مارك روته.. السياسي سيئ السمعة والداعم للاحتلال في منصب أمين عام “الناتو”
العين برس/ تقرير
الكاتب: علي دربج
لم يكن الإجماع الساحق الذي حظي به مارك روته (رئيس الوزراء الهولندي السابق) للفوز بمنصب الأمين العام الجديد لحلف “الناتو” في حزيران/يونيو الماضي من قبل الدول الأعضاء في الحلف، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، خلفاً للنرويجي ينس ستولتنبرغ، تقديراً لإنجازاته وانتصاراته العسكرية، بل بسبب تبعيته العمياء لواشنطن ومساندته لها في جميع تدخلاتها واعتداءاتها، كما تفعل حالياً مع اليمن، ومن قبلها مشاركة بلاده المباشرة بتدمير ليبيا والعراق. أما الأهم، فهو انحيازه الدائم إلى الاحتلال الإسرائيلي، وتأييده المطلق لمذابح ومجازر جيشه ضد الشعب الفلسطيني في غزة، ومدّه بكل وسائل الدعم السياسي والدبلوماسي.
التاريخ السياسي لروته
ليس من المتوقع أن ينحرف روته كثيراً عن الخط السياسي الذي انتهجه سلفه ستولتنبرغ، لكن عملياً، أثبت الأمين العام الجديد طاعته الشديدة للولايات المتحدة ورغبته في التكيف بمرونة مع الاملاءات الأميركية.
قبل دخوله عالم السياسية، كان روته رئيساً في مصنع زبدة الفول السوداني. وفي سنواته الأولى كرئيس للوزراء، كان يقال في كثير من الأحيان إنه يفتقر إلى الرؤية والمبادئ الأخلاقية في السياسة، لذلك تمت الإشادة به حيناً بسبب مهاراته الخطابية، وحيناً آخر جرى انتقاده، نظراً إلى سخريته من المشكلات المجتمعية الخطيرة. ولهذا، أُطلقت عليه ألقاب مختلفة مثل: “مارك تيفلون” (نسبة إلى أواني الطهي المقاومة للالتصاق) أو “زلق مثل ثعبان البحر” (أي الثعبان الأملس المراوغ).
ووسط سخرية الكثيرين، أساء روته إلى سمعته بنفسه بمجاهرته بأنه “رجل بدون رؤية”. ومع ذلك، على الرغم من هذه الصفة التي لازمته، استمر 14 عاماً في الحكم كأطول مدة لرئيس وزراء في تاريخ هولندا.
وبناء عليه، وبحلول نهاية تشرين الأول/أكتوبر الماضي، عبّر روته بشكل علني عن رغبته في خلافة ينس ستولتنبرغ على رأس حلف “الناتو”. ولكي يتولى هذا المنصب، كان يعتقد أنه يحتاج إلى إثبات جدارته بالقيادة بالطريقة التي ترسمها وتفصّلها الدول الأعضاء الأقوى في الحلف، وخصوصاً واشنطن. ولذلك، ولإقناع الولايات المتحدة بمؤهلاته، استخدم نفوذه لمواءمة موقف الحكومة الهولندية مع موقف إدارة بايدن قدر الإمكان.
هولندا.. بين التغني بالقانون الدولي ودعم العدوان والمجازر
يرى مراقبون أن هولندا تعيش حالة من الانفصام؛ ففي حين تُعدّ أمستردام موطن محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، وتعتبر نفسها أيضاً من بين أقوى المدافعين الدبلوماسيين عن حقوق الإنسان منذ الحرب العالمية الثانية، فإن سلوكها وسياستها على أرض الواقع متناقضان كلياً مع مزاعمها الإنسانية، بسبب تاريخها الأسود المكتوب بدماء الشعوب المقهورة والمظلومة.
في تسعينيات القرن الماضي، أكدت العديد من التقارير مشاركة هولندا بالإبادة الجماعية ضد السكان المسلمين البوسنيين في سربرينيتسا عام 1995.
وعلى المنوال ذاته، دعمت هولندا سياسياً وعسكرياً الغزو الأميركي للعراق من خلال إرسالها 1100 جندي، مع تجاهل التقارير الداخلية لموظفي الخدمة المدنية الرافضة للتدخل. والجدير بالذكر أن هذا التدخل، وفقاً لريتشارد أرميتاج نائب وزير الخارجية الأميركي آنذاك، ساعد أيضاً في ترشيح أمين عام هولندي للناتو عام 2003 كجائزة ترضية.
المفارقة أن روته، الذي انتخب نائباً في البرلمان قبل شهرين من احتلال العراق، كان قد أعلن دعمه للغزو عام 2003. وفي ما بعد، سرعان ما عُيّن وزيراً، ثم أضحى زعيماً لحزب السوق الحرة المحافظ (VVD) عام 2007. وبعد 3 سنوات، أي عام 2010، أصبح رئيساً للوزراء في الحكومة الهولندية الأكثر يمينية منذ عام 1945.
روته وتفويض “إسرائيل” بالإبادة الجماعية في غزة
إلى جانب ألمانيا وبريطانيا، كانت أمستردام من بين أكبر مؤيدي “إسرائيل” في أوروبا الغربية. وبعكس ما يزعمه روته، فإن تعزيز النظام القانوني الدولي لم يكن هدف الحكومة الهولندية، بقدر إظهارها الولاء للكيان الغاصب؛ فبعد انطلاق المذبحة الإسرائيلية في غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أعلن الأخير على الفور “الدعم غير المشروط لاسرائيل وحقها بالدفاع عن نفسها”، بحسب قوله.
