نهاية الربيع العربي من حيث انطلق بجميع فصوله المضيئة والمظلمة يجب ألا يحجب أن المشروع الديمقراطي في المنطقة لا يمكن أن يقبر نهائياً وإلى الأبد. فتاريخ الدول والشعوب يبنى بالمراكمة. ولعل ما حصل وما يحصل في تونس يحتاج إلى وقفة تأمل وتبصر واستشراف.
قبل 11 سنة، وبينما كانت الأنظمة الديكتاتورية والسلطوية بشقيها المدني والعسكري-الأمني، الجملوكي-جمهوريات الرؤساء مدى الحياة-والملكي، جاثمة بكلالها على السواد الأعظم من الدول العربية، كانت تونس منطلقاً لشرارة ثورة ألهبت جذوة الأمل في الشارع العربي.
لقد كانت لحظة إذاعة خبر فرار الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي إلى خارج البلاد وقتذاك حدثاً فارقاً في التاريخ السياسي العربي المعاصر.
في الواقع، لم يكن أشد المتفائلين يتوقع انهيار نظام الحكم في تونس عندئذ بتلك الطريقة بعد أن حكم البلاد طوال 23 عاماً بالحديد والنار وبكل الأسلحة والأدوات غير الديمقراطية.
وبصرف النظر عن الجدل الدائر في وجاهة مصطلح الربيع العربي المتداول بكثافة إعلامياً وأكاديمياً في السنوات الماضية، وبعيداً من نظرية المؤامرة حتى وإن كانت جزءاً من التاريخ، فإنه لا يمكن غمط حقيقة مؤداها أن ما حدث في المنطقة العربية كان أشبه بفصل استثنائي بكل المقاييس في تاريخ هذا الجزء من العالم المثخن بالاستبداد وقمع الحريات وتفشي مظاهر الفساد وغياب الديمقراطية.
الساحات العامة والميادين التي ولدت من رحمها حركات وشعارات وحتى مشروعات إعلامية تواقة إلى الحرية والتغيير والمقاومة انتصاراً لإرادة فئات عديدة من الشعوب العربية الحالمة بغد أفضل، حوّلت فكرة الثورة إلى ما يشبه العدوى من تونس إلى مصر مروراً بالمغرب والجزائر واليمن.
لا شك في أن الوضع كان مختلفاً في سوريا وليبيا، لكن ما لا يمكن إنكاره أن فئات شعبية لا بأس بها كانت تأمل الحرية ولا شيء غير الحرية، فضلاً عن التغيير الديمقراطي، قبل أن تتحول هذه البلدان وغيرها إلى ساحات صراع محاور إقليمية ودولية كانت الجماعات الإرهابية إحدى الدمى التي وظفت فيها.
في تونس انطلق الحلم العربي في بدء التحوّل نحو الديمقراطية. ولم يكن ما حدث في بلاد الشاعر أبو القاسم الشابي الذي كتب عن إرادة الحياة محض مصادفة، ففي هذا البلد سيرورة تاريخية يمكن توصيفها بأنها خارج الزمن السياسي العربي البطيء والجامد والمتكلّس.
كانت تونس سباقة من خلال وضع أول دستور في العالم العربي والإسلامي عام 1861 ضمن سياق تجربة تحديثية سبقت المدّ الاستعماري الغاشم. وكان لها الفضل في ولادة أوّل حركة حقوقيّة علمانية في العالمين العربي والأفريقي منذ سبعينيات القرن الماضي.
في تونس مجتمع مدني قوي وفاعل تشارك فيه المرأة بفعّالية قلّما نجد لها مثيلاً في المنطقة؛ فاتحاد الشغل التونسي على سبيل الذكر لا الحصر بثقله وتأثيره وتاريخه الأثيل الذي سبق تأسيس الدولة الوطنية المستقلة يمكن المجازفة بالقول إنه يمثّل هو الآخر تجربة نقابية فريدة في الفضاء العربي والإسلامي.
في تونس أيضاً نخب متعلمة ومثقفة تتساوى فيها المرأة والرجل في الحقوق والواجبات. نخب لها امتداد وعمق بفضل مراهنة الدولة الوطنية في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة (1957-1987) على تسليح العقول بالعلم والمعرفة والفكر الجمهوري المدني المستنير، لا تسليح الجيش بالعتاد والمدفعيات الثقيلة لخوض غمار حروب عبثية. كان ذلك بفضل الاستثمار في المدارس والمعاهد والجامعات المنتشرة في كل شبر من البلاد.
في الحقيقة، تجربة الانتقال الديمقراطي التي عاشتها تونس طوال العشرية الماضية التي يقال عنها في إطار التزييف السياسي الفج للتاريخ إنها سوداء، وهو أمر يتطلب شيئاً من التنسيب والعقلنة، كانت بلا شك عصارة لروح مشروع التحديث والاستنارة العربية من خير الدين التونسي، والطاهر الحداد، مروراً بشكيب أرسلان، وعبد الرحمن الكواكبي، ورفاعة الطهطاوي، وصولاً إلى هشام جعيط، ومحمد الطالبي، وعبد الله العروي.
