لا يمكن قراءة الهدنة المعلنة مؤخراً بين صنعاء كطرف والتحالف الذي تقوده السعودية ضد اليمن كطرف مقابل بعيداً عن كونها ضربة قاسية جداً للخطة التي شرعت الرياض بتنفيذها في اليمن فيما يخص الملف الاقتصادي.
خلال الشهرين الماضيين فشلت آخر الحملات العسكرية الشرسة من قبل التحالف على قوات صنعاء، أبرزها مثلاً معركة حرض التي كانت الرياض تهدف من خلالها لإبعاد قوات صنعاء أكبر قدر ممكن من الحدود السعودية من جهة والاستحواذ على هذه المدينة والمنطقة الحدودية معها نظراً لما تحتويه من حوض نفطي لم يتم التنقيب عنه يمنياً من قبل وظلت هذه المنطقة هدفاً ومطمعاً سعودياً منذ عقود إذ منعت الرياض في عهد صالح التنقيب عن هذه النفط في هذه المنطقة.
هذه الهجمة العسكرية الشرسة للتحالف، استطاعت قوات صنعاء ليس فقط إفشالها وتمكنها من التصدي للهجوم بل وشن هجوم مضاد انتهى بسيطرة قوات صنعاء على ما كان سابقاً تحت سيطرة التحالف السعودي وقواته المحلية.
بعد فشل الرياض في هذه العملية التي أنفقت عليها ملايين الريالات السعودية وقامت بتغيير تسميات قواتها المحلية الذين دفعت بهم لهذه العملية وأسمتهم “قوات اليمن السعيد”، وجدت الرياض أنه لم يعد أمامها سوى استخدام أقصى درجات الحرب الاقتصادية ضد صنعاء.
هذه الورقة تمثلت بخط برنامج تصعيدي اتفقت عليه الرياض وبقية اللجنة الرباعية (السعودية الإمارات أمريكا بريطانيا) والتي أقرت مجموعة من الإجراءات لتضييق الخناق أكثر على صنعاء في الجانب الاقتصادي بما في ذلك ما يتعلق بالمشتقات النفطية، وهنا لا ننسى أيضاً أنه وبعد اجتماع الرباعية الأخير، أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية مجموعة من العقوبات ضد شركات يمنية استثمارية وتجارية وأسماء بعض رجال الأعمال تحت مبررات توظيف عملهم التجاري لخدمة أنصار الله في اليمن.
كان الهدف الرئيسي من هذا التصعيد الاقتصادي ضد صنعاء، هو دفع الشارع اليمني في مناطق سيطرة حكومة صنعاء إلى الخروج ضد السلطة تحت ضغط الاحتياج الشديد للمشتقات النفطية، وتأثراً بالضغط الإعلامي للتحالف الذي وضف أزمة المشتقات النفطية التي افتعلها التحالف أساساً وساهمت فيها أيضاً الأزمة العالمية جراء الحرب، من خلال ترويج شائعات بأن “قيادات أنصار الله تمنع دخول المشتقات النفطية بهدف بيعها في السوق السوداء بمبلغ مضاعف عن سعرها الحقيقي”.
فشلت خطة السعودية حيث سارعت صنعاء لكشف الحقائق أمام المواطنين بأكثر من مؤتمر صحفي أوضحت فيه كم هو سعر المشتقات النفطية في حال أتت عبر ميناء الحديدة ومن دون القرصنة على سفن المشتقات وحجزها في البحر وكم هو سعر المشتقات النفطية القادمة عبر الطرق البرية من المحافظات الجنوبية، حتى أن التحالف دفع بقواطر المشتقات النفطية القادمة من الجنوب بهدف إدخالها مناطق سيطرة حكومة صنعاء لبيعها في السوق السوداء وهو ما رفضته صنعاء على الإطلاق واشترطت لدخول هذه القواطر أن تمر عبر القنوات الرسمية ممثلة بشركة النفط التي تتكفل بتوزيع المشتقات النفطية على كافة المناطق تحت سيطرتها وبحيث تقطع دابر خلق سوق سوداء، الأمر الذي أدى إلى تكدس القاطرات القادمة من الجنوب في مناطق قريبة من المنافذ البرية في محافظة الجوف، وقد تزامن ذلك مع بدء السعودية الترتيب لحصر حصول اليمنيين على المشتقات النفطية فقط من شركة أرامكو السعودية وعبر شركة نفط عدن الخاضعة لسيطرة التحالف والحكومة التابعة له.
