“طوفان الأقصى” ومسار تشكّل القوّة المستقبليّة لجبهة المقاومة العالميّة
العين برس/ مقالات
عبد الله عيسى
تناول المقال السابق السياق الذي يحتوي على ظروف ولادة جبهة المقاومة العالميّة وآفاقها الواعدة، والمسائل الثلاث التي تضمّنته، وهي: جانب من ممارسات العدوّ في غزّة، وصمود المقاومة، وعناصر المشهد الجديد؛ مع إضافة تفصيل موجز حول التفاعل العالميّ الراهن والمسؤوليات تجاهه. بينما يتناول هذا المقال بعض مرتكزات وعوامل تشكّل القوّة المستقبليّة لجبهة المقاومة العالميّة، انطلاقًا من الواقع ومجرياته؛ مستندًا إلى مزايا وفق الآتي:
1. الإرث التاريخي والدينيّ والحضاريّ العميق لمكوّنات جبهة المقاومة، المتجذّر في حركة الأنبياء والرسالات السماويّة والعلوم المستمدّة من الوحي والمتفاعلة مع العقول والتجارب والإرادات الإنسانيّة بكلّ نواتجها الحضاريّة والمعرفيّة والعلميّة والتقنيّة، والمستندة إلى فلسفة إلهية وأحكام وقيم وسِيَر وسُنن واستجابات للحاجات، وهي هائلة المضامين، في أعماقها تفوق الزمن وتتكيّف معه وتستجيب لمتطلّباته، عميقة الأثر، دقيقة التسديد، مما يمنح دول وحركات المقاومة صلاحيّة الاستمرار والانتشار والنهوض والتجدّد.
ويقابل ذلك، تهافت الديانة الوضعيّة الماديّة، واعتمال “الشيخوخة الروحيّة” في الغرب بكتله المتعدّدة والمفكّكة والمتناقضة، وتزايد الانحطاط القيميّ تحت عناوين مخادعة ومقنّعة تخالف الفطرة الإنسانيّة وتهدّد الحياة البشريّة والمجتمعيّة الصالحة بصورة عامّة، ولا يعبأ من تصديرها بل فرضها من خلال المؤسّسات الدوليّة والمؤتمرات العالميّة وإلزام الحكومات والبرلمانات بإقرارها وملاحقة إجراءاتها، تلك المفردات الراسية على مآزق وصراعات فلسفيّة وفكريّة، مشدودة إلى نزعة التعالي والنرجسيّة في الثقافة والعلوم الإنسانيّة الغربيّة والازدراء بحضارات الشعوب الأخرى ومؤسّساتها وعاداتها. كما يعاني عدد من دوله أزمات اقتصاديّة وتنذر بما هو أسوأ، منذ ولادة الرأسمالية الكبرى في القرن الثاني عشر ورؤاها للعالم إلى تطوّرها وصعود النيوليبراليّة.
تلك الثقافات والممارسات الغربية عائمة على تاريخ دمويّ عنيف من الحروب الأهليّة، ولا زالت كامنة في موروثات أهلها دون أن تبرأ منها، تعتمل وتتربّص الفرصة للظهور بأشكال وحدود مختلفة. وما زال هذا الغرب الشره، يمارس أقسى وأقذر أشكال الغزو للعالم عبر تدخّلات عسكريّة فظّة، في ظل حاجته إلى عدو مرعب لدوام حياة الأسطورة التي يقتاتها، وتساوي أعجوبة الحداثة وما بعدها الواعدة بمستقبل العالم. تسقط بعدوانيّته مبادئ حقوق الإنسان وجاذبيّة أنموذج الحريّة، وتتقهقر الديموقراطيّة في كثير من أنحائه داخل عقر داره، أمام فشل الأنثروبولوجيا السياسيّة وأخواتها عن شرعنة تدخّلاته في الشرق الأوسط والإحلال مكان الثقافات الأصيلة، وأمام ما ينتظره من التراجع التدريجي في هيمنته وتلاشيه المنذر بالسقوط المفاجئ، والذي يستدعي الصراع على ملء فراغه في أماكن سيطرته ونفوذه ممّا يرتد سلبًا على مكانته وأدواره وتأثيره وشؤونه الداخليّة في الاقتصاد والثقافة واجتماعه السياسيّ وعلاقاته الدوليّة.
2. وحدة القضيّة المركزيّة والتقاء طلّاب الحريّة: تُعتبر قضية فلسطين محوريّة في تبلور هذه الجبهة المقاومة وتلك الجبهة العالميّة، وتُوفّر هذه القضية أرضيّة لالتقاء جهادي عابر للمذاهب والأديان والثقافات وفق منطق المقاومة.
