ماذا طلب القائد إبراهيم عقيل من الأمين العام قبل استشهاده
العين برس/ مقالات
زهراء إبراهيم عقيل
عاش الشهيد القائد ابراهيم محمد عقيل حياة صاخبة مليئة بالبطولات، كان شاهداً على الكثير من التحولات وشريكاً في صناعتها، وخاض في غمارها الصعب فجعل المستحيل ممكناً، كان ممتلئا بالحركة متجلبباً بالغياب الحي، وظلاً تشكلت من خلاله أروع معاني الحضور النوراني والتسامي الإنساني، والسيرة التي لا تموت.فمن هو القائد الجهادي الكبير الشهيد إبراهيم محمد عقيل (الحاج عبد القادر/ المعروف أيضا باسم الحاج إبراهيم تحسين):
نشأته
ولد إبراهيم محمد عقيل في الرابع والعشرين من ديسمبر من العام 1962، في منطقة كورنيش المزرعة-بيروت، من أبوين متواضعين ينتميان إلى بلدة “بدنايل” التابعة لقضاء بعلبك في منطقة البقاع اللبنانية. ثم ترعرع في مكان ولادته ضمن بيئة متنوعة دينيا وثقافيا، تلقى تعليمه الابتدائي حتى الصف الثاني متوسط في مدرسة راهبات “سن الفيل”، وعند اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، انتقل الى متوسطة البسطة الرسمية للبنين وأكمل التعليم المتوسط فيها، منجزاً صفَي الثالث والرابع متوسط خلال عام دراسي واحد، وحاز على المرتبة الاولى.
أكمل تعليمه الثانوي في ثانوية بيروت العربية – زقاق البلاط. كان له حضور لافت ومميز على المستوى الأخلاقي، يتلقى التنويهات والإشادات على حسن سلوكه وانضباطه واستقامته. كما حصل في العام 1982 على شهادة في برمجة الحواسيب الإلكترونية.
تفتَّح قلب ابراهيم عقيل باكرا ومنذ نعومة أظفاره على الدين، والعلاقة بالله فواظب على حضوره في مسجد العاملية في بيروت، وكان للمسجد تأثيرا محوريا في بناء شخصيته، والشعلة التي أوقدت في قلبه وعقله شغف المعرفة واكتشاف ما يحيط به، فكان يهيئ الكتب التي يود قراءتها، منتظراً لحظة ذهابه الى المسجد والمكوث فيه للتعبّد والقراءة. وعندما يحين وقت إغلاقه، يخرج متحسراً لانقضاء الوقت بسرعة، مُوطِّنا نفسه على العودة.
كان الشهيد عقيل مُفوّها ومحاوراً لامعاً منذ صغره، كان يافعا، يخوض في نقاشات معمقّة تتناول المسائل الفلسفية المعقدة، أكان في مدرسته أو خارجها، مع طلاب أكبر منه سناً وبعضهم ممن اعتنقوا أفكاراً إلحادية، مقدِّماً الحجج والبراهين التي تثبت صحة الإسلام والدين المحمدي الأصيل، بأسلوب سلس يعجز الطرف الآخر عن الطعن بها، الأمر الذي جعل منه شخصية مؤثرة ولافتة للأنظار في محيطه ومع أصدقائه وأهله وأينما حل.
لاحظ الشهيد عقيل ميله إلى الموضوعات الفكرية والفلسفية وعلم الكلام، فعكف على قراءة الكتب التي تناولت تلك الموضوعات، مكابداً فكَّ رموزها ومصطلحاتها وتأويلاتها، متأملاً فيما تكتنزه من معانٍ دون اللجوء إلى معلم أو شارح، فكان معلم نفسه المسلَّح بالمثابرة والإرادة، الباحث عن الحقيقة، المُنَقِّب عنها بقلبه وعقله وبصيرته. لأنه وعلى حد تعبيره يقول: “الله سبحانه وتعالى كان يعلمنا إياها داخل الجامع، الجامع هو نفسه معلم”. ومن أهم الكتب التي اهتم بقراءتها، مؤلفات السيد محمد باقر الصدر، التي كان لها الأثر الكبير في بنائه الفكري والروحي. كما واهتم الشهيد بفكر الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي كان إمام مسجد العاملية آنذاك، اضافة الى تأثره الشديد بالدروس التي كان يلقيها سماحة الإمام المغيب السيد موسى الصدر أحيانا في المسجد عينه.
