مر الشعر النبوي بمراحل عدة بين توجيه البوصلة نحو العدو وتحديده وبين مرحلة اكتفت بالمدائح التي تذكر بذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفضائله ومحاسنه فقط، ونسلط الضوء على أكثر المراحل التي بها شبه كبير بمرحلتنا الراهنة بداية بمراحل الشعر النبوي في عصره وأهم شعرائه ثم ما بعد عصره إلى يومنا هذا.
..الشعر النبوي في عصر الرسول الأعظم
اشتهر أن شاعر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو حسان بن ثابت وهذا صحيح ولكنه غير دقيق حيث أن أول من كتب في الرسول الأعظم هو عمه أبو طالب عليه السلام وله الكثير من القصائد خصوصا التي قيلت في حصار شعب أبي طالب وما قبله وهو ما يشبه من نواح عدة ما نمر به من عدوان وحصار ومن نواح أخرى مع شعر حسان بن ثابت في المدينة ومعارك الرسول الكريم مع قوى الكفر …
فمن قصائد أبي طالب التي مثلت دعماً لرسول الله في الحصار وكان لها الوقع الكبير على كفار قريش حيث قال:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
وابشر وقر بذاك منك عيونا
أقسم أبو طالب أنهم لن يصلوا إلى الرسول الأعظم وهذا ما حدث وأعظم ما لاقاه صلوات الله عليه وآله هو بعد وفاة عمه فيما روي عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم.
وأما مظلومية إقصاء أبي طالب رضي الله عنه من قائمة شعراء الرسول الأعظم في كتب الكثيرين من المؤرخين هو الحقد عليه ممن سيطروا على الأمة بداية من بني أمية ومن لحقهم حتى يومنا هذا وبدافع الإساءة للرسول الأعظم والإمام علي ومحاولة كتم تفاصيل حصار شعب أبي طالب من قبل قريش لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ومعه جميع بني هاشم وأتباع الرسالة وهي مرحلة كشفها شعر أبي طالب وسلط الضوء عليها وقصائده كانت جزءا من المعركة النبوية ضد الكفر القرشي ومن مدائحه في رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم:
لقد أكرم الله النبي محمدا
فأكرم خلق الله في الناس أحمد
وشق له من اسمه ليجله
فذو العرش محمود وهذا محمد
ومن قصائده التي جمعت بين المدائح النبوية وللفرع الذي ينتمي إليه الرسول الأعظم وكذلك المواجهة مع قريش:
إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر
فعبد مناف سرها وصميمها
وإن حصلت أشراف عبد منافها
ففي هاشم أشرافها وقديمها
وإن فخرت يوما فإن محمدا
هو المصطفى من سرها وكريمها
تداعت قريش غثها وسمينها
علينا فلم تظفر وطاشت حلومها
وكنا قديما لا نـقـر ظلامـة
إذا ما ثنوا صعـر الخدود نقيمها
ونحمي حماها كل يوم كريهة
ونضرب عن أحجارها من يرومها
بنا انتعش العود الذواء وإنما
بأكنافنا تندى وتنمى أرومها
أما أكبر قصائد أبي طالب في الرسول الكريم وفي كفار قريش هي قصيدته اللامية التي تربو على الثمانين بيتا ففيها من المدائح والصفات التي ذكرها في رسول الله وهو أول من قالها شعرا وفيها من قوة البيان لتكون ردعا كافيا لمتطاولي الكفر في زعماء الكفر آنذاك عن مطامحهم لإخفاء نور النبوة المحمدية. …. فمن الأبيات المواجهة لعدوان وحصار قريش لنور النبوة في شعب أبي طالب قوله:
كذبتم وبيت الله نترك مكة
ونظعن إلا أمركم في بلابل
كذبتم وبيت الله نبذي محمدا
ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله
ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ثم قال:
بكفي فتى مثل الشهاب سميدع
أخي ثقة حامي الحقيقة باسل
شهورا وأياما وحولا محرما
علينا وتأتي حجة بعد قابل
ثم قال:
ونعم ابن أخت القوم غير مكذب
زهيرا حساما مفردا من حمائل
أشم من الشم البهاليل ينتمي
إلى حسب في حومة المجد فاضل
لعمري لقد كلّفت وجدا بأحمد
وإخوته دأب المحب المواصل
فمن مثله في الناس أي مؤمل
إذا قاسه الحكام عند التفاضل
حليم رشيد عادل غير طائش
يوالي إلها ليس عنه بغافل
كريم المساعي ماجد وابن ماجد
له إرث مجد ثابت غير ناصل
وأيده رب العباد بنصره
وأظهر دينا حقه غير زائل
لقد علموا أن ابننا لا مكذب
لدينا ولا يعني بقول الأباطل
فأصبح فينا أحمد في أرومة
يقصر عنها سورة المتطاول
حدبت بنفسي دونه وحميته
ودافعت عنه بالذرى والكلاكل
القصيدة كلها من أروع وأبلغ ما قيل في الشعر النبوي وشعر أبي طالب يحارب حتى يومنا هذا بسبب ما ذكرت سابقا.
