصائل المقاومة في فلسطين ولبنان تتخذ قراراتها بما يتماشى مع تقديراتها للمصلحة الوطنية ورؤيتها في الوقت نفسه لمسار الصراع مع العدو. على سبيل المثال، كانت حركة حماس تقدّر متى تفتح جبهة القتال ومتى تميل إلى التهدئة، كما كان حزب الله يقدّر وتيرة المساندة لغزة بما يتناسب مع واقع لبنان السياسي والاقتصادي. كذلك، فإن قوى المقاومة الأخرى في العراق أو سورية أو اليمن قدّمت الإسناد لغزة بما يتوافق مع إمكاناتها وظروفها.
وكانت فترة “طوفان الأقصى” مرحلة اختبار لمدى التنسيق والتلاحم بين أطراف جبهة المقاومة، بحيث استطاعت أن تشكل تحدياً ليس للكيان الصهيوني، بل للولايات المتحدة وبريطانيا اللتين قادتا تحالفاً عسكرياً في البحر الأحمر لحماية الإمدادات البحرية الى كيان العدو، كما زوّدتا الكيان بالأسلحة والخبرة العسكرية والمعلومات الاستخبارية. وسبق أن تشكّلت غرفة عمليات مشتركة بين قوى المقاومة لإسناد غزة خلال عملية “سيف القدس” في أيار/ مايو 2021، وهي خميرة تنسيق جاءت في سياق تطور العلاقة بين هذه القوى.
دعم متنوّع يواكب الميدان
قدّمت الجمهورية الإسلامية خلال “طوفان الأقصى” الدعم السياسي القوي للمقاومة وقرنته بتوجيه ضربات عسكرية للكيان الغاصب، وهو تطور غير مسبوق في حجمه ودلالاته، لاسيما في هذه المرحلة التي تشهد تهافتاً على التطبيع مع العدو امتثالاً للطلبات الأميركية. واستشهد خلال هذه الفترة أكبر عدد من القادة الضباط في “قوة القدس” في سورية ولبنان، وآخرهم العميد عباس نيلفروشان نائب مسؤول العمليات في حرس الثورة في الضاحية الجنوبية لبيروت، وهم يقومون بواجبهم في الميدان إلى جانب المقاومة اللبنانية والفلسطينية. ومن جهة ثانية، عملت إيران على استنهاض الدول الإسلامية والدول الصديقة من أجل اتخاذ موقف ضاغط من شأنه أن يوقف العدوان على قطاع غزة، وحذرت من أن استمرار العدوان سيكون سبباً لتوسيع نطاق الحرب، وهو ما بدأ يلوح بالفعل في ضوء اتساع شهية الكيان الصهيوني للحرب متسلحاً بميزات تكنولوجية وفّرتها أمريكا وغطاء مفتوح يجمّد مفاعيل القوانين الدولية وحقوق الإنسان في زمن الحرب.
كانت إيران تسير بين حسابات دقيقة، فهي أدركت أن اليمين الصهيوني يستغل الفرصة لجرّها إلى مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية بما يحقق آمال نتنياهو المعلنة منذ عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما بإشعال حرب بين إيران وأمريكا تريح الكيان الصهيوني من الثقل الذي تمثله إيران في ميزان الصراع القائم بين المشروع الصهيوني ومشروع المقاومة. كما أدركت أن مواجهة العدوان تتطلب تكاتفاً وتنسيقاً بين قوى جبهة المقاومة يتوخى، إضافة إلى تشتيت قدرات العدو، تقصير أمد الحرب وتخفيف تداعياتها على الشعب الفلسطيني وعلى المنطقة، بما يسمح لقوى المقاومة بترميم قدراتها وللشعبين الفلسطيني واللبناني اللذين تأثرا بشكل خاص بالعدوان، باستعادة حياتهما الطبيعية.
وتمثل إيران واسطة العقد في محور المقاومة، باعتبارها الحاضنة المعنوية والمادية، ما يجعلها هدفاً مركزياً للحملة المعادية التي تشوّش على دورها وتُصوّره على أنه دور منفعيّ ضيق، في حين أن السيرة التاريخية لهذا الدور على مدى أربعة عقود ونصف من عمر الثورة الإسلامية تقول عكس ذلك. وإذا كان بعضهم يرى أن إيران الإسلامية تكتسب حضوراً أقوى في الإقليم من خلال علاقاتها مع قوى المقاومة الأخرى، فهذا أمر طبيعي. كما أن من الطبيعي أن يتعزز موقف هذه القوى إذا تمكنت الجمهورية الإسلامية من ترسيخ مكانتها وفرض حضورها على الصعيد الدولي، فكل قوة إضافية – اقتصادية أو عسكرية أو سياسية- يكتسبها طرف من أطراف جبهة المقاومة ينعكس إيجاباً على البقية، وكل ضعف يصيب أي طرف بشكل أو آخر ينعكس على قوة هذه الجبهة.
لا ريب أن الحرب الحالية التي يفرضها الكيان الصهيوني بدعم أميركي لا محدود أصبحت أكثر فأكثر تعني كل محور المقاومة، بل كل المنطقة. فالمشروع الصهيوني يتغوّل على الدول المحيطة، وستفرض نتائج عدوانه المفتوح معادلة ترهيب خطيرة على جميع دول المنطقة وشعوبها (الدخول في حظيرة التطبيع أو مواجهة العصا الغليظة)، في حال نجح في تحقيق أهدافه. ولذلك، من مصلحة جميع دول المنطقة انكسار هذه الهجمة الإسرائيلية- الأميركية، والمعوَّل في ذلك على المقاومة في الميدان واحتضانها شعبياً على أوسع نطاق.
المصدر: موقع العهد