في تلك المرحلة، كان الشهيد مولعاً بالقيم الإنسانية والدينية، مهجوساً بقيم العزة والشرف والشهامة، شغوفاً بالتسامح والعفو، فتشكَّل سؤاله المحوري، كيف يمكننا بناء المجتمع الصالح؟ وكيف يمكننا صناعة التغيير للأحسن؟ إلى أن وصل إلى جوابه الذي لامس اليقين، إنه ذوبان الأنا في النّحن أو كما عبّر في أحد محادثاته من خلال “ذوبان الذات في المصلحة العليا.. ذوبان الذات في المجموع”، لقد كان يرى في ذلك إمكانية تحقق حرية الفرد المطلقة. ولعل أهم ما استلهمه من ارتياده للمساجد، هو المواءمة الخالصة بين الجهاد والدين الحقيقي، فالجهاد ضرورة منبثقة من كُنه الدين وماهيته، إما في سبيل ارتقاء النفس وسموها وتهذيبها، وإما في سبيل الله ذوداً عن المظلومين والمقهورين والمستضعفين، أو بمعنى آخر ذوداً عن النّحن التي تمثّل “الأنا المجتمعية أو الجامعة”. فما كان منه إلا أن غادر منزل عائلته في السادسة عشر من عمره، ملتحقاً بصفوف المجاهدين على خطوط التماس، ملبياً لنداء الواجب. ومنذ تلك المرحلة، اختار الحاج عبد القادر أن يفني حياته في العشق الالهي من خلال التوحيد العملي.
مِن هواياته
في سن الخامسة عشر، قصد ابراهيم عقيل جمعية الكشاف المسلم في بيروت مع أحد أقاربه، فأُعجب بالحركة الكشفية، كما وأعجب أيضا بالفرقة الموسيقية التابعة لها، حينها قرر الانتساب الى الكشاف المسلم، وقد أسره عالم الموسيقى، فكان العزف من أبرز هواياته، بحيث أتقن العزف على سبعة آلات موسيقية، كان في طليعتها آلة الترومبيت تليها آلة الطنبور، والبيانو، وغيرها. ولكن لم تقتصر مواهبه على الابداع في العزف فقط، انما تعدى ذلك الى تأليف بعض المقطوعات الموسيقية، وقد كان يتمتع بأذن موسيقية عالية الدقة، وكذلك بذوق رفيع في انتقاء المعزوفات التي يعزفها. انتقل بعدها بأشهرٍ قليلة الى جمعية الكشاف العاملي (كشاف العاملية)، متابعاً عمله في الحركة الكشفية إلى أن أتمَّ الشهيد سن التاسعة عشر، مع بدء الاجتياح الاسرائيلي للبنان، فصرفه ذلك عن هذا الجانب من شخصيته المرهفة إلى ميدان آخر ألا وهو الجهاد ومقارعة المحتل.
النشاط الاسلامي والجهادي
تأثر إبراهيم عقيل بشكل كبير بالحركة السياسية والدينية التي أسسها الإمام المغيّب السيد موسى الصدر. فكان من الجيل المؤسس للعمل الاسلامي في بيروت، وقد بادر مع مجموعة من رفقائه إلى إنشاء حركة تهدف إلى تغيير الحالة الثقافية والسياسية والدينية الى واقع أفضل. فكان عضواً مؤسساً وأساسياً في حركة الجهاد الاسلامي أوائل الثمانينات، قبل انضمامه الى حركة المحرومين؛ وقبل تأسيس حزب الله. وخلال التصدي للاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، قاد عقيل عمليات بطولية في الصفوف الأمامية المواجِهة.
في العام 1983، وضعته الادارة الاميركي على لائحة المطلوبين لمكتب التحقيق الفدرالي بتهمة الضلوع في تفجيري؛ السفارة الأميركية، ومقر المشاة البحرية الأميركية في بيروت.
ثم أصدرت المنظمة الدولية للشرطة الجنائية (الانتربول)، عدة إشعارات حمراء تدعو إلى اعتقاله، لتحميله مسؤولية المشاركة في التخطيط والتنفيذ لسلسلة من التفجيرات التي حصلت في باريس بين عامي 1985 1986، وايضا لإدانته في قضية اختطاف رهائن متعددة الجنسيات في بيروت.
الشهيد عقيل والقيادة العسكرية
تميز ابراهيم عقيل بتفوقه في التخطيط العسكري والاستراتيجي وحسّه الأمني، فكان من أبرز القادة العسكريين في حزب الله منذ تأسيسه. في العشرين من عمره، شارك بالقيادة، منطلقاً من قدراته الذاتية الاستثنائية، وإبداعاته المبتكرة وجامعاً بين الجانبين العسكري والروحي في توجيهاته وممارساته العملياتية. وفي مطلع التسعينات، تولى مسؤولية التدريب المركزي في حزب الله، وأرسى قواعد خلّاقة في إعداد وتطوير القدرات البشرية في تشكيلات المجاهدين.
تسلم مسؤولية الأركان في حزب الله في منتصف التسعينات، وابتداءً من العام 1997، صار مسؤولاً عن وحدة عمليات جبل عامل، وقاد ميدانياً وبشكلٍ مباشر العديد من العمليات النوعية.
كيف نجا عقيل من الاغتيالات؟
تعرض ابراهيم عقيل لعدد من محاولات اغتيال نجا منها، وجابه في بعض المراحل إصابات بليغة، ولكنه ما انكفأ عن رسالته، بل زاده ذلك إصراراً وعزيمة.
