على الرغم من أن تركيا عضو في حلف الناتو، فإنَّ علاقاتها مع الولايات المتحدة والغرب كثيراً ما وصلت إلى حالات من التوتر والقطيعة. وكذلك دخلت في صراعات مع جوارها العربي، بداً من العراق، مروراً بسوريا ومصر، وصولاً إلى ليبيا.
لطالما رفع العديد من الأحزاب السياسية شعارات براقة، ولم يفشل في تحقيقها فحسب، بل ربما أنتج أيضاً النقيض من ذلك، وهو ما ينطبق بشكل كبير على حزب العدالة والتنمية، الذي لخّص سياسته الخارجية عند وصوله إلى الحكم في تركيا بـ”سياسة صفر مشاكل”، ووصل بأنقرة إلى صفر أصدقاء ربما.
لسنوات طويلة خلت، أقحمت تركيا نفسها في العديد من ملفات المنطقة، مغلّفة تدخلاتها بالمبادئ والقيم واللعب على عواطف شعوب المنطقة، وخصوصاً الإسلاميين، فهي دولة لم تحسم بعد الجدل الدائر حول هُويتها، وتتمسك بإسلاميتها وعينها على الغرب المسيحي، الّذي لم تترك وسيلة للانضمام إليه، لكنَّ جميع محاولاتها باءت بالفشل.
وعلى الرغم من أنها عضو في حلف الناتو، فإنَّ علاقاتها مع الولايات المتحدة والغرب كثيراً ما وصلت إلى حالات من التوتر والقطيعة. وكذلك، دخلت في صراعات مع جوارها العربي، بداً من العراق، مروراً بسوريا ومصر، وصولاً إلى ليبيا.
ولا ننسى دورها السيئ في أحداث “الربيع العربي”، إذ سعت لدعم التيارات الإسلامية وأذرعها التكفيرية، أملاً منها بزرع أنظمة عربية حليفة لها، في رغبة دفينة في استعادة الإرث الإمبراطوري السحيق، لكن هذا الحلم بدأ بالتلاشي مع ثبات الدولة السورية وسقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر.
كذلك، كانت في صدام شبه دائم مع الروس والإيرانيين، نتيجةً لتعارض تاريخي في المصالح، وكذلك في صراع مع الصين؛ تلك الدولة البعيدة عنها، نتيجة لتدخلاتها في القضايا الداخلية لبكين، وفي صراع مع قبرص واليونان، وربما “إسرائيل”.
ومع بداية الحرب الأوكرانية، نجحت أنقرة في الاستثمار فيها، فاستمالت الولايات المتحدة والغرب من خلال دعمها لأوكرانيا وإرسالها مسيرات “بيرقدار” الشهيرة التي ما زالت تتمتع بمواصفات متميزة عن سواها من المسيرات.
وقد كان لتلك المسيرات دور كبير في مواجهة الجيش الروسي في أوكرانيا، وإعلانها إغلاق مضيق البوسفور أمام البحرية الروسية، والالتزام بحظر الأجواء على الطيران الروسي. وكانت الضربة الأقوى هي قبولها انضمام كلّ من السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، وسوى ذلك من الإجراءات التي ظهرت فيها أنقرة وكأنها قد حسمت أمرها واختارت العداء لموسكو والوقوف مع الحلف الغربي، لكن ذلك لم يستمر طويلاً.
ولأنَّ الثبات على المواقف في السياسة يعني الموت في كثيرٍ من الأحيان، ونظراً إلى البراغماتية الكبيرة التي تتمتع بها السياسة التركية، والتي وصلت في العديد من المواقف حد الانتهازية السياسية، ولأنَّ الثابت الوحيد في السياسة هو المصلحة، فإن الخلاف يتركز على تعريف تلك المصلحة؛ ففي الدول المؤسساتية التي يحكمها القانون والدستور، يجب أن تعرّف تلك المصلحة على أنها الأمن القومي للدولة.
أما في الدول الممسوخة، والتي ليس لها طابع واضح لنظام الحكم، فإن تلك المصلحة تنتقل من كونها مصلحة وطنية عليا إلى مصلحة أضيق، أو ما يمكن أن نطلق عليه مصلحة دون وطنية (حزبية كانت أو طائفية أو أسرية أو شخصية…).
وكثيراً ما سعت أنقرة للخلط بين أخلاقية الدوافع وبراغماتية الأهداف، في محاولة منها لجعل الهدف يبدو كأنه مبدأ تسعى لتحقيقه، وهو ما بدأ يظهر بقوة مع اقتراب الانتخابات في تركيا، والتي ستكون بعد أقل من سنة؛ هذه الانتخابات التي تأتي في ظلّ أزمة اقتصادية كبيرة تعانيها تركيا، وفي ظل خلافات داخل حزب العدالة والتنمية ذاته، وفي ظل تنامي دور المعارضة التركية الرافضة للكثير من السياسات التي اتبعها إردوغان، وخصوصاً ما يتعلق منها بالأزمة السورية، وملف اللاجئين السوريين في تركيا، وسوى ذلك من المواقف.