من هنا، زار روته “إسرائيل” مرتين خلال العام الماضي للتعبير عن دعمه لها، وتواصل مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أكثر من مرة في الشهر.
وادعى أن اجتياح رفح من شأنه أن “يغير قواعد اللعبة”، والأسوأ أنه وبعد الهجوم البري الإسرائيلي على تلك المدينة صرح بأنه “لم يتم تجاوز أي خط أحمر”.
المخزي في موقف روته أنه كان لفترة طويلة غير راغب في الدعوة إلى ضبط النفس. ولهذه الغاية، لم يدعُ إلى وقف المجزرة المستمرة في غزة إلا بعدما موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على قرار يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في 25 آذار/مارس الفائت، وتأكده من امتناع الولايات المتحدة عن التصويت.
فضيحة أخرى كانت قد انتشرت قبل ذلك لروته، فقد تم في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 تسريب مذكرة داخلية من السفارة الهولندية في “إسرائيل” إلى الصحافة، تؤكد أن حكومة روته تدرك جيداً أن جيش الاحتلال الإسرائيلي “يعتزم التسبب عمداً بإحداث دمار هائل بالبنية التحتية والمراكز المدنية”. وبحسب المذكرة، فإن هذا من شأنه أن يفسر “ارتفاع عدد القتلى (الشهداء) بغزة” و”ينتهك المعاهدات الدولية وقوانين الحرب”. ومع ذلك، واصلت حكومة روته دعمها المفتوح للاحتلال.
ليس بعيداً من ذلك، وفي كانون الأول/ديسمبر 2023، صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة لمصلحة قرار يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة. آنذاك، نصح موظفو الخدمة المدنية حكومتهم بدعم القرار إلى جانب الأغلبية الساحقة من الدول الغربية الأخرى، مثل فرنسا وبلجيكا وسويسرا ودول الشمال. ومع ذلك، قبل التصويت مباشرة، تدخل روته ومعاونوه المباشرون لإلغاء توصيات وزارة الخارجية، فامتنعت هولندا بعدها عن التصويت مثل ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا.
ما زاد الطين بلة هو الكشف عن ذلك لاحقاً في رسالة أرسلتها مجموعة من كبار المسؤولين في وزارة الخارجية من دون الكشف عن هويتهم، تطالب بحظر صادرات الأسلحة إلى “إسرائيل”. وبموازاة ذلك، أعرب موظفو الخدمة المدنية عن إحباط عام من حقيقة أنه فجأة، لم يكن وزيرهم، بل روته، هو الذي حدد الخط بشأن “إسرائيل”.
وتبعاً لذلك، أدى موقف إدارة روته إلى نشوب العديد من النزاعات مع المسؤولين في وزارة الخارجية الهولندية، إذ يحاول العديد من موظفيها تحسين ظروف الشعب الفلسطيني وضمان سيادة القانون الدولي. والأنكى أن وزراءه تجاهلوا الدعوات لتجنب التواطؤ في الإبادة الجماعية، كما أن الأحزاب داخل حكومته جنّدت نفسها لمصلحة”إسرائيل”، وبالتالي أصرت على ضرورة استقالة موظفي الخدمة المدنية (الذين قاوموا الخط الحكومي المؤيد لاسرائيل).
روته والدعم العسكري المباشر لـ”إسرائيل”
تساهم هولندا بنشاط في حرب الإبادة الإسرائيلية، إذ تقوم بتصنيع العديد من الأجزاء الضرورية لبناء طائرات مقاتلة من طراز F-35 يتم شحنها بعد ذلك إلى “إسرائيل”. وقد استمرت بهذا الأمر حتى بعدما أعلنت محكمة العدل الدولية في لاهاي أن من “المعقول” أن “إسرائيل” ترتكب إبادة جماعية.
وحتى حين منعت محكمة هولندية هذه الصادرات، لم تستأنف الحكومة حكم المحكمة فحسب، بل بدأت أيضاً باستكشاف الطرق التي يمكن من خلالها تصدير أجزاء من طائرات F-35 إلى “إسرائيل” بطرق ملتوية، مثل شحنها أولاً إلى الولايات المتحدة.
روته والعدوان على اليمن
كانت هولندا الدولة الوحيدة العضو في الاتحاد الأوروبي التي انضمت إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في مهاجمة اليمن بعدما قام الجيش اليمني بمنع وعرقلة وصول السفن الإسرائيلية أو المرتبطة بالاحتلال من عبور البحر الأحمر.
في المقابل، فإن حكم محكمة العدل الدولية في قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد “إسرائيل” في لاهاي – ومقرها على مرمى حجر من مكتب روته – لم يحظَ بالقدر نفسه من الاهتمام، كما فعلت دول أخرى، إضافة إلى أن هذا القرار لم يكن له أي تأثير يذكر في نهج الحكومة الهولندية المدافع عن الكيان الغاصب.
في المحصلة، إن سمعة روته كسياسي مخادع تنطبق عليه قولاً وفعلاً، فهو على استعداد لتسخير كل جهوده لتلبية مصالح الأطراف الأقوى. ولهذا، كان خلال السنوات الماضية يتودد إلى أقصى اليمين بشكل خاص، إذ زار جيورجيا ميلوني رئيس الحكومة الإيطالية أثناء حملته السياسية الأخيرة في آذار/مارس 2023، وأثبت في وقت سابق أنه ودود بشكل لافت مع دونالد ترامب باعتباره “صديقاً مدهشاً” قادراً على ترويضه واحتوائه.
علي دربج – أستاذ جامعي.
المصدر: الميادين نت