في الرابع من فبراير من العام 2000، اي قبل تحرير جنوب لبنان بأشهر قليلة، حاول العدو الاسرائيلي اغتيال عقيل بإطلاق صواريخ أيه جي إم-114 هيلفاير عبر مروحيات أباتشي AH-64 على سيارته التي كان يقودها في جنوب لبنان، لكنه تمكن من القفز منها، وبذلك فشلت عملية الاغتيال رغم استهدافه بصاروخ آخر بعد قفزه. وقد صرَّح رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية مؤخرا، بأن عقيل قد نجا من عملية اغتيال أخرى، ولكنه لم يذكر تفاصيلها.
خلال حرب تموز 2006، كان من القادة الذين تولوا مهام التصدي للعدوان الاسرائيلي على عدة أصعدة. الى جانب ذلك، كان عضواً في المجلس الجهادي لحزب الله، وابتداءً من العام 2008، شغل موقع معاون الأمين العام -السيد حسن نصر الله- لشؤون العمليّات.
أسس الشهيد القائد عقيل ركن العمليّات في المقاومة الإسلاميّة، كما وأسس أيضا قوة الرضوان، وتولى قيادتها، وهي القوة النخبوية التي تشكلت على أسس عقائدية وإيمانية قوية، إضافة إلى تدريبها العالي في المهارات القتالية، وقد طوَّرها بشكل مباشر، لتصبح قوة متميزة في صفوف المقاومة.
عقيل مؤسس قوة الرضوان
إيماناً منه بأن صناعة المستقبل لا تقوم إلا بسواعد المثابرين، الذين يتحلّون بالإرادات والعزائم الصلبة، وبأن بلوغ المرام لا يكون إلا بركوب الصعاب وبالمكابدة والسعي الحثيث المسدد من الله سبحانه وتعالى، كان لا بدّ له من إعمال عقله في تسويغ هذا الإيمان واقعا، مستلهماً من خلاصات التجارب التاريخية ومن مسيرة آل البيت عليهم السلام، للوصول إلى ما ينسجم مع تطلعاته، التي تصب في بناء جيلٍ مهدوي يهيئ ويمهد لدولة الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف، غير آبهٍ بالعثرات وما يمكن أن يعترضه، فما كان لله ينمو.
لطالما كانت فكرة أن الإنسان خليفة الله على الأرض تؤرّقه، فكان دائم التساؤل، كيف يمكن لهذا الإنسان الذي اختصه الله بهذه الأمانة الثقيلة أن يكون جديراً بحملها إذا لم يقدم في سبيلها أسمى ما يملك، وإذا لم يسعَ في إثبات جدارته بحملها، فهذه الخلافة هي خلافة الله بما تحمل من رهبة ومسؤولية. لقد آمن الحاج ابراهيم بان الله سبحانه وتعالى يهيئ الفرص للإنسان منذ ولادته، وعلى طول مسيرته، لكي يرقى الى رتبة الخلافة تلك، لكن بإرادته وعزمه وهمته هو. يفتح أمامه أبواب العروج والقرب إليه ويترك له خيار المبادرة والقرار المحفوف بمخاطر الانزلاق إلى الدنيا ومتعلقاتها، فإما الصعود والارتقاء وإما الهبوط والغرق في متاهات الملذات ومغرياتها وعبثيتها.
لقد رأى الحاج ابراهيم بأن تحقيق ذلك يكون من خلال السعي والتمهيد لدولة الظهور، في سبيل اكتمال ظروف عودة صاحب العصر والزمان، ولان هذا الاكتمال مرتبط بالإنسان الفرد بالدرجة الاولى، وبالجماعة بالدرجة الثانية، ولان تحقيق دولة العدل مرتبط بتوفر النخب التقية التي بإمكانها تمثيل الدين الصحيح كما يجب. فقد حمَّل الحاج نفسه مسؤولية العمل على هذا الامر، متعاملاً مع مسألة تهيئة ظروف الظهور كفرضٍ واجبٍ متعيِّنٍ عليه لتحقيق الهدف المنشود.
أدرك الحاج أن ذلك يقتضي بناء قوة استثنائية يجتمع فيها قطبين رئيسيين، القوة الروحية والإيمانية العالية والقدرة القتالية النخبوية، ولم يغفل أن دون ذلك جهد وسهر وتعب، فما كان منه إلا أن ثابر وراكم الجهد والعمل المضني لتحقيق هذه الغاية، إلى أن وصل إلى أكثر مما كان يصبو إليه، مسدداً من الله تعالى. ونقلاً عن لسانه: ” إن مجموعة من الافراد تكفي لتغيير أمة، مثلا الامام الخميني، قيصر، نابليون، وغيرهم”، هؤلاء بغض النظر إذا كنا نتّفق مع أداء بعضهم أو لا، كانوا من الذين اجترحوا مسارات جديدة وصنعوا منعطفات تاريخية بالاستناد الى الهمة الخاصة الموجودة في أنفسهم.
انطلاقا مما سبق ذكره، ولأجل تلك الغاية، أسس الحاج عبد القادر، قوة الرضوان لتجمع بين الجهادين الاصغر والاكبر، لقد اراد لها أن تكون الفئة الممهدة للظهور والتي ستقاتل تحت راية الامام الحجة. وفي سبيل ذلك وهب الحاج عبد القادر سنيّ عمره الاخيرة، للوصول إلى هذه الثلة التي تمثّل المصداق الحقيقي والمتكامل للإسلام الرسالي.