وفي هذا الإطار، تأتي أهمية ملحمة “طوفان الأقصى” والحرب الدائرة في غزّة بقيادة حركة المقاومة الإسلاميّة – حماس باعتبارها جزءًا عضويًّا من منظّمة الإخوان المسلمين الممتدّة في عدّة أقطار عربيّة وإسلاميّة، وذات تجربة تنظيميّة عريقة؛ وتأتي أهميّة مساندتها في أكناف بيت المقدس ومن أقطار متاخمة وبعيدة، لتعيد رصّ الصفوف وتوحيد البندقيّة، ما يسنح بفرصٍ استراتيجيّة لتقويض مشاريع الهيمنة الأميركيّة داخل منطقة غرب آسيا، وتقييد وجودها وتأثيرها انطلاقًا من إزالة الموانع عن الوحدة الإسلاميّة وتوفير بعض شروطها. وهو اتّجاه معاكس تمامًا لما كانت عليه الحملة الاستكباريّة التفتيتيّة والاستنزافيّة والتشويهيّة إبّان ما انقلبت تسميته من الربيع إلى الخريف العربيّ بواسطة الإرهاب التكفيريّ وتصدير أبشع مظاهر الإساءة للإسلام والمسلمين. وهو اتّجاه جاذب عندما تتكامل الإرادات وتلفظ النزاعات البينيّة وتحرز الانتصارات ويكتمل المشهد بتوازن وجْهَي المظلوميّة والبطولة، فيفرض الالتقاء العالميّ نفسه على طلّاب الحريّة، وليس هناك أفضل من قضيّة فلسطين بأبعادها الحضاريّة والتاريخيّة والإنسانيّة والدينيّة لاجتذاب الرأي العام وقيادة الشباب نحو تحوّلات جذريّة وتغييرات بنيويّة في الرؤى والأفكار والوعي والإرادة وإدارة التغيير والتحوّل في الأنظمة أو قوى الضغط والاتّجاهات في الشرق والغرب.
3. البِنْيَة الدولتيّة وغير الدولتيّة: تتألّف جبهة المقاومة بحسب مكوّناتها من دول وحركات، تمثّل مجتمعاتها الحاضنة لها، وتعبّر عنها. إلا أن هذا التركيب من دول ومن حركات، كبِنية وكوظيفة، يمنح جبهة المقاومة ميزة أساسيّة، فالبِنيتان المنبثقتان عن إرادة وسيادة شعبيّة – دينيّة، توفّران للفعل الثوريّ والجهاديّ المقاوم أرضيّة نافعة لتقديم أنموذجَيْن عالميّين في القضية والنهج، وفي طبيعة هذه العلاقة، وفي جدوائيّتها وفرادتها، لقوى دولتيّة “وما تقتضيه ضرورات الأنظمة الملتزمة بقضايا المقاومة أو ممانعة الهيمنة” وغير دولتيّة “وما تقتضيه خيارات الشعوب من هوامش التحرّك عن الدول”.
توفّر البِنيتان فرصًا في المناورة العاليّة حيث تتكامل بالتمايز، وتنعمان بقاعدة صلبة للفعل الثوري والمقاوم الناشئ من الواقع المجتمعيّ وإرادته في الحريّة والحياة بكرامة لكلّ قوّة من هذه القوى سواء كانت دولتيّة أم غير دولتيّة، فلا تهيمن إحداهما على الأخرى.
ينقبض التكامل بين البِنيتين وينبسط باشتغال ديناميّ فعّال مقابل عمليّات الهيمنة ومشاريعها، ولا ينحكم لتقسيمات الهيمنة، ولا يتحجّر بانغلاقه على ما رسمته من حدود جغرافيّة، إنما يتجاوز تلك الحدود، وفق الأصول المشروعة للدفاع عن النفس والحماية من وهن الحياد الفاشل ووهمه. أمّا التمايز، فيحصل بحفظ الخصوصيّات لكلّ جماعة ومجتمع، وبما ينسجم مع مصالحهما العميقة، انطلاقًا من أصل التكامل لا نزعة التمايز.
وهنا تأتي أهميّة السياسة الخارجيّة للبِنيتين في استقطاب المزيد من الدول والحركات والنخب والأفراد، بنحو مستقل، وأحيانًا عبر تنسيق الأدوار بين بعض المكوّنات في البِنيتين أو بنحو شامل، كجزء من المؤازرة الشعبيّة والسياسيّة، وكجزء من ميزان الردع في الجهاد الدبلوماسي أو الحرب الأمنيّة والعسكرية المفتوحة، وكجزء من الأرضيّة الناشطة لاستقبال التحوّلات العميقة. وهي استقطابات ليست بالضرورة شاملة وكاملة، إنما قد تحدث وفق استراتيجيّة “خطوة خطوة” و”على الموضوعات”، ومؤدّاها إبرام المزيد من الاتفاقيّات، واستيلاد منظّمات إقليميّة جديدة ومؤتمرات جديدة فاعلة ومؤثّرة، وتنفيذ إجراءات مناسبة على حجم المرحلة والمراحل القادمة.
