مسيرة الأربعين ورسائل دعم فلسطين
العين برس/ تقرير
عادل الجبوري
على مدى عقود من الزمن، حملت مسيرة زيارة أربعين الإمام الحسين عليه السلام، مضامين وأبعاداً سياسية مهمة وعميقة في مواجهة الأنظمة الاستبدادية الديكتاتورية، والتصدي للظلم والطغيان، ومحاربة التيارات والأفكار التضليلية المنحرفة، مستمدة من نهج ومباديء الثورة الحسينية، قيم الشجاعة والجرأة والإقدام في تبني المواقف المبدئية الصحيحة. وقد مثلت المقولة الشائعة (لو قطعوا أرجلنا واليدين نأتيك زحفًا سيدي يا حسين) مصداقاً لقوة الإرادة، وثبات الموقف، وصلابة العقيدة، لدى زوار الإمام الحسين عليه السلام الذين كانوا يقطعون عشرات ومئات الكيلومترات في ظل أوضاع سياسية وأمنية خطيرة للغاية، ناهيك عن الظروف المناخية الصعبة في كثير من الأحيان.
ولعله في كل الحقب والمراحل، كانت هناك وقائع وأحداث رافقت مسيرة الأربعين، مثلت رسائل سياسية بليغة ومعبرة، لا يمكن بأي حال من الأحوال نسيانها أو تناسيها أو التغاضي عنها مهما طال الزمن وتبدلت الظروف والأحوال.
وفي تاريخنا المعاصر، مثلت انتفاضة صفر في عام 1977، والتي امتد ميدانها من النجف الأشرف إلى كربلاء المقدسة، رسالة سياسية عميقة ومؤثرة في وقت كانت نزعة الديكتاتورية والاستبداد تترسخ وتتنامى بصورة سريعة لدى النظام الحاكم في العراق حينذاك، حيث كانت أبرز معالم تلك النزعة، محاربة كل مظاهر الثقافة الإسلامية ببعديها السياسي والاجتماعي.
فالمرحلة التي حدثت فيها انتفاضة صفر، تميزت بتمتع النظام الحاكم حينذاك بعناصر قوة عديدة داخليًا وخارجيًا، مما يعني أن رفع راية المواجهة والتصدي له في ذلك الوقت، كان يتطلب قدرًا كبيرًا من الشجاعة والجرأة والإقدام، وقوة الإرادة، وصلابة الموقف، وتحمل كل تبعات وآثار ونتائج ذلك.
وما أعطى لتلك الانتفاضة أهميتها، هو أن واحدًا من أبرز عوامل انتصارها، تمثل بأنها استمدت نهجها الفكري والتضحوي من نهج ثورة الإمام الحسين عليه السلام، وهي إنما انطلقت وتفجرت للمحافظة على الإرث العظيم والخالد للثورة الحسينية.
وقد بدا صعباً على بعض فرقاء الداخل استيعاب معادلات القوة في هذه الانتفاضة، وفق الحسابات المادية المنظورة والمحسوسة، فالنظام الحاكم لجأ إلى استخدام كل آلته الحربية من طائرات ومدافع ودبابات وأجهزة أمنية قمعية، للتصدي لجموع الزائرين العزل الذين كانوا متوجهين صوب كربلاء الشهادة والفداء والإباء والتضحية والصمود.
وكان الكثيرون قد تصوروا وافترضوا خطأ أن النظام الحاكم نجح في قمع الانتفاضة وإطفاء جذوتها، مثلما توهم بعض الحالمين قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان أن يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد وعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن قد انتصروا على الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه في واقعة الطف، ولو كان النظام الحاكم قد انتصر فعلاً لما تفجرت بعد عامين انتفاضة رجب، ولما تفجرت بعد عدة أعوام انتفاضة شعبان، ولما شهد العالم أروع صور البطولة والتضحية من قبل أبناء الشعب العراقي.
وقبل انتفاضة صفر وبعدها، سلسلة متواصلة من مختلف أشكال القمع والاستهداف والمطاردة والتضييق على زوار الحسين عليه السلام، ولعل شهادات من بقي على قيد الحياة حتى الآن كشفت عن خفايا وحقائق مؤلمة من جانب، ومواقف مشرفة وناصعة من جانب آخر.
وبعد الإطاحة بنظام صدام (9 نيسان-إبريل 2003)، اتخذ استهداف مسيرة الأربعين أشكالاً أخرى، كانت الجماعات الإرهابية التكفيرية، “القاعدة” ومن ثم “داعش”، وبقايا النظام السابق، وأجهزة المخابرات الخارجية، والوجود الأجنبي، أبرز الأدوات والمحركات الجديدة له، وحلت السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة والانتحاريون بدلاً عن المؤسسات والأجهزة القمعية للنظام السابق، وقد شهدت الأعوام الأولى بعد سقوط الأخير، الكثير من العمليات الإرهابية التي طالت الزائرين في داخل كربلاء وخارجها، وأدت إلى استشهاد العشرات إن لم يكن المئات، بيد أن ذلك لم يوقف مسيرة الأربعين ولم يضعفها، بل على العكس من ذلك تماماً، زادها قوة وتفاعلاً وتوسعًا واتساعًا، وتصاعُدُ أرقام الزائرين ومواكب الخدمة عامًا بعد عام خير شاهد ودليل.
ولا يمكن اختزال زيارة الأربعين بالجانب الديني العاطفي فقط، فهي فضلاً عن ذلك تعتبر منبرًا حرًا لتوجيه رسائل سياسية واجتماعية وأخلاقية إلى العالم أجمع، ومن بين أبرز وأهم تلك الرسائل:
-أن الشعب العراقي، شعب حسيني حر لا يساوم على حساب المبادئ والثوابت، وأن مهزلة التطبيع مع الكيان الصهيوني إن حدثت في بعض البلدان العربية فهي لايمكن أن تحدث بأي شكل من الأشكال في العراق، وأن من يسعى ويضغط بهذا الاتجاه إنما يوهم نفسه بضرب من ضروب الخيال.
-أن الشباب العراقي بمختلف خلفياتهم الثقافية والاجتماعية والسياسية على أهبة الاستعداد للتصدي لكل من تسول له نفسه مجرد الترويج لفكرة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهؤلاء الشباب، وإن كانوا يسلكون الطرق السلمية في رفض مفهوم التطبيع، فإنهم مستعدون لحمل السلاح وبذل الأرواح في حال اقتضى الأمر.
-أن الشعب العراقي يقف بقوة مع الشعب الفلسطيني ومع كل الأحرار في المنطقة والعالم، وأن دعم المقاومة الفلسطينية وهي تخوض معركة “طوفان الأقصى” مع الكيان الغاصب، يعد من أولويات وثوابت العراق بقواه السياسية والمجتمعية المختلفة.
ولا شك أن من يدقق ويتأمل في هذه الرسائل، يجد أن كل واحدة منها تكمل الأخرى، لتصيغ بمجموعها المواقف المبدئية الشاملة حيال قضايا محورية تشكل الإطار العام لعملية الإصلاح والبناء الحقيقي السليم للدولة والفرد والمجتمع، وهي في واقع الأمر تعد استمرارًا وتأكيدًا لمضامين ومعاني ودلالات وجوهر زيارة الأربعين منذ انبثاقها، وستبقى كذلك دون تغيير، ارتباطًا بالشعار الحسيني الخالد (كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء).
المصدر: موقع العهد