من هنا، بدأت تركيا تفكر بطريقة مختلفة، هدفها حل الخلافات مع دول الجوار أو تجميد العديد منها، والسعي لتحسين وضع الليرة التركية وإيقاف تراجعها بشتى الوسائل. وقد تجسد ذلك في قمة طهران التي جمعت بين تركيا وروسيا وإيران، لتتبعها بعد أيام قليلة قمة جديدة جمعت الرئيسين التركي والروسي في مدينة سوتشي التركية.
ما الذي كان يريده الطرفان؟
اتّسم موقف تركيا من الحرب في أوكرانيا بازدواجية واضحة، فهي تبيع الأسلحة لأوكرانيا، وخصوصاً مسيّرات “بيرقدار” المتطورة تقنياً على مثيلاتها، لكنها في الوقت نفسه، أصبحت سوقاً لتجارة النحاس والأدوات المنزلية والآلات بين روسيا والدول الغربية، وذلك بسبب العقوبات الغربية على موسكو.
وفي الفترة الممتدة من شباط/فبراير وحتى حزيران/يونيو الماضي، جرى التواصل بين الجانبين، إذ أدى الإحباط التركي المتزايد من الغرب دوراً قوياً في تشكيل هذه العلاقة، رغم أنها تتعارض مع كون تركيا دولة أطلسية. وقدّمت روسيا مقترحاً يتضمن قيام موسكو بشراء حصص في مصافي النفط التركية وخزاناتها، والسماح للبنوك التركية بفتح حسابات مراسلة لعدد كبير من البنوك الروسية.
وجرى السماح للشركات الروسية بإقامة الأعمال في مناطق التجارة الحرة التركية. كما ارتفعت الصادرات التركية الشهرية إلى موسكو بنحو 400 مليون دولار، لكن هذا الرقم يبقى بسيطاً جداً مقارنة بهدف البلدين في الوصول إلى 100 مليار دولار. وخلال الأشهر السبعة الأولى من هذا العام، ارتفعت الصادرات التركية إلى روسيا من 3 مليارات إلى 3.64 مليارات دولار مقارنة بالعام الماضي.
وتشير التوقعات إلى ارتفاع مستوى التبادل التجاري بين البلدين إلى 10 مليارات دولار في نهاية هذا العام. وبذلك، تكون تركيا هي الدولة الرابعة في قائمة أكبر موردي البضائع إلى موسكو. كما تم الاتفاق بين الجانبين على أن تقوم أنقرة بدفع جزء من ثمن الغاز الذي تستورده من موسكو بالروبل الروسي.
وبعد قمة سوتشي، قال نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك: “إننا نتحدّث عن التحول إلى العملات الوطنية بشكل تدريجي. وفي المرحلة الأولى، سيتم دفع جزء من التوريدات بالروبل الروسي”. وبالتالي، زيادة الصادرات التركية إلى الأسواق الروسية، بغية تحصيل أكبر قدر ممكن من العملة الروسية، فالنفط بأسعاره الحالية يمكن أن يرفع واردات تركيا من الطاقة بـ70 مليار دولار، أي 3 أضعاف ما أنفقته على النفط والغاز العام الماضي، وهو ما سيسهم في كسر العقوبات الغربية على موسكو، ويجعل العديد من الدول تفكّر في ذلك، وخصوصاً الصين، التي قد تلجأ إلى الخيار ذاته في ظل اشتداد الأزمة مع الولايات المتحدة حول قضية تايوان.
تسعى تركيا وروسيا منذ سنوات للتخلّص من هيمنة الدولار واليورو على تعاملاتهما التجارية، وترغبان في جعل العملتين المحليتين عنصراً رئيسياً في المبادلات التجارية القائمة بين القطاعين العام والخاص لدى الطرفين، لأنَّ تركيا تعاني نقصاً في مخزون العملات الأجنبية لديها. هذه الخطوة قد تساهم في تخفيف العجز الحاصل في مخزونها، ولو بشكل بسيط.
تحتاج تركيا إلى استثمارات موسكو وغازها، فيما تحتاج موسكو إلى حلفاء يخففون من أثر العقوبات الغربية المفروضة عليها نتيجة للحرب الأوكرانية، ولتركيا أهمية بالغة بالنسبة إلى موسكو، بسبب جوارها الجغرافي والدور المحوري الذي تؤديه أنقرة في التجارة العالمية، والإمكانيات الاقتصادية الكبيرة التي تتمتع بها، فضلاً عن كونها قوة إقليمية صاعدة، وتمتلك مفاتيح البحر الأسود.