4. الجغرافيا المجتمعيّة – السياسيّة لمحور المقاومة: وهي مسألة عميقة ومعقّدة وجوهريّة، وسيّالة نوعًا مع المراكمة العمليّة بمرور الزمن وبقنواتها التواصليّة مع العالم، حيث تنهض المجتمعات بخصوصيّاتها انطلاقًا من واقعها المجتمعيّ وسياقاته وأنساقه وتفاعلاته، ومن خلال ديناميّات الإحياء والاستمرار للجماعة الناشطة بالفعل المقاوم أو الثوريّ، من قيادة الفعل الإحيائيّ إلى الانخراط الميدانيّ.
وتثري هذه الجماعة الناشطة وبيئتها الحاضنة صلاتها بجوارها الإقليميّ وبانتشار أبنائها على امتداد العالم، وتمدّ المتفاعلين معها أو الملتزمين بها من الخارج بهويّتها الثقافيّة، على اختلاف الهويّة والخصائص من جماعة إلى أخرى، ولأنها تستند إلى بِنية دولتيّة وغير دولتيّة من حيث المجموع، وإلى تنوّع ثقافي وإرث ديني تاريخيّ عريق، وتتوسّع أو تتعزّز مكوّناتها بمقتضى الأحداث الاستراتيجيّة وتطوّراتها؛ فإنّ جغرافيّتها الطبيعيّة متحرّكة نسبيًّا مع مرور الزمن وتوسُّع النشاطات والعلاقات والامتدادات، فضلًا عن جغرافيّتها السياسيّة أو جغرافيّتها المجتمعيّة – السياسيّة العابرة من داخل حدود أقطارها إلى انتشار تلك الجماعة وأفراد بيئتها في أماكن مختلفة من العالم، فالدولة الثوريّة والحركة الجهاديّة تضبط كلّ منهما إيقاعها في تفعيل حضور منتسبيها أو مؤيّديها وأدوارهم بما يدور مدار الدفاع عن الأبرياء من أهلها وتحقيق المصالح لها ولهم، وبما تسمح الظروف والأنظمة، وما تمليه تحرّكات العدوّ من التصرّف الشجاع والحكيم مقابله تحفيزًا أو تقييدًا.
5. الخِطاب وأصدائه والتفاعل العالمي: يشكّل الخطاب بكافة أشكاله وممارساته ومضامينه ومستوياته وتقنيّاته ووسائله، حاجة ماسّة وضروريّة في القضاء على الفتن وتفنيد الشائعات وتثبيت الحقائق ومواجهة الانحرافات ومعالجة الشبهات، وكشف خيوط الاستكبار وإحباط مؤامرات العدو، وكسب ثقة الناس وتحفيز الطاقات الكامنة وبث ثقافة الأمل وإبراز نقاط القوّة عند الشعوب وتعظيمها، وإبراز نقاط الضعف عند العدو، وإقامة الحجّة وإتمامها على الناس، وتحصين الساحة وتقوية البيئة والأمّة، والحث على الانخراط في مسيرة تحقيق التقدّم والعدالة، والعناية الخاصّة بالقضية الفلسطينيّة المركزيّة.
وتأتي أهميّته راهنًا، في مزامنته لمرحلة الانتقال من الأحاديّة القطبيّة إلى تعدّد مراكز القوى العالميّة، ما يستدعي جدارته بما يستجيب لذلك من متطلّبات وتحدّيات، وبلوغه كلّ مناطق التأثير والنفوذ، على أن تحتشد عناصر الحق والقوّة بتلازم لا ينفك عن البيان فتتجلّى معالم دقّته وجماليّته، وقوّته وصدقيّته، وملاءمته لكلّ الشرائح والمستويات المستهدفة، مع استفادته من حالة العولمة وأدواتها وتقنيّات العصر.