حقبة حصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه وبني هاشم بها شبه كبير بما يحصل للشعب اليمني الآن وللخط النبوي الممتد فينا من حيث التكتم على ما يحصل علينا إعلاميا فكما كانت قصائد أبي طالب تعري جرائمهم وتفضح فعلهم فإن قصائد لشعراء الصمود اليمني تقوم بالمهمة.
وعلى صعيد ذكر الشعراء الذين كتبوا شعرا مسيئا في حق الرسول صلى الله عليه و آله وسلم فمن أبرزهم هو أمية بن الصلت وما قصائد أبي طالب وحسان رضي الله عنها إلا في سياق الرد على تخرصات قريش وأباطيلها فمواكبة أبي طالب للأحداث في قصائد عدة بقي حتى اليوم خالدا جديدا وإذا كان من أحد له قصب السبق في المدائح النبوية ممزوجة بإظهار القضية فلأبي طالب هذا الفضل ثم مواكبة حسان بن ثابت لمرحلة ما بعد الهجرة النبوية ومواكبة معاركها وانتصاراتها ورسم المشهد النبوي في المدينة المنورة بداية من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار والرد على من هجا الرسول الأعظم إلى وقت تبليغ الرسول أمر ربه بولاية الإمام علي بن ابي طالب عليه السلام ثم قصائده في رثاء الرسول الكريم ومما قاله صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله في حق حسان اهجهم وروح القدس معك وقصائد حسان بن ثابت شهيرة وهي في متناول الجميع.
أما المرحلة الثالثة التي سبقها المرحلة المكية مرحلة حصار شعب أبي طالب ثم المرحلة المدنية بعد الهجرة إلى المدينة المنورة جاءت مرحلة التمكين والفتح لمكة وبرز فيها اسم الشاعر كعب بن زهير صاحب قصيدة بانت سعاد فقلبي اليوم متبول المشهورة بالبردة فإن صاحبها كان ممن أهدر الرسول الكريم دمه قبل أن تقال القصيدة وعفا عنه صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله فزهير كان من المناوئين للإسلام ومن الذين قالوا شعر الهجاء في رسول الله وفي الإسلام وما قصيدته إلا اعتذار عما فعله ،وقصيدته كتب عليها الكثير من الشعراء كالبوصيري وأمير الشعراء أحمد شوقي وسميت أيضا بالبردة غير أن قوافيها مختلفة وبعض بحورها الشعرية أيضا مختلفة.
مرحلة الشعر النبوي بعد الفتح ودخول مكة كان من أبرز شعرائها حسان بن ثابت وكعب بن زهير لم يشتهر بقصائد نبوية أخرى سوى البردة.
أما مرحلة الشعر النبوي بعد وفاة الرسول الأعظم فقد حدثت الكثير من الأحداث المفصلية في تاريخ الأمة الإسلامية كيوم السقيفة ومعركة الجمل وصفين والنهروان وكربلاء وغيرها جعلت من مشهد الشعر النبوي يستذكر ويستدعي الرسول صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله في مضمون حديثه عما جرى ولإخباره على سبيل التبيين للناس أن أمورا فظيعة حدثت في الأمة من بعده وما أصاب آل بيته وما أصاب الأمة من ويلات بقتلها عترة خاتم الأنبياء والمرسلين.
فمن أشهر القصائد التي استدعت رسول الله في الشكوى إليه مما حصل قصائد الكميت ودعبل الخزاعي والسيد الحميري وقصيدة الفرزدق الشهيرة وهذه القصائد فيها الكثير من الأسى على ما حصل لذرية رسول الله وآل بيته وتذكير الناس بمقام رسول الله وفضله على الأمة وهو شكل آخر من الشعر النبوي حمل فيه المدائح النبوية ممزوجة بالأسى ومظلومية آل البيت من بعده وما صنع الطلقاء والجبابرة فيهم.
بعد هذه المرحلة الدامية التي صبغة المدائح النبوية بمآسي ومظلومية آل البيت جاءت مرحلة المدائح النبوية التي لا تذكر مواجهة مع عدو الإسلام ولا حتى مصاب آل البيت بل اكتفت بفضائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والتغزل في هواه ولم يكن فيها دعوة إلى خطه الجهادي مع أعلام الهدى كما كانت مرحلة الشعر النبوي في عصر دعبل والكميت وكما كانت من قبل مع رسول الله نفسه على لسان أبي طالب وحسان رضي الله عنهما، هذه المرحلة طالت وبعض ملامحها لا زال حتى الآن وتقام مسابقات شعرية في المدائح النبوية خالية من ذكر عدو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعداء الأمة ويجري تدجين الأمة لذلك، بينما المسابقات النبوية في اليمن وبعض الدول المتمسكة بخط رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم الجهادي تقام مسابقات شعرية نبوية لتحديد البوصلة نحو العدو ومواجهته لكي لا يظل الشعر النبوي مجرد رصف كلمات وتشبيهات.