بالمقابل رفضت صنعاء خضوع اليمن وبقائه تحت رحمة ما تبيعه الرياض من مشتقات نفطية لليمنيين وحصر الاستيراد فقط عبر ميناء عدن، وضغطت عسكرياً لإجبار الرياض على رفع حصارها على ميناء الحديدة، فكانت عمليات كسر الحصار الثلاث التي دفعت السعودية للهرولة إلى العاصمة العمانية مسقط لبدء مشاورات غير معلنة مع كبير مفاوضي صنعاء محمد عبدالسلام عبر وسطاء عمانيين وعبر المبعوث الأممي إلى اليمن، وعندما تأزم الوضع ورفضت صنعاء التنازل عن أي مطلب من مطالبها أو مقايضة أي ملف إنساني بأي ملف سياسي أو عسكري، اضطرت لطلب الوساطة بشكل مباشر من الجمهورية الإسلامية في إيران عبر وزير خارجيتها.
الموقف من المبادرة من قبل ساسة اليمن الموالين للتحالف هو أن “أنصار الله والقيادة السياسية في صنعاء فرضوا شروطهم وحققوا نصراً سياسياً”، معتبرين أن هذا النصر جاء بالمجان لأنصار الله لكون الإعلان الذي خرج به وزير خارجية الحكومة التابعة للتحالف معمر الإرياني “كان أشبه بالإذعان للمطالب المتعنتة التي ظل الحوثيون متمسكون بها طوال السنوات الماضية” وهذا اعتراف من ساسة الشرعية بأن صنعاء حققت مطالبها التي ظلت متمسكة بها وهي مطالب حقوقية مشروعة.
كما يرى آخرون – في إطار الموالين للتحالف أيضاً – أن إعلان احمد عوض بن مبارك، بشأن السماح للسفن بالدخول وفتح مطار صنعاء ورفع معاناة الشعب اليمني، بأنه إدانة لحكومة التحالف “ويؤكد اتهام الحوثي لها بالوقوف خلف معاناة الشعب اليمني”.
هناك علاقة بين الهدنة المعلنة في توقيتها الحالي وبين التطورات على الساحة الدولية خصوصاً ما يتعلق بالحرب في أوكرانيا.
فدور أمريكا في الحرب والحصار على اليمن مكشوف ومعروف، فمن واشنطن تم الإعلان عن الحرب وبتوجيهات السفير الأمريكي تم فرض الحصار الاقتصادي، كما أن رسم سياسات الحرب الاقتصادية ظل حكراً على واشنطن بدرجة رئيسية، وذلك لكون “واشنطن لا تريد أحراراً في أي بلد تسعى للهيمنة عليه بل تريد عبيد وعملاء” حسب ما وصف أحد السياسيين بحكومة صنعاء.
حالياً وعندما تضررت المصالح الأمريكية واهتزت أسواق النفط العالمي بقوة، بسبب الحرب في أوكرانيا، فإن مصلحة واشنطن إذا اقتضت أن يتم رفع الحصار عن اليمن ووقف الحرب فستعمل على تنفيذ ذلك وستأمر أدواتها في المنطقة بالتنفيذ مباشرة، لكن هذا لا يعني أن التوجيهات الأمريكية هي من كان لها الكلمة الفصل في ما يخص رفع الحصار على اليمن، حيث إن الضربات التي تعرضت لها السعودية وخصوصاً هجوم آخر عملية (كسر الحصار الثالثة) التي استهدفت خزانات أرامكو في جدة، كان لها التأثير الأبرز والأكبر على ملف رفع الحصار عن اليمن.