لا عجب ان الحاج كان يعامل عناصر قوة الرضوان بأبوة مطلقة، ومما يثبت ذلك، ما حصل بعد تلقي المجاهدين خبر استشهاده، حيث كان الاخوان جميعا يرددون العبارة ذاتها: “اسْتَشْهَد بَيْنَا الحنون”.
استنادا الى كلام عدد من الاخوة المجاهدين الذين كانوا مرتبطين بالعمل معه: “دائماً ما كان يقول لنا: أراكم أكثر من أولادي”، وأردف أحدهم: “هذه العبارة الوجيزة إنما تعكس مدى حقيقة العلاقة الأبوية مع القائد الاب، وتكفي لاختصار مدى الاهتمام والحرص البالغ لرجل حَمَل مشروعاً طَمُوحاً يحاكي حُلم الأمة الذي راودها طوال ٧٦عاماً. نعم، هو العقل المدبر ومؤسس المشروع الحقيقي الأول من نوعه في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي لتحرير الجليل وفلسطين”.
وأضاف: “هكذا كان معنا يحرص مع فارق المستوى الرُتْبي بيننا وبينه، على أن يستمع ويصغي إلى كل واحد منا ويعتني بأدق التفاصيل ويجيب حتى عن أبسط الأسئلة في جلسات تمتد إلى ساعات، ولا أعتقد أن هذا الاهتمام والتفاني الذي كان يبذله من روحه وعمره وفكره كان لمجرد بناء قوة خاصة وحَسْب، وإنما الغرض الذي كان يرمي إليه هو أن يصنع من هذه القوة رجالاً ربانيين رساليين ستقع على عاتقهم قيادة مسيرة التحولات الكبرى إلى عالم جديد”.
يضيف: “نعم، هكذا كان يزرع بذور القيادة ويغرس فينا الإيمان بالذات، وجذور من الثقة بأننا نستطيع، وكان يردده على مسامعنا:” إني أقوم بهذا الدور اليوم بتأدية هذه الرسالة، وبعدها أنتم من سيحمل الراية ويُكمل الطريق”.
تحرير الجليل
من المسائل التي لا بد من التطرق لها، ان الحاج منذ تأسيسه لوحدة الرضوان، عزم على تحرير الجليل في شمال فلسطين المحتلة، ووضع الركائز الأساسية لخطة السيطرة عليها. كانت قضية اقتحام الجليل تنعكس في عمله ضمن المسار القتالي لقوة الرضوان، محدداً الخطط العسكرية، ومعداً للسيناريوهات المحتملة، وراسماً معالم طريق التحرير، متيقناً من امكانية تحقيق ذلك، بانتظار الامر من سماحة الأمين العام الشهيد السيد حسن نصر الله لتنفيذها.
الحرب السورية
خلال الحرب السورية التي اندلعت عام 2011، أدى الحاج عبد القادر دوراً حيوياً في مواجهة التنظيمات الإرهابية، فكان من القادة الذين تولوا إدارة العمليات ضد الجماعات التكفيرية في كافة المناطق السورية، لا سيما في منطقتي القصير والقلمون.
وقد رأى الحاج الشهيد، أن أبرز الاسباب الجوهرية لاندلاع الأزمة السورية، هي بالعمق أزمة هوية ذاتية تاريخية، وقد فصّل في تشخيص الأزمة ومنطلقاتها ومآلاتها وكيفية معالجتها والخروج منها، وأرجَعَ الحاج عبد القادر سبب فشل الحركات “الاسلاموية” في انجاز أهدافها خلال الازمة السورية، الى ممارساتها وتطبيقاتها التي لا تمت الى الاسلام الصحيح بأي صلة، جراء تقديمها صورة مشوهة عن الاسلام الحقيقي، بتبنيها ايديولوجيا تكفيرية متطرفة، مما أدى الى تدميرها ذاتيا بعد ان اثبتت إفلاسها الفكري.
الحاج عبد القادر على قائمة الارهاب
في إطار جهودها المزعومة لمكافحة الارهاب، صنفت وزارة الخزانة الاميركية في العام 2015 الحاج ابراهيم عقيل كإرهابي، وأدرجت اسمه على لائحة الارهاب بسبب ارتباطه بحزب الله، واتهمته بالضلوع في التفجيرات التي تحدثنا عنها آنفا. خلال عام 2019، صنفته وزارة الخارجية الاميركية على أنه إرهابي عالمي، ووضعته على رأس قائمة المطلوبين، مخصصة مكافأة مالية تصل الى سبعة ملايين دولار مقابل الحصول على معلومات تدل عليه.