ثم جاءت مرحلة جديدة في الشعر النبوي كان من طلائع الكتاب فيها الشاعر الكبير عبدالله البردوني وغيره من العمالقة الذين جعلوا من قصائدهم لإحياء نهجه ومقارعة الظلم والحث على السير في خطاه وللبردوني قصائد عدة وهي بشرى النبوة وفجر النبوة ويقظة الصحراء وهي قصائد شهيرة وللجواهري وأحمد الوائلي وكثير غيرهم نفس الأسلوب ولكن البردوني ومجايليه أسسوا لمرحلة تشبه مرحلة شعر دعبل والكميت والسيد الحميري لكن الطغاة اختلفوا هذه المرة وصاروا أنظمة ومسميات طغيانية تتحكم هذه المرة بالإسلام والمسلمين وتمكن لطغاة من داخل الأمة السيطرة على مصائرهم بمسميات متعددة كلها لا تخرج عن الاستعمار الغربي المبطن تارة والمباشر تارة أخرى وآخر أسلوب استخدمه الغرب في صناعة الوهابية واستثمار ما تقوم به من مشاريع لتقسيم الأمة وتمزيقها على غرار أسلوب بني أمية عدا عن زرعها مصطلحات كالقومية والديموقراطية بمنظورهم هم.
ومن أبيات البردوني التي لها ارتباط بمرحلة عصره ولها ارتباط بمرحلتنا في إحدى قصائده النبوية يقول:
يا قاتل الظلم صالت هاهنا وهنا فظائع أين منها زندك الواري
أرض الجنوب دياري وهي مهد أبي تئنّ ما بين سفّاح وسمسار
يشدّها قيد سجّان وينهشها سوط … ويحدو خطاها صوت خمّار
تعطي القياد وزيرا وهو متّجر بجوعها فهو فيها البايع الشاري
فكيف لانت لجلّاد الحمى ” عدن ” وكيف ساس حماها غدر فجّار؟
وقادها وعماء لا يبرّؤهم فعل وأقوالهم أقوال أبرار
أشباه ناس وخيرات البلاد لهم يا للرجال وشعب جائع عاري
أشباه ناس دنانير البلاد لهم ووزنهم لا يساوي ربع دينار
ولا يصونون عند الغدر أنفسهم فهل يصونون عهد الصحب والجار
ترى شخوصهم رسميّة وترى أطماعهم في الحمى أطمَاع تجار
* * *
أكاد أسخر منهم ثمّ تضحكني دعواهم أنّهم أصحاب أفكار
يبنون بالظلم دورا كي نمجّدهم ومجدهم رجس أخشاب وأحجار
لا تخبر الشعب عنهم إنّ أعينه ترى فظائعهم من خلف أستار
الآكلون جراح الشعب تخبرنا ثيابهم أنّهم آلات أشرار
ثيابهم رشوة تنبي مظاهرها بأنّها دمع أكباد وأـبصار
يشرون بالذلّ ألقابا تستّرهم لكنّهم يسترون العار بالعار
تحسّهم في يد المستعمرين كما تحسّ مسبحة في كفّ سحّار
ويقول في ختام القصيدة:
يا ” أحمد النور ” عفوا إن ثأرت ففي صدري جحيم تشظّت بين أشعاري
” طه ” إذا ثار إنشادي فإنّ أبي ” حسّان ” أخباره في الشعر أخباري
أنا ابن أنصارك الغرّ الألى قذفوا جيش الطغاة بجيش منك جرّار
تظافرت في الفدى حوليك أنفسهم كأنّهنّ قلاع خلف أسوار
نحن اليمانين يا ” طه ” تطير بنا إلى روابي العلا أرواح أنصار
إذا تذكّرت ” عمّارا ” ومبدأه فافخر بنا: إنّنا أحفاد ” عمّار ”
” طه ” إليك صلاة الشعر ترفعها روحي وتعزفها أوتار قيثار
لم يكن البردوني ورفاقه إلا حلقة مهمة في تصويب مسار الشعر النبوي في إحياء القضية وتصويب البوصلة نحو العدو والابتعاد عن تعويمه وجعله هلامياً غير مذكور وعلى هذه الخطى كان باع شعراء الصمود اليمني في قصائدهم النبوية وهم كثر وعلى رأسهم معاذ الجنيد والكثير الكثير الذين يحتاجون لدراسات مفصلة في شعرهم النبوي والأثر الذي أحدثوه فهم في مرحلة مباشرة مع العدو هذه المرة بعكس ما حصل مع البردوني ورفاقه كان صراعهم مع المستعمر السري وأدوات الغرب صاحبة القناع العربي أو الإسلامي أما في مواجهتنا للعدوان السعودي الأمريكي الإسرائيلي فنحن في مواجهة مباشرة مع الشيطان الأكبر ومع أدواته في وقت واحد.
المصدر: المسيرة