والأهم من كلّ ذلك أنها عضو في الناتو، إذ يرى الرئيس بوتين أن الفرصة سانحة لإحداث شرخ داخل الحلف عبر استمالة تركيا، وهو كابوس يخشاه الغرب كثيراً، بل يخاف أن تتحول أنقرة إلى مركز إمداد للمعدات التقنية إلى موسكو.
لقد استفادت أنقرة من رحيل الشركات الأميركية والأوربية من موسكو، وهو ما أعطى مزايا فريدة للشركات التركية، فسمحت موسكو للطيران التركي بزيادة عدد الرحلات بين البلدين، وخصوصاً أن الفترة الآن هي ذروة الموسم السياحي المعتاد. وقد حصلت الشركات التركية على ثلثي عدد الرحلات.
وفي مجال العقارات، تصدّر الروس قائمة مشتري العقارات الأجانب في تركيا، فقد بلغ عدد العقارات التي بيعت للروس في شهر أيار/مايو الماضي 1200 عقار، وكذلك اشترى الأوكرانيون 241 منزلاً، وهو ما حفز سوق العقارات في تركيا.
حاجة تركيا إلى ضوء أخضر روسي للبدء بحملتها العسكرية في الشمال السوري
عام 2017، قامت روسيا بتزويد أنقرة بصواريخ “إس 400″، ثم أصبحت تركيا ضامناً في منصة أستانة السورية إلى جانب روسيا وإيران، على الرغم من الاختلاف في المواقف بين الدول الثلاث حول الوضع السوري.
هذا الاختلاف جعل تركيا في الطرف المعادي لموسكو في كثير من الأحيان في الأرض السورية، لكن البلدين استطاعا التعاون والتنسيق، وتجاوزا الأزمات التي حدثت، مثل قيام تركيا بإسقاط طائرة حربية روسية في سوريا.
واستطاعت تركيا تنفيذ 3 عمليات داخل سوريا، هي:
1- عملية “درع الفرات” في آب/أغسطس 2016: هي أولى العمليات العسكرية التركية داخل الأراضي السورية. كان الهدف منها دعم فصائل “المعارضة السورية” لطرد مقاتلي تنظيم “داعش” من ريفي حلب الشمالي والشرقي.
2- عملية “غصن الزيتون” في كانون الثاني/يناير 2018: بهدف السيطرة على مدينة عفرين السورية وتخليصها من مسلحي تنظيم حزب العمال الكردستاني، ووحدات حماية الشعب الكردية، الَّذين تصنفهم أنقرة “تنظيمات إرهابية”.
3- عملية “نبع السلام” في تشرين الأول/أكتوبر 2019: تعد العملية العسكرية الثالثة التي تقوم بها تركيا داخل الأراضي السورية منذ بداية الحرب في سوريا في آذار/مارس 2011، وتهدف إلى إنشاء “منطقة آمنة” بعمق 30 كم على الشريط الحدودي داخل سوريا، بذريعة حماية نفسها من تهديدات المنظمات التي تصنفها “إرهابية”، وأبرزها تنظيم “داعش”، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وحزب العمال الكردستاني (PKK)، وقوات حماية الشعب الكردية (YPG).
وتسعى تركيا منذ عدة أشهر إلى البدء بعمليتها العسكرية الرابعة في الشمال السوري (عملية “نبع السلام 2”)، التي صرّح الرئيس إردوغان عدة مرات بنيته البدء بها، لكنه لم يستطع تنفيذ ذلك حتى الآن بسبب الردع الروسي، فأنقرة تدرك أنها لا يمكنها الشروع بذلك من دون مشاركة الطيران، ولا يمكن للطيران التركي أن يدخل الأراضي السورية من دون موافقة موسكو، التي تريد بدورها تنفيذ العملية بالتعاون والتنسيق مع الحكومة السورية. لذا، اشترطت على أنقرة التواصل مع الحكومة السورية والتنسيق معها.
ختاماً
أدرك إردوغان أن لا مخرج من الأزمة الداخلية إلا بتحقيق إنجازات خارجية، فسعى لتوظيف لقاء سوتشي للتأكيد أن تركيا تمر في أقوى فتراتها دبلوماسياً وعسكرياً، مذكّراً بدور بلاده في حل المشاكل الدولية عقب التوصل إلى اتفاق نقل القمح الأوكراني؛ فتركيا هي الدولة الوحيدة داخل الناتو التي تستطيع حالياً التحاور مع روسيا حول كل الملفات، سواء فيما يخص مواصلة ضخ الغاز إلى أوروبا أو بشأن وجوب إنهاء العملية العسكرية ضد أوكرانيا، وهو ما سيخفف ربما من الحقد الغربي عليها ويجنّبها العقوبات الدولية المتوقعة.
المصدر: الميادين