حماسة الحاج عقيل لجبهة الاسناد
بعد إطلاق المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عملية طوفان الاقصى على مستوطنات غلاف غزة في السابع من أكتوبر 2023، انخرط حزب الله في المعركة تحت عنوان اسناد غزة، انطلاقاً من الواجب الديني والانساني المتجسد في مبدأ وحدة الساحات، وايماناً منه بحق الشعوب المظلومة والمحتلة في الدفاع عن أراضيها واسترجاع حقوقها المسلوبة، والذي تجيزه وتشرّعه كافة الشرائع والدساتير والمواثيق الدولية، وقد أوكلت مهمة الدفاع إلى القائد عقيل في شؤون عدة، منها التخطيط والاشراف على قيادة العمليات العسكرية لقوة الرضوان في جبهة الاسناد، منذ بداية معركة طوفان الاقصى، حتى لحظة عروجه.
وفي هذا السياق، نُقل عن أحد المجاهدين، بانه بعد بدء المجازر في غزة، كان الحاج في اجتماع يضم سماحة الأمين العام الشهيد السيد حسن نصر الله إلى جانب عدد من الاخوة القادة، توجه فيه سماحته بسؤالٍ حول مدى جهوزيتهم للدخول في اسناد غزة، فما كان من الحاج عبد القادر إلا أن بادر بشغف وسعادة واطمئنان بالإعلان عن استعداده وجهوزيته، وبأن رجال الرضوان على أهبة الشوق للشروع بهذه المهمة الشريفة، انطلاقاً من الواجب الشرعي، والتزاماً منا بالتكليف الذي يقودنا إلى النصر المؤزر ان شاء الله، لأننا على الطريق الصحيح. وذلك ليس بغريب على الحاج عبد القادر إذ كانت القضية الفلسطينية في عمق وجدانه، ومسألة تحرير القدس الغاية الاولى التي يعمل من أجلها. لا سيما بعد مشاهدة المجازر التي يقوم بها العدو الاسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني.
كان الحاج عبد القادر يرى بأنه من الطبيعي تلاحم جبهة جنوب لبنان مع جبهة فلسطين في مواجهة العدو المجرم، لأن عملية طوفان الأقصى تقع في صميم معركة حزب الله مع ذلك العدو. وحول خوف البعض من نتائج المعركة من خلال بعض الانتكاسات التي حصلت، كان جواب الحاج حاسماً ويقينياً بأن ما قد يتصوره البعض خسارة، هو بالعمق ربح، لأننا من خلال النتائج المترتبة مهما كانت هذه النتائج، فإننا نكتسب رشداً وخبرة، حتى وإن ارتقى عدد كبير من الشهداء القادة والمجاهدين، فهو أمر لا يُضعفنا اطلاقا، لأننا على ثقة بأننا منتصرين حتى وإن استُشهِدنا جميعا.
شهادة الحاج عقيل
إثر ضربات حزب الله الموجعة للعدو الإسرائيلي، والتي كبّدته خسائر فادحة، وكشفت عن بعض من الخبرات النوعية التي تمتلكها المقاومة، وعلى رأسها قوة الرضوان، بدأ الكيان الاسرائيلي بشن غارات تستهدف أعمالاً عسكرية تابعة لحزب الله في لبنان، وأيضا تستهدف عددا من قيادييه. وفي يوم الجمعة الواقع في العشرين من أيلول/ سبتمبر 2024، نفَّذ العدو الاسرائيلي غارة دقيقة في الضاحية الجنوبية بعدة صوايخ، أُطلِقت من طائرة مقاتلة من طراز”إف 35″، على مقر تابعٍ لحزب الله، في الضاحية الجنوبية لبيروت استشهد على إثرها الحاج ابراهيم عقيل مع ثلة من رفاقه الذين تواجدوا معه.
وسرعان ما أعلن الاعلام العبري عبر المتحدث باسم الجيش الاسرائيلي “دانيال هاغاري” عن استهداف الرجل الثاني في حزب الله، مسؤول شعبة العمليات والقائد الفعلي لقوة الرضوان، ذاكرًا بأن عقيل كان مسؤولاً عن عمليات حزب الله المضادة للدبابات والمتفجرات والدفاع الجوي، وأيضا أنه خطط للعديد من الهجمات، بما في ذلك هجوم موقع أفيفيم عام 2019، وتفجير مفترق مجدو عام 2023، إضافة الى محاولات التسلل إلى إسرائيل. ومضيفاً ان عقيل والقادة الذين قضوا معه، كانوا من المخططين لعملية السيطرة على الجليل الأعلى شمال الاراضي المحتلة في فلسطين مُستقبلا، كما فعلت حماس في السابع من أكتوبر.
زفّت المقاومة الإسلامية في لبنان، القائد الجهادي الكبير إبراهيم عقيل -الحاج عبد القادر- “شهيداً على طريق القدس”، مخلفاً وراءه تاريخاً حافلاً من النضال والإبداع في المناورة والتخطيط والعمل المضني في سبيل تحقيق الأهداف والغايات التي آمن بها. استشهد ابراهيم عقيل، لكن إرثه في محور المقاومة سيبقى قائما، فهو من ترك بصمة لا تُمحى في تاريخ الصراع ضد الاحتلال الإسرائيلي، وضد الجماعات التكفيرية. وهو من آمن بأن المقاومة لا تقتصر على امتلاك السلاح، بل هي عقيدة روحية راسخة تستمد قوتها من الثقة بالله عز وعلا.