فواشنطن أدركت أن بقاء النفط السعودي خاضعاً للتهديدات اليمنية، فمعنى ذلك أن واشنطن لن تتمكن من ضمان زيادة إمدادات الطاقة العالمية من خلال دفع السعودية لرفع إنتاجها النفطي بهدف خفض الأسعار وبالقدر الذي يجعل من العقوبات المفروض على روسيا ذات فعالية وذات جدوى، وبالتالي فإن الأفضل هو تهدئة الوضع في اليمن أكبر قدر ممكن حتى وإن دفع ذلك بالسعودية لتقديم تنازلات لطالما طالبت بها صنعاء في كل مراحل الحوار والمفاوضات الرسمية أو في القنوات الخلفية، فواشنطن هنا لا يهمها إن كانت صنعاء ستخرج من هذه الحرب منتصرة أم لا أو خروج السعودية مهزومة أم لا بقدر ما يهمها هزيمة خصمها الروسي اقتصادياً.
ولهذا لم يكن من المستغرب أن تبعث واشنطن مبعوثها إلى اليمن تيم ليندركينغ إلى المنطقة ليضغط بكل قوته على السعودية قبول أي شرط تطرحه صنعاء في مقابل ضمان عدم تنفيذ الأخيرة أي ضربات أخرى على النفط السعودي.
من تداعيات الهدنة – وفق سياسيين مطلعين – أن صنعاء ستشهد انفتاحاً دبلوماسياً عليها من قبل الدول الأجنبية حول العالم، وهناك تسريبات أن سفارات عربية وغربية بدأت بمخاطبة صنعاء بتهنئتها بقدوم شهر رمضان وبمناسبة الهدنة المتفق عليها بينها وبين التحالف، كما أن هذه الخطابات بحسب مصادر سياسية تضمنت طلبات لإعادة هذه السفارات فتح سفاراتها في صنعاء أو على الأقل فتح قنصليات.
يرى مراقبون اقتصاديون بأن هذه الهدنة سيكون لها ارتداد إيجابي على المستوى الاقتصادي لليمن، على الأقل على مناطق سيطرة حكومة صنعاء التي تحتوي معظم السكان في اليمن بنسبة 75 في المائة.
أبرز هذه التداعيات الإيجابية:
– تحسن سعر صرف العملة الوطنية، فسحب العملة سينخفض والعرض النقدي سيزيد خصوصاً خلال شهر رمضان يضاف إلى أن حركة الاستيراد تتراجع خلال هذا الشهر الذي يعد سوق استهلاك سنوي وسوق كساء أيضاً، فحركة بيع العملات من قبل المواطنين تكون أكبر من الشراء.
– انخفاض أسعار المواد الغذائية نتيجة انخفاض تكلفة النقل.
– توفر المشتقات النفطية واستقرار السوق سيقضي على مؤامرة سحب العملة المحلية والعملات الأجنبية، وسيحقق العرض النقدي من العملات ارتفاع.
– انخفاض تعرفة تكلفة الكهرباء التجاري وعودتها إلى سعرها السابق قبل الأزمة.
– عودة تعرفة النقل الداخلي إلى السعر السابق بعد ارتفاعها بنسبة ١٠٠%.
– انخفاض أسعار الخدمات بمختلف أنواعها بعدما ارتفعت نتيجة أزمة الوقود ومنها المياه بعدما ارتفع سعر الوايت من المياه إلى الضعف.
– في حال دخول سفن جديدة لم تتعرض للقرصنة سيكون سعر بيع المشتقات النفطية أقل ومناسب بدون غرامات تأخير.
– الأسواق السوداء للمشتقات النفطية رغم محدوديتها في مناطق سيطرة حكومة صنعاء سوف تتوارى عن الأنظار في المدن والطرقات الرابطة بين المحافظات بعد أن تستقر الأسواق تموينياً بالبنزين والديزل.
– فتح الطرقات العامة يعني إنهاء معاناة كبيرة تمنى المواطن اليمني قبل سنوات أن تنتهي.
– من الأشياء الإيجابية أيضاً أنه كلما استقر السوق بالمشتقات النفطية تراجع الطلب على الغاز المنزلي كون الغاز البترولي أصبح يستخدم كوقود للآلاف من السيارات ويتسبب ذلك بضغط على الغاز المخصص للطهي، ولذلك تتصاعد مشكلة الغاز كلما كان هناك أزمة خانقة في الوقود.
– الهدنة ستخفف الكثير من الضغوط على المجتمع وستحد من الكثير من المعاناة.
المصدر : مركز الاتحاد للدراسات والتطوير: يحيى محمد الشرفي