إن القول إن تونس كانت أكثر أهليةً من غيرها في العالم العربي لامتطاء قطار الديمقراطية ليس فيه أيّ حماسة شوفينية بل في ذلك قراءة موضوعية لتاريخ هذا البلد مقارنة بسائر البلدان العربية والإسلامية.
نهاية قوس الانتقال الديمقراطي في تونس من خلال حدث الاستفتاء الأخير المثير للجدل الذي بسط من خلاله الرئيس قيس سعيّد نفوذه وسطوته على جميع السلطات، ومرّر من خلاله دستوره الجديد بنسبة تسعينية أعادت البلاد إلى زمن كان يفترض أنه أصبح غابراً، سبقه في ذلك انهيار التجربة في مصر عبر إطاحة رئيسٍ منتخب واحتواء حراك الشارع في المغرب والجزائر من داخل الأنظمة الحاكمة نفسها التي انتفضت ضدها فئات واسعة من هذه الشعوب.
لم يكن اليمن أفضل حالاً من ليبيا التي مزّقتها الحرب الأهلية والتدخلات الخارجية الطامعة في ثروات البلاد النفطية كما هي الحال في سوريا مع مراعاة خصوصية كل بلد، حيث كانت هذه الدولة مسرحاً لحرب شبه عالمية تداخل فيها العامل الجيو-سياسي بالفاعل الإرهابي المتدثّر بعباءة الدين ومشروع الدولة الإسلامية الهلامية.
إخفاق الانتقال الديمقراطي في تونس، ومن خلفه الربيع العربي، لا يتحمل مسؤوليته الرئيس سعيّد الذي وجد الأرضية خصبة لإمرار مشروعه الشعبوي الذي لا ينبئ بأي أفق ديمقراطي.
الرئيس سعيّد نفسه في مداخلة شهيرة له قال بـ”عظمة” لسانه عندما كان أستاذاً جامعياً يدرّس القانون إنّ الاستفتاءات أداة من أدوات الديكتاتورية المتنكرة، وتمنّى أن يجرى في يوم ما استفتاء في العالم العربي يقول فيه الشعب المستفتى لا للحاكم صاحب المبادرة.
الاستفتاء الأخير في تونس لم يكن في مشروع حقيقي للنهوض بالبلاد عبر تصحيح مسار الثورة وفتح آفاق جديدة للحياة الديمقراطية في البلاد وبحث سبل إنقاذ اقتصادي واجتماعي من الوضع الذي آل إليه الشعب التونسي. لقد كان التصويت فيه عاطفياً شعبوياً انتقاماً ممن حكموا في العشرية الماضية، وفي مقدّمهم حزب النهضة الإسلامي.
كان تصويتاً لا عقلانياً في مسار سياسي أقل ما يقال فيه إنه غير ديمقراطي، وهو يدور في فلك شخص يحظى بثقة فئة من التونسيين، في حين تعارضه فئات أخرى قاطعت الاستفتاء، في الوقت الذي عزف كثيرون عن الشأن العام معارضة ونفروا من هذا الاستقطاب الثنائي العقيم.
لقد كان الإسلام السياسي منذ بدايات الربيع العربي عقبة كأداء أمام فرص ترسيخ الديمقراطية في البلدان العربية. كان الإسلاميون أكبر المستفيدين من التحوّل الديمقراطي، حينما ظفروا بأصوات أغلبية الناخبين في عدد من التجارب الانتخابية. لكنهم كانوا بمثابة الوبال الذي حلّ بهذه التجارب لضعف ثقافة الدولة لديهم، ولغياب أي برنامج حكم ديمقراطي عقلاني من شأنه اجتراح الحلول لمشكلات الناس، لا توسيع دائرة الأعداء والخصوم ومراكمة القلاقل. كان همهم الوحيد التمكن من السلطة من دون فهم طبيعة المجتمعات التي يحكمونها وإكراهات الدولة ومقتضياتها ربطاً بالسياقات والتحولات المحلية والإقليمية والدولية. لم تشفع لهم الشعارات الفضفاضة التي كانت تدغدغ ظرفياً المشاعر الدينية بالصمود في وجه الرياح العاتية الداخلية والخارجية.
من المهم أن نقر أيضاً بأن موجة الربيع العربي كان لها أعداء شرسون في المنطقة. لم يكن من السهل أن تسمح الأنظمة العربية بانتشار عدوى الديمقراطية. لقد عمّق صراع المحاور في المنطقة أزمة الربيع العربي إذ ألقى كلّ هذا بظلاله على عدد من التجارب بما في ذلك التجربة التونسية.