التوحيد العملي
لم ينظر الحاج عبد القادر يوما الى العدو بناء على تفوقه التكنولوجي، وبناء على انجازاته التكتيكية التي يعتّد بها، بل نظر اليه على انه عدو ظالم، ومن مقتضيات العدل الالهي ان الظالم مهزوم. أما المقاومة، فهي تستند الى نصرة المظلوم، فالأصح عدم التركيز على ما يسميه البعض بالخسائر المادية، وعدم الخوف من جراء ارتقاء عدد كبير من الشهداء، بل ينبغي التنبه دائماً اننا على حق، وأننا مع الله سبحانه وتعالى، وحتما إن الله معنا لأننا معه. صفقتنا مع الله هي الرابحة، وسننال حتما احدى الحسنيين، إما الظفر او الشهادة.
الاستنارة
دائما ما استند الحاج في كل مناحي الحياة، لا سيما الجهادية منها، على كلام القرآن كموجِّه في مسار سيرِه وسلوكه، ورأى بان كل انتصارات المقاومة تعود الى ما تم بناؤه منذ العام 1982 عندما كانوا مجموعة صغيرة تؤمن بالتغيير، وتؤمن بالله، وتثق بان الفئة القليلة المستندة على الله والواثقة بإيمانها الراسخ به، هي المنتصرة والمؤيَّدَة. بالتالي لا بد من ان تنجح بالامتحان الالهي، ومن لوازم هذا الامتحان ان يكون صعباً لكي تَظهَر حقيقة الانسان، ومن أُسسها حيازة ملكة الصبر بكل أبعاده ومعانيه، اذ ان مفهوم الصبر الوارد في القرآن لا يُقصَد به الصبر العادي، بل هو مقترن بإيمان العباد، وبتوصية بعضهم البعض على اداء التكليف والالتزام بأمر الله. وعندما يتحقق ذلك، يصبح المقاتل الواحد بعشرة مقاتلين، فالنخبة من الفئة المجاهدة هي من تفنى بحقيقة القرآن.
لا بد، والحال هذه، ان تمتلئ نفس الحاج ابراهيم بالاطمئنان والسكينة الخالصين، فهو يؤمن، وهذا يبرر اعتقاده بأن ميزان القوى المتفاوت ليس من يحدد القوة، لان القوة لا تقاس بالأبعاد المادية بل تأتي من قوة الايمان الداخلي على أشكال شتى، لعل ابرزها يُتَرجَم بالتوحيد العملي، في خشية الله سبحانه تعالى، ولا احد سواه. ومنشأ ذلك يكون بالعلاقة المتينة بالله والثقة بقدرته اللامتناهية، كان الحاج واثقا بأن من يصل الى هذه المرحلة من الرضا والتسليم، هو مؤيد من الله بجنود السماوات والارض.
اليقين بالشهادة
وحري بالذكر، أن الحاج عقيل كان عندما يتلقى خبر استشهاد أحد من الأخوة أو المجاهدين، يشعر بالأسى العميق في نفسه، وبأن قلبه يكاد يخرج من صدره لشدة تألمه. لكنه ايضا كان مسترشداً بآيات القرآن، فتراه شديد الصبر عند المصائب، كثير الايمان والثقة بقضاء الله. كان يؤمن بأن الشهداء لن يخرجوا من الميدان، بل سيلتحقون بركب المجاهدين ليقاتلوا معهم في معركة التحرير الكبرى للجليل أولا، ولفلسطين ثانيا.
وبعد، انتظر الحاج موعده مع الشهادة طويلا، متلهفا لها بشغف وشوق، فبعد نجاته من محاولات اغتيال عدة، ضاق صدره من هذه الدنيا، وغدت روحه على أهبة الشوق إلى الوصل ومقام القرب الإلهي. في الاشهر التي سبقت استشهاده كان لافتاً تطرقه الدائم إلى اللقاء في العالم الآخر، فعندما كان يعرب أحدهم عن الرغبة بالاجتماع به خارج إطار العمل، كان يجيبه: “ما في وقت، ان شاء الله في ذاك العالم الوقت أكتر بكتير”. دائماً ما كان يستشعر من يلتقيه بأنه شهيد مع وقف التنفيذ، إذ نور الشهادة كان واضحا على مُحياه، ربما كان ذلك إشارة إلى اقتراب موعد استشهاده، لا سيما الأمين العام الشهيد السيد حسن نصر الله، بحيث سأله في إحدى اللقاءات الأخيرة حول النور الذي في وجهه قائلا: “لعلك تريد أن تترك أخاك أبو هادي لوحده”.
أمنية الحاج عقيل
بعد استشهاد القائد فؤاد شكر (الحاج محسن) وفي لقاء جمعه مع الأمين العام تمنى على سماحته ان لا يتحدث عن مناقبه عند استشهاده، وطلب بدل ذلك ان يزيد عدد قوة الرضوان 200 مقاتل. وشاءت الإرادة الإلهية ان تتحقق رغبة الشهيد عقيل حيث استشهد الأمين العام ولم يسمح له الوقت بالحديث عن الحاج عقيل كما جرت العادة عند استشهاد قياديين جهاديين بمستوى عقيل.