6. نحو استراتيجيّات التقدّم: تشكّل مجالات التقدّم خارطة الطريق الضروريّة لكلّ الجماعات والمجتمعات التي تتبلور منها حركات ودول محور المقاومة، وتبرز كقيمة أكيدة لاستيلاد النماذج التي لا تقوم على رد الفعل فحسب في المقاومة والصمود بالمعنى السالب، إنما تنهض على أسس من الاقتدار والإنتاج والاكتفاء والتسويق والاستثمار كمقاومة تمارس فعل الاستقلال بمعنى الإيجاب. وهي مقاربة شاملة من شأنها أن تقيّد تحرّكات الأعداء في الساحات العلميّة والتقنيّة والإداريّة والثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والمجتمعيّة والأمنيّة والعسكريّة والإعلاميّة والجماليّة والبيئيّة والمعنويّة.
تقوم هذه الاستراتيجيّات على مجالات أربعة: المجال الفكريّ، المجال العلميّ، المجال الحياتيّ، والمجال المعنويّ والروحيّ. وعندما تدار المؤسّسات والهيئات على قواعد الاقتدار المتوازن والمتنامي، والتقدّم الناشط، بخطيه التكتيكيّ والاستراتيجيّ، وفق رؤية تكامليّة وتلازميّة مع الجهد المقاوم والجهاديّ الثوريّ، عندئذٍ لن يتفاجأ أحد من الجماعات والمجتمعات (أهل المقاومة) بالأزمات الاقتصاديّة المفتعلة والعقوبات المفعّلة والحصار والفتن والثورات الملوّنة.
إن العدوّ يتربّص ولا يريد إلا الاستحواذ والسيطرة والنهب التام، والعدو متعدّد ومقتدر وبراغماتيّ ومبدئيّ؛ والصراع معه مستمر وطويل، ومقتضى ذلك الجهوزيّة الشاملة لكل ما يلي من المحطّات البارزة، بمختلف المستويات، والمديات الزمنيّة، والنطاقات الجغرافيّة، وفي الساحات الواقعيّة أو الافتراضيّة والاصطناعيّة. واليوم التالي لأي حرب أو منازلة ليست فقط في المجال العسكري والأمني، وهذا المجال لا يمكن عزله عن البيئة والمجتمع، والمجتمع لا يمكن إغلاقه عن العولمة ومآرب كلّ طامع ومستجد في الثقافة والاقتصاد والاجتماع والسياسة والتقنيّة.
يجب السير نحو رؤية شاملة لفعل ثوريّ وقيادة التغيير في الجزئيّات وبعض النقاط الموضعيّة المفصليّة، وقيادة التحوّل في العناصر البنيويّة الشاملة والجذريّة، والحضور في كلّ الساحات حضورًا يعي شبكيّة ذلك التقدّم، ويعي إحداثيته من تنامي الحاجات وما تفرضه الانتصارات من مسؤوليات لحفظ النصر وأهله، والانخراط في حل المشكلات والأزمات، وأخذ للكتاب بقوّة، كتاب التقدّم بكلّ أبعاده وعلاقاته وساحاته، وتوسعة شعار “نكون حيث يجب أن نكون”، بل أن نبادر لأن “نكون حيث يليق أن نكون”، بمعنى الإيجاب لا السلب فحسب، وعلى قاعدة صلبة راسخة عنوانها “قادرون”.
وعليه، وبهذه المرتكزات والمزايا، يمكن القول: إن أمّة نهضت في الستينيّات ثمّ أنجزت ثورتها ودولتها (الكرامة الإيرانيّة)، وتبادلت لياقات استقبالها عند الشعوب وشروط تصديرها بما يلائم وينسجم، وتلاقت إرادتها بملاقاة الأحرار الذين استلهموا منها مظلّتهم الشرعيّة وسندهم الاستراتيجيّ (الكرامة اللبنانيّة والفلسطينيّة)، فاستحالت معهم الاجتياحات الصهيونيّة والخيبات العربيّة إلى قوّة في الصمود والحماية والردع والتحرير، وتفاعلوا مع شعوب أخرى استطاعت أن تنزع عنها ربقة الاستبداد وواجهت الاحتلال والعدوان (الكرامة العراقيّة واليمنيّة)، وإنّ أمّة قاتلت وحالت دون إجهاض شموخها بممانعتها وتيسيرها درب المقاومين (الكرامة السوريّة)، واشتعلت طوفانًا مباركًا جديرًا بأهله ومن حوله (الكرامة الفلسطينيّة)، وإنّ أمةً تفوّقت بإخلاص قيادتها لها في القلوب والعقول والإرادات، هي أمّة مشبعة بالكرامة لم تكن يومًا حالة، تتوسّم أملًا قريبًا يراه الآخرون بعيدًا، إنما بشرطها وشروطها – صراط المقاومة والتقدّم الشامل – تبقى لائقة بإنجاز ما عليها وكبت خصومها وأعدائها، تجيد صناعة المستقبل وقيامة عالم جديد.
المصدلا: موفع العهد