الإقرار بنهاية الربيع العربي ليس فيه أي احتفاء بانكسار محاولات الانتقال الديمقراطي في الفضاء العربي، بقدر ما هو يحض ضمناً على التفكير في الأسباب العميقة التي أدّت إلى هذه الخيبات، وبحث فرص المستقبل في استئناف المشروع الديمقراطي.
لقد كانت تونس على امتداد السنوات الماضية معياراً لقياس فرص تحقيق انتقال ديمقراطي سلمي مدني في المنطقة العربية. كان هناك رهان حقيقي على إمكان نجاح التجربة، حتى تكون بمنزلة نبراس ينير الطريق عاجلاً أو آجلاً.
لا غرو في القول إن مطلب الديمقراطية في المنطقة العربية لم يكن قط نابعاً من إرادة شعبية عميقة بقدر ما كان في غالب الحالات مطلباً نخبوياً. لقد كان لصدمة الديمقراطية العربية في السنوات الماضية وقعٌ حمّال أوجه. وهناك معادلات ملغّمة لابد من تفهمها وسبر أغوارها.
ثنائية الأمن والحرية، الخبز والديمقراطية تحمل في طياتها تناقضات ومفارقات جديرة بالتمعن والتدبر هي الأخرى. تجارب التاريخ بدورها علمتنا أنّ الشعوب والمجتمعات مهما كان عمق وعيها السياسي، حينما تجوع فهي عادة ما تكفر بالديمقراطية لتعبر في وعيها الباطني بشكل أو بآخر عن حنين إلى الاستبداد والقبضة الحديدية والسلطة المشخصنة على أمل توافر حياة كفاف تخال أنها قد فقدت جراء متاهات تجارب الانتقال الديمقراطي التي تكون تكلفتها الاقتصادية والاجتماعية وحتى النفسية باهظة.
في هذا السياق العام بالذات، انهارت تجربة جمهورية فايمار في ألمانيا، على سبيل الذكر لا الحصر، في الثلاثي الأول من القرن العشرين لتمهد بذلك الطريق لوصول هتلر ومشروعه النازي إلى سدّة الحكم.
نجاح الرئيس التونسي قيس سعيّد في إمرار دستوره أحادياً، وغلق قوس الانتقال الديمقراطي بعد استبعاد جميع الأطراف المعارضة له، لا يعنيان توفير الضمانات الكافية لاستمرار مشروعه الشعبوي الذي هو رهين بشخص قد تطول فترة حكمه، وقد تقصر، والمؤكد أنّ زمن المجد الشخصي السياسي، ليس زمن تحديات الدولة الاقتصادية والاجتماعية على وجه الخصوص.
إنّ نهاية الربيع العربي من حيث انطلق بجميع فصوله المضيئة والمظلمة يجب ألا يحجب أن المشروع الديمقراطي في المنطقة لا يمكن أن يقبر نهائياً وإلى الأبد. فتاريخ الدول والشعوب يبنى بالمراكمة. ولعل ما حصل وما يحصل في تونس يحتاج إلى وقفة تأمل وتبصر واستشراف من أجل استقراء المستقبل.
في آخر حواراته الصحافية التي أجراها مع موقع الكتيبة قبل أن تباغته الموت، تحدث المفكر التونسي والعربي الكبير هشام جعيط عن تقييمه لتجربة الانتقال الديمقراطي في تونس قائلاً “إن التونسيين لم يكونوا قادرين على هضم نظام ديمقراطي والمكسب الوحيد الذي تحقّق من الثورة هو حرية التعبير.. الشعب التونسي برمته غير قادر على قبول النظام الديمقراطي إلاّ بعد فترة طويلة من التمرّس”.
إنّ في طيات هذه القراءة العقلانية التي هي عصارة مؤرخ فذّ اشتغل في علم التاريخ طوال قرابة نصف قرن من الزمن خير دليل على أنّ تجارب الشعوب والمجتمعات بما في ذلك العربية لا يمكن حصرها في مدة زمنية قصيرة، ففي السيرورة التاريخية مدّ وجزر، لكن الأهم هو أنّ الديمقراطية ستكون حتما قدَر التواقين إلى الحرية والعدالة في المنطقة.
ومختصر القول، يمكن الجزم بأنّ نهاية الربيع العربي لا تعني نهاية التاريخ وفق أطروحة الفيلسوف الأميركي فرانسيس فوكوياما على تلك الشاكلة التي كذبتها الوقائع بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي. ولعلّ الأجيال القادمة قد تنجح في ما أخفقت فيه جيل الربيع العربي الذي قد يكون زَرع من حيث لا يعلم بذرة المشروع الديمقراطي في المنطقة. غير أن هذا يبقى رهيناً بالتعويل على الذات، لا على الوصفات الغربية المسقطة، فضلاً عن ضرورة الاتعاظ بالتجارب السابقة.
المصدر: الميادين