الزهد في الدنيا
والحال ان الحاج ابراهيم كان عفيفاً زاهداً في الدنيا بكل ما فيها، لم يرض يوماً بأن يمتلك اي مقتنى مادي. بلغ مبلغاً من التواضع يصعب تصديقه، وكان يتأسى بظروف المجاهدين المادية، الى حد اعتبار نفسه كواحد منهم، وقد ذكر في أكثر من لقاء، بأنه يخجل من المجاهدين اذا كان النمط المادي لمعيشته مختلفا عنهم، ووصف نفسه بالـ “طاغوتي” إن كان افضل حالا منهم. اضافة الى ذلك، كان الشهيد يعامل جميع الناس على اختلاف اطيافهم واعمارهم ومعتقداتهم بالطريقة نفسها، ولم يقبل يوما بأن يعامله أي أحد على أنه، اي الحاج، أعلى منه مكانة، كانت معاملاته مع الجميع لله وفي الله فقط.
لا غرابة، من ثم، أن الشهيد لم يتذوق طعم الراحة في حياته، ايمانا منه بان “الوقت هو رأس المال الحقيقي للإنسان”، أفنى روحه وجسده في العمل ليلا ونهارا، وعلى مدار خمس وثلاثين عاماً من الجهاد المتواصل، ولم يرمش له جفن، ولم ترجفه راجفة، ولم تثنه عن هدفه الملمات ولا الصعاب، كان يكفيه من النوم ساعتين أو ثلاثة حتى يتمكن من استثمار وقته الى أقصى حدود ممكنة، منكبّاً على عمله وأداء التكليف المنوط به الى ما بعد منتصف الليل حيث يتفرغ بعدها للعبادة، آنسا مغمورا بالغبطة والسكينة.
القيادة الروحية
كان الشهيد ابراهيم عقيل مُلهِماً لجيل الشباب المقاوم من حيث تمتعه بزخم عرفاني وفكري ومعنوي، لم يتوان عن نشره بين الاخوان في كل فرصة تسنح له، لا سيما في الجلسات المختصة بشؤون سياسية او عسكرية. فدائما ما افتتح خطاباته بتلاوة آيات من كتاب الله، ولطالما ربط الجهاد العسكري بجهاد النفس المستمد من العلاقة السامية بالله، إذ كان معروفًا بتوجهاته الروحية والعرفانية. كما كان على علاقة وثيقة بالعديد من العلماء العرفاء، من أبرزهم الشيخ محمد شجاعي والشيخ محمد تقي بهجت.
وبعد، كان يسعى الى الكمال المطلق، والتزم بالعبادات الواجبة والمستَحَبَّة بشدة منذ صغره، بحيث لم يسمح لأي ثانية في حياته أن تذهب سدىً. أدى مناسك الحج في العام 1986، أي في الرابعة والعشرين من عمره. كما اشتُهِر الحاج عبد القادر بكثرة صلاته وسجوده وتسبيحاته بين المقرَّبين منه، كان يقول بانه يشعر خلال تأديته للصلاة بـ”أشد درجات الوصال”. كما كانت قراءة القرآن تُجَسّدُ بالنسبة إليه روعة الأُنس بالمحفل الالهي، لا يقوى على وصفه من شدة روعته، بحسب تعبيره. كان قد خصص برنامجاً عبادياً والتزم به حتى في أوج انشغاله العسكري. وعلى الرغم من ذلك كان كثير الشعور بالتقصير في بلوغ الكمال.
لا بد من الاشارة أيضا، الى ان الشهيد القائد وبسبب ذوبانه في الله وبحثه الدائم عن آثاره وألطافه في الوجود، وصفه أحد إخوانه المجاهدين الجرحى، بأنه “فيلسوف متأله”، فقد كان فكره فلسفياً عرفانيا، إذ كثيراً ما كرر الحديث عن الجذبة القهرية داخل الفطرة العشقية الموجودة في كل انسان، والتي تجذبه بشكل قهري باتجاه الأكمل، أما الشقاء والسخط الذي يصيب الانسان؛ انما تعود اسبابه بالعمق الى إخفاقه باتخاذ الخيار الافضل.
العلاقة بالأمين العام الشهيد السيد حسن نصر الله (قدس سره)
كان الحاج ابراهيم على علاقة روحية عميقة ووثيقة بسماحة الأمين العام الشهيد السيد حسن نصرالله (قدس سره الشريف) منذ بدايات العمل الجهادي في أوائل الثمانينات، وقد روى لنا احد أصدقاء الحاج أنه كان يرى في سماحة السيد شخصية استثنائية يمكنها صناعة التحولات رغم أنه كان الأصغر سناً في المجموعة التي لم تكن حينها منتظمة على شكل مراتب ومواقع قيادية، لا بل كان يعوّل عليه في حمل أمانة العمل الجهادي للوصول إلى غاياته القصوى وسط اندهاش البعض من ذلك، وهذا ان دل على شيء فإنه يدل على ثقته وإيمانه ويقينه بهذه الشخصية الاستثنائية التي قلّ نظيرها، وقلما جاد علينا الزمان بمثلها.
لطالما نظر الحاج إبراهيم الى السيد نصر الله على انه الصادق، الحكيم، الرحوم على بيئته، الشديد على عدوه، كان الحاج شغوفاً بمنهجيته وبلاغته وبراعته في كافة المجالات. وعلى الرغم من تلك العلاقة الخاصة التي جمعت بينهما على المستوى الشخصي، الا انه لم يعتدّ يوما بها، بل كان مأخوذاً بهيبته ووقاره، فكلما ازداد منه قربا، ازداد احتراماً وتقديراً وتعلقاً به. كما ازداد حرصه على الالتزام بكل المهمات الصادرة عنه، وكان يوصي جميع الأخوة دائماً بذلك الالتزام الذي ألزم به نفسه.
الارتباط العائلي
تزوج إبراهيم عقيل في سن التاسعة عشر من عمره، لم يكن لديه متسعاً كافياً من الوقت ليقضيه مع عائلته بسبب كثرة انشغالاته. ومتى اجتمع بها، كانت متابعاته على الهاتف تستحوذ على معظم وقته. ومع ذلك، فقد كان الوقت الخاص الذي يمنحه لعائلته وقتا ثميناً جداً، ومليئاً بالحب، والحنان، والتوجيه.
ففي الأوقات التي كان يتواجد فيها في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، كان يكّرس نفسه لجلسة اسبوعية في موعد محدد مع بناته، تحت عنوان “الدرس الاسبوعي”، ليقدم فيها لهن دروسًا تعالج مسائل ثقافية ودينية وفلسفية وعرفانية وغيرها من مسائل تتناول: الانسان، الرحمة المطلقة، السير والسلوك، علل الاشياء، مسار العقل البشري التطوري، الارضية الابستمولوجية لكل عصر، أحدث النظريات العلمية الفيزيائية، القدرات والقابليات المختزنة داخل كل انسان، الحقيقة الانسانية المطلقة، تشكُّل الأنا، شرح لآيات قرآنية، وعن الكثير الكثير مما لا يتسع المقال لذكره.
أما الدرس الاخير لهن، فقد تزامن مع ذكرى المولد النبوي الشريف، وقد ألقى فيه محاضرة تتناول شخصية خاتم النبيين محمد ﷺ، تطرق فيها الى ان هذه المناسبة تفتح لنا الفرصة لكي نتأسى بالنبي، الذي كان يمتلك نفس القدرات البشرية التي نمتلكها، لكنه ﷺ لم ينصرف قيد لحظة عن التوجه الى معدن الكمال، خشية من نار البُعد عن الحبيب الحقيقي، لا خشية من نار المعصية. وقد تناول الشهيد العارف علاقة النبي بالله عز وجل بطريقة خلاّقة تدعونا لاستحضار بعض الحقائق التي جعلت النبي محمد (ص) حبيب الله.
انقطع الشهيد بعدها عن تلك الجلسات بسبب انشغاله في جبهة اسناد قطاع غزة. وقد عبَّر في أكثر من مورد، بان الوقت الذي يقضيه مع بناته في تلك الجلسات لا يقدّر بثمن، فعلاقته بكل ابنة منهن، لم تقتصر على الأبوة، بل بلغت حد الصداقة والأخوة. ولا يفوتنا الاشارة الى العلاقة الوثيقة التي كانت تربط الشهيد بوالديه، حيث كان ابناً باراً بكل معنى الكلمة، وعلى وجه الخصوص علاقته الاستثنائية بوالدته، فمن شدة تعلقه بها، حرص على زيارتها بشكل دائم على الرغم من الظروف الأمنية الصعبة المحيطة به. وقد كان لخبر وفاتها وقعاً مأساوياً جسيماً في نفسه عندما كان في الرابع والاربعين من عمره، وبقي يتحدث عنها في معظم المجالس العائلية حتى آخر ايامه.
عاش الشهيد ابراهيم محمد عقيل حياة حافلة بالعبادة والجهاد، لم يتردد يوماً عن السعي الى التغيير للأفضل. آمن بالقيم العليا وعمل جاهداً على تحقيقها. لم يُضِعِ الشهيد اي فرصة تُقَرِّبُه من الله عز وجل، كان حبه لأي شيء حباً طولياً في الله فقط، وكان يلتمس في كل شيء آية من آيات الله.
في العشرين من أيلول لعام ألفين وأربعة وعشرين ترجّل الشهيد ابراهيم عقيل عن صهوة عمره الذي ناهز السنتين بعد الستين من النضال المتواصل والحياة الزاخرة بالجهاد والعطاء والعشق الإلهي، ليترك لنا خلاصات وتجارب يكفي التزوّد بها ضمان استمرار المسيرة حتى بلوغ النصر والظفر بالوعد الإلهي، رحل جسداً لكنه بقي روحاً تطوف فوق كل إنجاز حققه، ويداً تربت على أكتاف المقاومين البواسل في ميادين القتال، مات الحضور المادي من الحاج ابراهيم عقيل لكن حضوره المعنوي عصيُّ على الموت والزوال.
المصدر: موقع الخنادق